هوية فنجان قهوة

قبل أسابيع قليلة فقط حدثت ثورة لم يشعر بها أحد، رغم أنها ستغيّر العالم، قبل ذلك كنا نسمع خرافات عن نسل يعدّ بالملايين لهذه الشخصية التاريخية أو تلك، ومن بينها سيء الذكر جنكيز خان الذي يقال إن فحص ”دي أن إيه“ كشف عن وجود أحفاد لا يعدّون ولا يحصون له.
الجديد أن قضية معلّقة تعود إلى ثلاثين عاماً مضت، تمّ حلها اليوم بفضل الفحص الجيني، في مدينة سياتل المطلة على جزر الهنود الحمر في الساحل الشرقي من الولايات المتحدة، حيث قتلت شابة بطريقة وحشية ولم تثبت التهمة على أحد آنذاك.
وتقول شرطة مقاطعة سنوهوميش إن المشتبه به، روبرت بروكس، لن يُحاكم مع الأسف، لأنه في الواقع كان قد توفي في عام 2016 لأسباب طبيعية، وأن الكشف عن شخصيته تم بفضل اللجوء إلى علم الأنساب الجيني.
حدثت هذه القصة في مثل هذا الشهر، أغسطس عام 1990، حين تم العثور على ميشيل كوسكي، بعد أيام من اختفائها، وتم التحقيق وقتها مع جارها بروكس وأطلق سراحه وتم نفي ارتكابه للجريمة.
فنجان القهوة الذي تم اللجوء إليه لمحاولة العثور على تطابق في الحمض النووي، فشل في إثبات صلة بروكس بالجريمة، ليس هو فقط، بل لم يتم التعرف على ذلك الحمض النووي في قاعدة بيانات قوى إنفاذ القانون “سي أو دي آي إس”.
وبقي الأمر مجمّداً طيلة تلك العقود، حتى جاءت عالمة أنساب متخصصة في الطب الشرعي، وعكفت لمدة اثني عشر شهراً تدرس أشجار العائلات المختلفة المحيطة بالحمض النووي الذي عثر عليه، فقامت ببناء شجرة جديدة وصحيحة، مكّنت من الوصول إلى رابط مؤكد مع بروكس الذي ثبتت عليه التهمة.
لم يكن علم الأنساب الذي اعتنى به العرب إذاً بلا أهمية، ونوعاً من البطر والتفاخر، بل فراسة سوف تحتاجها البشرية في كل شيء، اليوم وفي المستقبل، وليت أن علم الأنساب والجينات المتقدم يطبّق الآن على مُدّعي النسب الهاشمي الشريف، والنسب الفارسي المحمّل بالأحقاد، حتى ننتهي من هذه القصة، وأولئك الذين يفاخرون بأعراقهم بعنصرية، سوف يتضح لهم العجب العجاب، حينها سنرى خارطة جينية مدهشة تعيد تركيب السياسة والمجتمعات والمتحكمين فيها من جديد.
سيطال هذا التحول التكوينات السيادية والدول والمشاريع القومية الإمبراطورية التي تريد بسط نفوذها على من حولها، حتى يعود الناس إلى فهم الهوية على أساسها الحقيقي، أن الهوية هي اللغة، هي الثقافة لا أكثر ولا أقل. عند ذاك لن يلومك أحدٌ في التعصّب إليها، فهي ثريا من النجوم والمعارف تعلّق بها عقلك وفؤادك، وليست شيئاً يجري في العروق.