الملك تشارلز الثالث يمسك بمصير الملكية في أعرق الديمقراطيات

آخر ملوك العرش البريطاني أم مجدّد لعودته إلى عالم السياسة.
الأحد 2022/09/11
ملك مختلف

كان على العالم أن ينتظر ما الذي سيقوله ملك بريطانيا الجديد تشارلز الثالث في أول خطاب رسمي يلقيه للأمة، قبل أن يسارع إلى تنميط شخصيته واعتبارها متلعثمة ضعيفة، كما فعلت وكالات الأنباء. والواقع أن الملك تشارلز الثالث الذي عايشناه منذ أن كنا نتناقل شريط فيديو حفل زفافه الأسطوري من الأميرة ديانا سبنسر، كان يتصرف كملك بجدارة، بكل ما في تلك الكلمة من المعاني الدرامية.

من نظر إلى الأمير الذي أصبح ولياً للعهد وهو ما يزال طفلاً، دون إرادة منه، بعد أن توفي جدّه جورج السادس الذي صار ملكاً أيضاً دون إرادة هو الآخر، خلفاً لشقيقه الملك المتنحي إدوارد الثامن، سيجده ما يزال ذلك الفتى الذي يستلهم هيئة الأمير ليس فقط من تراث طويل للعرش البريطاني، بل أيضاً مما ركّب به المؤرخون والأدباء عالم البطولات التي خاضها أبطال هذه الأسرة في الماضي، ولكن أبرز مصادر وينابيع الملك تشارلز الثالث كانت والدته الملكة إليزابيث الثانية، فهي الصخرة التي منعت سيل انهيار الملكية في بلادها رغم انحسار إمبراطوريتها التي لم تكن تغيب عنها الشمس.

خطاب ملك

◙ الملك تشارلز الثالث حين يقول إنه لا يمانع من انفصال أي إقليم عن التاج فهذا تدخل مباشر في السياسة، وحين يعارض قرارات الحكومة حول اللاجئين فهذا تدخل آخر، لن يعامل بمثل ما عوملت به بقية أخبار الأسرة المالكة

عاد الملك تشارلز الثالث إلى قصر باكنغهام في لندن، وذهب إلى إحدى غرف القصر، كما كان جدّه الراحل يفعل، وهو يعدّ الكلمات التي سوف يضطر إلى قراءتها بلسان معقود، سوف يصبح ارتباكه وتأتأته لاحقاً مدرسة في إلقاء الخطابات سار عليها الملوك، ترك تحضيرات مراسم حفل تأبين والدته في كاتدرائية القديس بولس بحضور رئيسة الوزراء ليز تراس، وبدأ بمخاطبة الأمة.

لم يبتعد عن الحقيقة حين قال إن والدته كانت “مصدر إلهام لي ولجميع أفراد العائلة، وملكة خدمت شعوب العديد من الدول”، على الرغم من كل ما تم تصويره من صراع إرادات بين الأمير الذي كانه والملكة التي تتحكم به، وبدلاً من أن ينقلب على سطوتها ويتخلّص أخيراً من قيدها، أعلن أنه سيسير على خطاها، وسيخدم جميع البريطانيين والناس باختلاف مشاربهم الثقافية أو الدينية بكل “إخلاص واحترام ومحبة”.

قال الملك تشارلز الثالث “على مدى 70 عاما الماضية، رأينا أن مجتمعنا أصبح متعدد الثقافات والأديان”، ومن يعرف حساسية موقع الملك في الهرم الاجتماعي البريطاني سيدرك أهمية إشارته وهو رأس الكنيسة إلى التغير الذي طرأ على هذا الصعيد، وتحديداً في الفترة التي حددها والتي هي عهد أمه الملكة الراحلة.

لماذا يستغرب البعض انفتاح الملك تشارلز الثالث على الثقافات الأخرى، وهو الذي درس الأركيولوجيا والأنثروبولوجيا والتاريخ في جامعة كامبريدج، وكان أول أفراد الأسرة الحاكمة الذي يحصل على شهادة جامعية مرموقة. الملك المثقف الذي رفض قرار الحكومة البريطانية ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا، معتبراً إياه خطأ غير إنساني ولا يتناسب مع القيم البريطانية.

◙ الملك المثقف الذي رفض قرار الحكومة البريطانية ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا

معرفته التي ورثها عن جدته الملكة فيكتوريا، الملقبة بأم أوروبا، والتي كانت قريبة جداً من الإسلام، لا بفضل قربها من خادمها ومستشارها الهندي المسلم عبدالكريم في الأعوام الأخيرة من حياتها، وفقاً للوثائق التي نشرتها “الإندبندنت” وما كشفه المؤرخون والسينما لاحقاً، إنما أيضاً لكونها سلطانة الهند والمستعمرات مترامية الأطراف التي ضمّت في ما ضمّته عشرات الملايين من المسلمين، وعلى نهجها سار الملك تشارلز الثالث حين تعلّم اللغة العربية ووطد علاقته مع المسلمين في بريطانيا وحول العالم، وباتت تصريحاته عن الإسلام تثير الجدل في كل مرّة يطلقها، كما حين قال إن “العالم الإسلامي هو القيِّم على واحد من أعظم كنوز الحكمة والمعرفة الروحية المتراكمة المتاحة للبشرية”، أو عندما تحدث عن المتغيرات المناخية فربطها بالإسلام وتعاليمه، قائلاً “لطالما علّم الإسلام هذا، وتجاهُل هذا الدرس يعني التقصير في عَقدنا مع الخالق”.

كثيرون شكّلوا شخصية الملك تشارلز الثالث، مقربون منه، وخصوم له، ولعب والده الأمير اللفتنانت فيليب مونتباتن الذي لم يتمتع بلقب “الملك” الدور الأبرز في صقل شخصيته، بالمزيد من القسوة في التربية، على النقيض مما قد يتخيل من يرون في الوالد من تمرّد وانفلات وفي قرينته الملك من انضباط وصرامة. 

جلب الوالد للملك تشارلز الثالث ما كان ينقصه، فهو فارس بلا جواد، في زمن أخذت تتآكل فيه صلاحيات الأمراء والملوك، ولم يتبق لورثة العروش سوى الاهتمام بتزويد أنفسهم بترسانة من المعارف والتقاليد، سيكون عليها أن تكون جدار القلعة الأخير أمام انهيار الملكية الظاهرة التي كان القرن العشرون قد بدأ يشهدها بشكل جارف، لولا عناد وصمود بعض العروش القليلة حول العالم، وعلى رأسها العرش البريطاني.

وكي يصبح الملك ملكاً لجميع مواطنيه، عليه أن يتحوّل إلى رأس لكل العقائد، لا للبروتستانتية وحدها، مسار كان صعباً للغاية على كيان تتركّز فيه كل السلطات بمعانيها الرمزية والوطنية، وحتى الاستعمارية، لكن الملكة الراحلة قطعته بالكثير من الصبر والعناد والتمسك بالتقاليد الملكية التي لولاها لانفرط عقدها منذ زمن بعيد. 

ملكية تحت تهديد الانهيار

وبينما يتهم الملك تشارلز الثالث بأنه متمرّد، تكال إلى والدته المدائح لتشبّثها بالتقاليد، والواقع أن أول من كسر تلك الأسس كانت الملكة إليزابيث الثانية بزواجها من خارج الأسرة بل من خارج بريطانيا، حين ارتبطت بأمير يوناني انهار عرش أجداده في أثينا.

◙ أبرز مصادر وينابيع إلهام الملك تشارلز الثالث والدته الملكة إليزابيث الثانية، فهي الصخرة التي منعت سيل انهيار الملكية في بلادها رغم انحسار إمبراطوريتها التي لم تكن تغيب عنها الشمس

وما زالت مقولة ملك مصر المخلوع فاروق الأول التي قالها قبل أيام من نفيه عام 1952 تتردّد منذرة عروش ملوك العالم، حين تنبأ بسقوط الأنظمة الملكية، حتى لن يبقى على الأرض إلا 5 ملوك فقط “أربعة بالكوتشينة وملكة بريطانيا” التي كانت حينها إليزابيث الثانية والدة الملك تشارلز الثالث التي تمكنت حتى لحظة رحيلها من إنقاذ الملكية العالمية من الاندثار لتحل الأنظمة الجمهورية محلّها.

كانت التربية القاسية التي تلقاها الملك تشارلز الثالث بمثابة اختبار عزيمة مزمن لا حدود له، خوف والده من أن يلاقي العرش البريطاني ما لاقاه عرش أجداده جعله يزرع كل ذلك القلق في ابنه البكر الملك تشارلز الثالث، حتى انخرط في السلك العسكري وأصبح طياراً في سلاح الجو البريطاني وبقي في الخدمة العسكرية سبع سنوات، وصولاً إلى اللحظة التي منحته فيها والدته الملكة إليزابيث الثانية أعلى وسام عسكري في البلاد، برتبة أدميرال القوات البحرية، ومارشال القوات البرية والجوية.

يتردّد أن الملك تشارلز الثالث سوف يقوم باتخاذ المزيد من القرارات التي سوف تهدّد استمرار الملكية، وأنه سوف يقلّص مهام الأمراء، بينما كان أول قرار يتخذه هو تعيين ابنه ويليام ولياً للعهد لضمان الاستمرار.

وتورد الصحافة البريطانية تفاصيل ذلك في خطة “الجسر” التي بموجبها سيكون الملك الجديد جسر عبور من عهد الملكة إليزابيث الثانية إلى عهد ويليام، ويخشى المؤمنون بارتباط الديمقراطية البريطانية بالتاج من أن أي تغيير في التوازن الذي خلقته الملكة الراحلة وثبتته طيلة عقود حكمها، قد يطيح بما هو أبعد من الملكية ويتسبب بضرر في بنية الدولة والمجتمع البريطانيين. 

وفور رحيل الملكة إليزابيث الثانية انطلق سيل التساؤلات حول مصير الملكية، وكتبت “التايمز” إن الطريقة المناسبة لفهم المسار الذي تمضي فيه الملكية البريطانية هو النظر إلى البداية التي بدأتها مع نهاية العصر الحالي، وعادت الصحيفة العريقة إلى ما نشرته في أبريل عام 1926 قرب أخبار الاضطرابات في مجلس الوزراء الألماني وكان خبراً يقول “أنجبت دوقة يورك بسلام أميرة في الساعة 2:40 صباحا، والأم والبنت بخير”. وتلك الطفلة ستصبح الملكة إليزابيث الثانية، وكان المجتمع البريطاني آنذاك “مجتمعا آمنا وطبقياً”، وكانت بريطانيا لا تزال إمبريالية واستعمارية.

حدود السياسة

◙ البريطانيون مشغولون اليوم بما واجهه العصر الإليزابيثي من تصادم مع الحداثة
◙ البريطانيون مشغولون اليوم بما واجهه العصر الإليزابيثي من تصادم مع الحداثة

ويتخوّف من رصد عهد الملكة إليزابيث الثانية من طرح يحمل مرارة كانت متوقعة وغير متوقعة، يتمثل في السؤال “هل انتهى العصر الإليزابيثي”، عصر تحوّلت فيه الملكية من حال إلى حال، حتى وصلت إلى ملكية القرن الحادي والعشرين التي قد تواجه فيه مصيراً يشبه مصير الطبقة المتوسطة. وهل سيقتصر الأمر على حصر الملكية في بعدها الاقتصادي وحسب، أم أنها ستدخل طوراً جديداً تظهر فيه أن لديها قيمة ثقافية ربحية ضرورية لبريطانيا؟

يفكّر البريطانيون في ما واجهه العصر الإليزابيثي من تصادم مع الحداثة، ويستحضرون كيف أسهمت “بي.بي.سي” في اختراق سرية القصر الملكي وغرفه وحياة الأسرة المالكة، وكان ذلك بقرار لم تتخذه الملكة إليزابيث الثانية بل بدفع من زوجها الأمير فيليب، لكنها لم تعارض بل استسلمت لتدشين زمن جديد.

◙ كثيرون شكّلوا شخصية الملك تشارلز الثالث، مقربون منه، وخصوم له، ولعب والده الأمير اللفتنانت فيليب مونتباتن الذي لم يتمتع بلقب “الملك” الدور الأبرز في صقل شخصيته

كل ما جاء بعد ذلك، من فضائح وحوادث موت وانفصال وقضايا خرق للقانون، لم يكن سوى تضاريس لطريق عبرته الملكية، تمكنت الملكة إليزابيث الثانية من إنقاذها منها كل مرة. لقد اكتشفت واكتشف معها من سوف يصبح الملك تشارلز الثالث أن الحل أمام ذلك كله التأكيد على أن الأسرة المالكة ليست كما كانت عليه الحال أيام والدها وجدها الملك جورج الخامس، مرتبطة بالسماء والأب والابن والروح القدس، بل هي أسرة عادية وأفرادها مثل بقية المواطنين، كانت تلك إستراتيجية وحيدة وحتمية للصمود. ويضرب البريطانيون مثلاً على ذلك في شخصية دوقة كامبريدج كاثرين ميدلتون، زوجة الأمير ويليام الذي أصبح ولياً للعهد، بمواصفاتها المناسبة للمهمة، فهي “متعلمة ومهذبة وحسنة الهندام ومزركشة في ملابسها ومن عائلة متوسطة ولا تمثل تهديدا”، ولذلك كتبوا عنها أنه يمكن لها أن ترتدي الجينز بنفس الطريقة التي ترتدي بها التاج، وأن لا تقول أي شيء مهم حين تتحدث.

التزمت الملكة الراحلة بحدود معينة للتدخل في السياسة، وتركت للجالسين أمامها حين يأتون لأداء القسم وتولي منصب رئاسة الوزراء الفرصة كاملة للنجاح أو الإخفاق، أو حتى اتخاذ القرارات المصيرية، ومثلما جلس أمامها وينستون تشرشل جلس أمامها بوريس جونسون وقبل أيام تراس، وبينهما مفصل حساس شهده زمن مارغريت ثاتشر حين تصادمت قوتان نسائيتان ببعضهما البعض، قوة الملكة الذهبية إليزابيث الثانية وقوة المرأة الحديدية ثاتشر، وحينها تباهت الأخيرة وأرخت لها الملكة العنان حتى سقطت. 

لم تنس الملكة إليزابيث الثانية أن قرار تنصيب والدها خلفاً لشقيقه كان قراراً اتخذ خارج القصر، ونطق به تشرشل ونفّذه، وهو ما سيأتي بها إلى العرش لاحقاً، وفي الوقت ذاته عرفت أنه لولا قوة العرش لما كان لأي من السياسيين البريطانيين محافظين أو عمال أو غيرهم أية قدرة تذكر على تحقيق ما حققوه في بلادهم أو في الخارج.

الملك تشارلز الثالث مختلف، وربما كان صمته الطويل، وخجله الذي لم يكن يخفيه تغيّر لون بشرة وجهه في المواقف العامة، نوعاً من الصبر يشبه صبر والدته، وهذا زمن انتهى الآن. فحين يقول الملك تشارلز الثالث إنه لا يمانع من انفصال أي إقليم عن التاج فهذا تدخل مباشر في السياسة، وحين يعارض قرارات الحكومة فهذا تدخل آخر، لن يعامل بمثل ما عوملت به بقية أخبار الأسرة المالكة. وعندها سيبدأ العصر التشارلزي انطلاقاً من تغيير النشيد والعملة والرمز الملكي وخطاب الملك وهالته التي ستكون بلا شك مختلفة عما عرفها عنه العالم أيام كان ولياً للعهد. غير أنه كان عنيداً جداً في الورطات التي وجد نفسه بمواجهتها في مراحل حياته السابقة، وفعل ما أراد في نهاية المطاف، ولن يكون أقل عناداً مما كان عليه في الماضي.

◙ تربية تشارلز القاسية كانت من دوافعها خشية والده من أن يلاقي العرش البريطاني ما لاقاه عرش أجداده اليونانيين

 

8