راينر ماريا ريلكه ينصح الشاعر الشاب: لا تكتب قصائد حب

رسائل عمرها أكثر من قرن ما تزال درسا في كتابة الشعر.
السبت 2022/09/10
من الجيد أن يكون المرء وحيدا

مازال الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه يشغل مساحة هامة في الشعرية العالمية، ورغم مرور قرابة القرن على رحيله فإن قصائده ما تزال تكشف عن تجربة فريدة، يتجه نحوها بشكل خاص الشباب المفعمون بطاقة الحب وذكرى الطفولة وطاقة الطبيعة، وكلها عناصر أساسية في شعره لها حضور عميق كما يبين في رسائله لشاعر شاب، وهي التي ما تزال تصلح إلى اليوم كتدريب على كتابة الشعر.

الرسائل العشر التي كتبها الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه موجهة إلى شاعر شاب يبحث عمّن يقيم محاولاته الشعرية الأولى بنصائح تفتح له الآفاق، تشكل خلاصة رؤاه وأفكاره وجماليات ما سعى إليه في العالم الذي عاش وأبدع فيه، فهي ليست مجرّد توجيهات أو إرشادات مدرسية أو تقليدية، بقدر ما هي إضاءات لفضاءات الشعر والروح والجسد وما يحيطهما من تجليات طبيعية وجمالية ومعتركات ذاتية وإنسانية.

ومن ثم فإن هذه الرسائل تكشف الكثير من ملامح التجربة الشعرية لريلكه وأبعادها، تلك التجربة التي ما تزال مقروءة وتؤثر في مختلف الأجيال الشعرية في لغتها ومختلف اللغات التي ترجمت إليها.

الكتابة والطبيعة

يقول الشاعر الشاب فرانتس زافر كابوس في تقديمه للرسائل العشر التي ترجمها صلاح هلال وصدرت عن “دار الكرمة” بعنوان “رسائل إلى شاعر شاب”، قررت “أن أرسل محاولاتي الشعرية إلى راينر ماريا ريلكه وأسأله عن حكمه عليها، لم أكن قد أكملت عامي العشرين، وكنت على أعتاب وظيفة أراها ضد ميولي، فتمنّيت، لو وجدت تفهما لوضعي، أن يكون ذلك لدى الشاعر الذي ألف كتاب ‘احتفاء بذاتي‘. وبلا نية حقيقية مسبقة مني، نشأت مع أشعاري رسالة مصاحبة عبرت فيها عن نفسي من دون أيّ تحفظ، كما لم أفعل من قبل ولم أفعل بعدها مع إنسان آخر”.

في الرسالة الأولى يعترف ريلكه “لا يسعني أن أقيّم جودة أشعارك؛ لأني بمنأى تماما عن أيّ نية نقدية. إن أقل ما يمكن للمرء أن يلامس به عملا فنيا هو الكلمات الناقدة: فالأمر يتعلق عندها بحالات من سوء الفهم التي يحالفنا فيها الحظ بدرجة أو بأخرى. ليست الأشياء كلها قابلة للفهم أو القول كما يحب الناس عادة أن يجعلونا نعتقد، فمعظم الأحداث لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، وتحدث في مكان لم تطأه يوما كلمة. وأكثر الأشياء التي نعجز عن التعبير عنها هي الأعمال الفنية، فهي موجودات غامضة، وحياتها مقارنة بحياتنا الفانية أبقى”.

ويضيف “تسأل إذا كانت أشعارك جيدة. تسألني أنا؛ ولعلك سألت غيري قبل ذلك، وأرسلتها إلى مجلات، وقارنتها بقصائد أخرى، وشعرت بالقلق عندما رفضت بعض هيئات التحرير محاولاتك. والآن ‘لأنك سمحت لي بأن أسدي إليك النصح‘ أرجوك أن تتخلى عن ذلك كله. إنك تنظر إلى خارجك، وهذا بالدرجة الأولى ما يجب عليك ألا تفعله. ليس بوسع أحد أن ينصحك ويساعدك، لا أحد. لا توجد إلا وسيلة واحدة: عليك بسبر أغوار ذاتك، عليك بالبحث في السبب الذي يدفعك إلى الكتابة، انظر إذا كانت جذوره متوغلة في أعمق مكان في قلبك، واسأل نفسك إذا كانت الكتابة بالنسبة إليك دونها الموت”.

ويتابع ريلكه في رسالته “والأهم، اسأل نفسك في أكثر ساعات الليل سكونا: هل عليّ أن أكتب؟ نقّب في نفسك عن إجابة عميقة. وإذا كان الرد بالإيجاب، إذا كان ردك على هذا السؤال الجاد هو قولك بقوة وببساطة: عليّ أن أكتب، فعليك أن تبني حياتك تبعا لتلك الضرورة؛ يجب أن تصبح حياتك، حتى لحظاتها التي لا تكترث لها تماما، تعبيرا عن هذه الضرورة الملحة وشاهدا عليها.. عندها اقترب من الطبيعة ثم حاول كما الإنسان الأول، أن تعبّر عمّا ترى وتعايش وتحب وتفقد. لا تكتب قصائد حب؛ تجنب في البداية تلك الأشكال المعهودة والمعتادة: إنها الأصعب، لأن المرء يحتاج إلى طاقة كبيرة وناضجة كي يكتب شيئا خاصا في مجال وصلتنا فيه كميات من الكتابات الجيدة والباهرة أحيانا”.

ويبين ريلكه “انج بنفسك من معالجة المواضيع العمومية إلى تلك التي تتيحها لك حياتك اليومية، صف أحزانك وأمانيك، والأفكار التي تعترضك وإيمانك بأيّ جمال ما، صف ذلك كله بصدق حميم وهادئ ومتواضع، واستخدم، لتعبر عن نفسك، الأشياء الموجودة في محيطك، والصور التي تظهر في أحلامك، والأشياء التي تحتفظ بها ذاكرتك. أما إذا بدت لك حياتك اليومية قاحلة فلا تلُمها، بل لُم نفسك، قل لنفسك إنك لست شاعرا بما يكفي كي تستدعي ثرواتها؛ لأن الإنسان المبدع لا يعرف الفقر، ولا يرى مكانا فقيرا أو غير ذي بال. وحتى لو كان حبيس سجن تمنع أسواره أصوات العالم من أن تترامى إلى مسامعك، أفلن تبقى لديك طفولتك، ذلك الثراء الملكي الممتع، خزانة الذكريات تلك؟”.

الأشياء التي نعجز عن التعبير عنها هي الأعمال الفنية فهي موجودات غامضة وحياتها مقارنة بحياتنا الفانية أبقى

ويواصل رسالته “اصرف انتباهك إلى هناك. حاول أن تستعيد الأحاسيس التي غابت في غياهب ماض بعيد؛ عندها ستترسخ ملامح شخصيتك، وسيتسع فضاء وحدتك ليصبح منزلا في ساعة الشفق، يمرّ ضجيج الآخرين بعيدا عنه. فإذا خرجت من رحم ذلك التحول إلى داخلك، ومن ذلك الغوص في عالمك الخاص، قصائد، فإنك لن تفكر حينها في أن تسأل أحدا إذا كانت أشعارا جيدة؛ كما لن تحاول كسب اهتمام المجلات لتلك الأعمال: لأنك سترى فيها شيئا طبيعيا محببا إلى قلبك تملكه، وجزءا من حياتك وصوتا لها”.

ويختم ريلكه رسالته الأولى “يكون العمل الفني جيدا حين يأتي عن ضرورة. الحكم على الشعر لا يكون إلا بناء على نوعية منشئه هذه؛ لذلك سيدي العزيز، لم أجد لك نصيحة إلا تلك: تعمق في ذاتك وابحث في أعماقها التي تنبع منها حياتك، ففي نبعها ستجد الإجابة عن السؤال ما إذا كان عليك أن تبدع. خذها كما تبدو، من دون تأويل. ربما يتضح عندها أنك خلقت لتكون فنانا. وساعتها خض المغامرة وتحمّل هذا القدر بمعاناته وعظمته، من دون أن تطلب أبدا المكافأة التي يمكن أن تأتي من الخارج، لأن المبدع يجب أن يكون عالما قائما بذاته، وأن يجد كل شيء في داخل نفسه وفي الطبيعة التي ارتبط بها. وربما تضطر، بعد ذلك الغوص في ذاتك وفي وحدتك، أن تتخلى عن فكرة أن تصبح شاعرا (يكفي كما قلت أن يشعر المرء أن بإمكانه الحياة من دون كتابة، حتى يكون الأجد به ألا يكتب تماما). ولكن حتى في تلك الحالة فإن هذا الاستبطان، الذي أرجوك القيام به، لن يذهب سدى، إذ ستجد حياتك على أيّ حال من تلك اللحظة طرقا خاصة بها، وأتمنى أكثر مما يمكنني قوله، أن تكون تلك الطرق جيدة وغنية ورحبة”.

وفي رسالة تالية يلفت ريلكه نظر الشاعر الشاب إلى التمسك بالطبيعة، فيقول “إذا تمسكت بالطبيعة، وبالأمور البسيطة الصغيرة فيها التي يكاد لا يراها أحد، والتي يمكن أن تصبح على غير توقع، كبيرة ولا محدودة، إذا تحليت بذلك الحب للأمور الصغيرة وحاولت، بوصفك خادما متواضعا، كسب ثقة ما يبدو فقيرا، فإن كل شيء سيصبح بالنسبة إليك أسهل، وأكثر توحدا وتصالحا مع نفسه بطريقة ما، ربما ليس على مستوى العقل، الذي سيترك مندهشا، ولكن في أعماق وعيك ويقظتك ومعرفتك”.

ويضيف “إنك لا تزال شابا، تقف على أعتاب البدايات، ولعلي أرجوك بكل ما أستطيع، يا عزيزي، أن تتحلى بالصبر في مواجهة كل ما لم تجد له حلا في قلبك، وأن تحاول أن تحب حتى الأسئلة نفسها وكأنها أدراج مغلقة أو كتب مكتوبة بلغة شديدة الغرابة. لا تبحث الآن عن الإجابات التي لا يمكن أن تعطى لك، لأنك لن تستطيع أن تحياها. والأمر يتعلق بأن تعيش كل شيء. ِعش الأسئلة الآن، ربما يجعلك ذلك تعيش يوما ما، بالتدريج، في الإجابة، من دون أن تلاحظ. ربما تكون بداخلك القدرة على البناء والتشكيل بوصف ذلك طريقة فريدة ونقية للحياة؛ ربِّ نفسك على ذلك، ولكن خذ ما يأتي بثقة كبيرة، وإذا جاء ذلك من محض إرادتك، ومن ضرورة ما في داخلك، فتقبله ولا تكره شيئا”.

الحب والشباب

خخ

يكتب ريلكه “الجنس صعب؛ نعم. ولكن الصعب هو ما يتم تحميلنا به، وتقريبا كل شيء جاد يكون صعبا، وإذا فهمت ذلك واستطعت، انطلاقا من طبيعتك وطريقتك وخبراتك وطفولتك وقوتك، أن تكوّن علاقة خاصة بالجنس (من دون تأثر بالعادات والتقاليد) فلن يكون عليك القلق من أن تفقد نفسك أو أن تتعامل مع أغلى تملك تعاملا غير ملائم. إن الرغبة الجسدية هي معايشة حسية لا تختلف عن المشاهدة الخالصة أو الإحساس الخالص الذي تملأ به اللسان ثمرة جميلة، إنها خبرة عظيمة لانهائية تعطى لنا، إنها معرفة بالعالم، وهي تمام كل معرفة وبريقها. وليس الأمر السيء هو تلقينا لها، بل السيء هو إساءة استغلال الجميع تقريبا لهذه الخبرة وتضييعهم لها، واستخدامها كعامل إثارة في مواضع حياتهم التي يشعرون فيها بالتعب، واستخدامها كعامل تشتيت وليس كعامل جمع يؤدي إلى لحظات القمة”.

ويتابع “لقد حوّل البشر الطعام أيضا إلى شيء آخر: وجود أزمة في جانب وفائض في جانب آخر عكّر صفو هذا الاحتياج، وهكذا تعكرت أيضا كل الاحتياجات العميقة البسيطة التي تتجدد من خلالها الحياة. ولكن يمكن للفرد أن ينقّيها لنفسه ويعيشها بصفاء (وإن لم يكن الفرد الذي يعاني التعلق بشدة فالفرد الذي يعيش وحيدا)؛ يمكنه أن يتذكر أن كل أشكال الجمال في الحيوان والنبات ما هي إلا صورة هادئة مستمرة من الحب والشوق، ويمكنه أن يرى الحيوان، كما يرى النبات، كيف يتوحد ويتكاثر وينمو بصبر وطاعة، وليس لرغبة فيزيائية، وليس لمعاناة فيزيائية، بل استجابة لضرورات أكبر من الشهوة والمعاناة وأعنف من الإرادة والمقاومة”.

ريلكه يرى أن الإنسان المبدع لا يعرف الفقر، ولا يرى مكانا فقيرا أو غير ذي بال حتى لو كان حبيس سجن

ويكتب “آه لو استطاع الإنسان استقبال ذلك السر، الذي تعج به الأرض حتى أصغر أشيائها، بتواضع أكبر، ولو استطاع حمله وتحمّله بجدية أكثر، والشعور بثقله بدلا من الاستخفاف به. لو تعامل بخشوع مع خصوبته التي هي الشيء نفسه سواء بدت عقلية أو جسدية، لأن الإبداع العقلي أيضا ينشأ من الجسدي، وهو معه كيان واحد، ولكنه بمثابة تكرار أكثر هياجا ودوما وخفوتا لرغبة الجسد”.

ويشكو الشاعر الشاب من الوحدة فيشرحها له ريلكه “عليك ألا تحتار وأنت في وحدتك عندما تشعر أن شيئا بداخلك يرغب في الخروج منها. فإن هذه الرغبة تحديدا، إذا تعلمتها بهدوء ووعي وكأنها أداة، فستساعدك على مد وحدتك لتسع أرضا جديدة. لقد حل الناس كل شيء (بمساعدة توافقات) مستخدمين أسهل السهل من الجوانب؛ ولكن من الواضح أننا يجب أن نلزم أنفسنا بالصعب؛ فكل حيّ يلتزم به، كل شيء في الطبيعة ينمو ويقاوم بطريقته، ويتميز من ذاته بذاته، ويحاول بأيّ ثمن أن يصبح نفسه على الرغم من كل ما يواجه من مقاومة. إننا نعرف القليل، ولكن الأمر المؤكد هو أننا يجب أن نلزم أنفسنا بالصعب، وهذه القناعة لن تتركنا. من الجيد أن يكون المرء وحيدا، لأن الوحدة صعبة؛ إن صعوبة الشيء يجب أن تكون سببا إضافيا كي نفعله”.

ويضيف “كما أنه من الجيد أن نحب، لأن الحب صعب. والحب من إنسان إلى آخر: ربما يكون أصعب الأشياء التي أعطيناها، أقصى الأشياء، آخر التجارب والاختبارات، العمل الذي يعد كل عمل آخر مجرد إعداد له. لذلك لا يستطيع الشباب، المبتدئون في كل شيء، أن يحبوا: يجب أن يتعلموا الحب. بكل الكيان، بكل قوة مجتمعة حول قلبهم الوحيد، الحزين، النابض إلى العلا، يجب أن يتعلموا كيف يحبون. ولكن وقت التعلم يكون دائما وقتا طويلا منغلقا على نفسه، وهكذا يكون الحب ليستمر طويلا متسعا في الحياة: الوحدة، الانعزال المتنامي المتعمق لذلك الذي يحب. بداية الحب لا تعني الذوبان والتخلي والاتحاد مع الآخر، إذ سيكون اتحاد ما هو غامض وغير مكتمل، ولم يزل غير منتظم؟ إنها لمناسبة عظيمة للفرد كي ينضج، ويصبح شيئا في ذاته، ويصبح عالما لذاته من أجل شخص آخر، وهذه مهمة عظيمة وليست بالبسيطة، إنه شيء يختار ذلك الفرد ويدعوه إلى بعيد”.

13