تسعة ملايين لاجئ ومهاجر ووافد ينصهرون وسط التكدس السكاني بمصر

مكاسب سياسية واقتصادية ومخاوف من خلل مجتمعي في المناطق الشعبية.
الثلاثاء 2022/08/16
من لاجئين إلى مستثمرين

فاجأت أرقام منظمة الهجرة الدولية بخصوص عدد اللاجئين الذين اختاروا الاستقرار في مصر السلطات التي قدرت عددهم بنصف العدد الذي أعلنت عنه المنظمة والذي اقترب من عشرة ملايين لاجئ وهو الأمر الذي يشكل عبئا على السلطة والمصريين.

القاهرة - أثبت المجتمع المصري قدرة فائقة على استيعاب اللاجئين والمهاجرين الذين تضاعفت أعدادهم مع اتساع رقعة الصراعات في دول عربية عديدة، وترتب على ذلك انتشار جاليات مختلفة في أحياء ومدن متباينة وانخراطهم في أنشطة اقتصادية واجتماعية أحدثت حالة من الانصهار بين الثقافات في مناطق أغلبها يكتظ بالسكان ويعاني من الازدحام والتهافت على السلع والخدمات المختلفة.

وقالت المنظمة الدولية للهجرة، وهي معنية بمناقشة ورصد أوضاع المهاجرين والمجتمعات التي يتواجدون فيها ولا يقتصر اهتمامها على أوضاع اللاجئين فحسب، إن عدد المهاجرين واللاجئين الذين يتواجدون على الأراضي المصرية بلغ تسعة ملايين شخص أي ما يعادل 8.7 في المئة من إجمالي السكان المصريين البالغ عددهم نحو 105 ملايين نسمة يعيشون داخل البلاد، إضافة إلى أكثر من عشرة ملايين يعيشون خارجها.

أحمد بدوي: السلوك المصري بوجه عام غير طارد للاجئين

ورصدت المنظمة في بيان صادر عنها بالتعاون مع مركز الأمم المتحدة للإعلام بالقاهرة، زيادة مضطردة في أعداد المهاجرين منذ العام 2019، بسبب عدم الاستقرار الذي طال أمده في الدول المجاورة لمصر، ما دفع الآلاف من السودانيين والسوريين والعراقيين واليمنيين والإثيوبيين إلى البحث عن ملاذ آمن لهم في مصر.

وينبع التفاوت بين الأرقام التي أعلنتها منظمة الهجرة الدولية وبين الإحصاءات الرسمية التي تعلنها الدولة المصرية بخمسة ملايين لاجئ إلى أن المنظمة الدولية دمجت بين أعداد اللاجئين والمهاجرين من 133 دولة للإقامة في مصر.

وفي كل الحالات يعبر الرقم المذكور عن قوة بشرية هائلة تتداخل في نسيج المجتمع المصري الذي يبدي امتعاضا حتى الآن وحكومته من الوافدين، ويستثمر النظام المصري كثافة اللاجئين كورقة ضغط على دول الاتحاد الأوروبي، حيث بدت مصر كحائط صد أمامي قوي ضد تزايد أعداد المهاجرين بصورة غير نظامية إلى أوروبا.

وتثير الدبلوماسية المصرية أوضاع اللاجئين من وقت لآخر في الحوارات مع بعض الدول الأوروبية للحصول على مساعدات اقتصادية تسهم في سيطرة القاهرة على الأوضاع ومنع انفلات قنبلة الهجرة وزيادة الأعباء الغربية.

وحصدت القاهرة إشادات أوروبية لنجاحها في الحد من الهجرات غير النظامية عبر البحر المتوسط، وتمكنت من ضبط مفاتيح رئيسية أرّقت دولا عدة في الماضي.

وتدفع الأرقام المعلنة أخيراً إلى النظر في التأثيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لقضية اللاجئين على الأوضاع المصرية بوجه عام، فهناك ما يشبه التقارب بين الفوائد والأضرار، لأن الاقتصاد المصري حقق استفادة جيدة من الاستثمارات العربية والمساعدات الأوروبية التي ارتبطت بالمهاجرين.

وفي الوقت الذي تحقق فيه الدولة المصرية مكاسب سياسية جراء استقبالها الجيد لهذا العدد من اللاجئين وتوظيفهم في تحسين سجلها الحقوقي، تم تسليط الضوء على مسألة احتواء اللاجئين خلال المراجعة الدورية لأوضاع حقوق الإنسان أمام منظمة الأمم المتحدة في جنيف قبل ثلاث سنوات، كما أن القاهرة تكتسب قوة إقليمية تدعم حضورها في جملة من الملفات المطروحة المتعلقة باستيعاب المهاجرين بلا متاجرة سياسية، في مقارنة صريحة مع ما قامت به تركيا وألمانيا عندما استقبلتا الملايين من اللاجئين بعد امتداد الصراع في الأراضي السورية.

وتبقى الجوانب السلبية منحصرة في المستوى الاجتماعي، لأن تركز الملايين من اللاجئين في مناطق شعبية بعينها، كما هو الحال بمنطقة فيصل في محافظة الجيزة المجاورة للقاهرة، ومنطقة عين شمس في شرقها، فضلا عن مدينتي السادس من أكتوبر والعبور، ومنطقة وسط القاهرة، يقود إلى مشكلات على مستوى كفاءة الخدمات المقدمة نتيجة التكدس السكاني والتأثير على ارتفاع أسعار العقارات وبعض السلع التي يتزايد الطلب عليها بشكل كبير، أكثر من غيرها في مناطق أخرى.

ويشكو راشد إبراهيم وهو شاب ثلاثيني من ارتفاع أسعار العقارات بشكل مبالغ فيه بمنطقة فيصل التي تشهد توافد عدد كبير من اليمنيين والسودانيين والإثيوبيين والإريتريين خلال فترة وجيزة.

وقال لـ”العرب” إنه “بينما كانت المنطقة ملاذا للبسطاء الباحثين عن سكن ملائم وأسعار منخفضة أضحى الآن الوضع مختلفًا، فخلال العامين الماضيين تضاعفت الأسعار مقارنة بمناطق أخرى، ولم تعد هناك فرصة للإيجار مع ارتفاع الأسعار”.

مصر بلدنا أيضا
مصر بلدنا أيضا

ولفت إلى أن الكثير من اليمنيين عملوا كوسطاء عقاريين (سماسرة) وأصبحت السوق موجهة حسب إقبال الوافدين اليمنيين على المساكن، ولم تعد هناك قدرة على ضبطها بعد أن وصلت إيجارات الشقق السكنية المفروشة إلى 800 دولار شهرياً، وهو رقم دفع البعض من أبناء المنطقة إلى تركها نحو مناطق أخرى بحثًا عن سكن ملائم.

ولا يرتبط الوضع فقط بأسعار العقارات، لكن المناطق المكتظة بالمواطنين التي تشهد صعوبات في التنقل بوسائل مواصلات عامة بات الإقبال عليها مضاعفًا، وتسبب ذلك في ازدحامها على نحو أكبر.

كما أن غياب رقابة الحكومة على الأسواق المختلفة قاد في أحيان كثيرة إلى رفع أسعار العديد من السلع، وهناك قناعة لدى التجار أنهم يتعاملون مع جنسيات تحصل على دعم مالي بالدولار من منظمات الإغاثة ومفوضيات اللاجئين وهيئات دولية مختلفة، وهو ما يدفع المواطن العادي ثمنه.

وتتمثل المشكلة في أن عددا كبيرا من المواطنين يتعاملون مع انتشار اللاجئين بمنطق تجاري، فهناك أبراج سكنية كاملة تركتها عائلاتها بحثًا عن الاستثمار في العقاري الذي يحقق مكاسب هائلة لا تتماشى مع القيمة الفعلية لأسعارها.

ويبقى الفقراء ومحدودو الدخل الأكثر تأثراً، لأن غالبية العمارات السكنية تحولت إلى ما يشبه الفنادق التي تستقبل أبناء جنسيات مختلفة، ويترتب على ذلك تدهور ملحوظ في مستوى قدرة البعض على التأقلم مع كثرة الأشخاص المترددين على هذه الأماكن.

وقال رئيس مجلس أمناء المؤسسة المصرية لدعم اللاجئين (حقوقية) أحمد بدوي إن السلوك المصري بوجه عام غير طارد للاجئين، بل على النقيض هناك حالة احتواء تبقى ظاهرة تجاه كل من يترك بلده، لكن ثمة تحفظات اجتماعية جراء التأثيرات السلبية على حياة المواطن بشكل مباشر مثلما هو الوضع في مسألة أسعار العقارات، وحينما تصل أسعار إيجارات الشقق السكنية في مناطق شعبية إلى نفس أسعار مناطق أخرى راقية فذلك يقود إلى حالة من الخلل المجتمعي مستقبلاً.

وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن اللاجئين الوافدين إلى العاصمة القاهرة وغيرها لا يستهدفون اللجوء بشكل مباشر، فمصر دولة ترانزيت ويقومون بتسجيل بياناتهم لدى مفوضية اللاجئين على هذا الأساس انتظارا لتوطينهم في مناطق أخرى، وفي بعض الحالات يتم تمكين هؤلاء اجتماعيًا واقتصاديا والاستفادة من برامج الدعم التي تقدمها الأمم المتحدة ومنظمات محلية ودولية والانخراط في أعمال خاصة بعيدة عن الوظائف الحكومية في ظل تحفظ الحكومة المصرية على منح تراخيص عمل.

Thumbnail

ويشير الإحصاء الأخير الصادر عن منظمة الهجرة إلى أن 60 في المئة من المهاجرين الذين يعيشون في مصر يندمجون جيدا في المجتمع لأكثر من 10 سنوات بمعدل يصل إلى 5.5 مليون شخص، إلى جانب 6 في المئة منهم يعيشون باندماج داخل المجتمع المصري لمدة 15 عامًا أو أكثر (بما في ذلك الأجيال الثانية).

وأشار بدوي إلى أن أرقام منظمة الهجرة الدولية غير دقيقة على مستوى أعداد اللاجئين، لكنها تنطبق على الوافدين بوجه عام، وأن إحصاءات الجهاز الإداري للدولة المصرية هي الأقرب إلى الدقة بناء على معلومات الخروج والدخول إلى الأراضي المصرية.

ويشير الواقع إلى وجود زيادات في أعداد الوافدين اليمنيين الذين بلغوا حسب أرقام السفارة اليمينة أخيراً مليونا و800 ألف شخص، إلى جانب التطور الهائل في أعداد السودانيين مع فتح الحدود البرية مع مصر.

يؤكد متابعون أن الزيادة السكانية في مصر تعد أحد الأسباب التي تجعل القاهرة قادرة على استيعاب أعداد أكبر من اللاجئين بخلاف دول أخرى في المنطقة، لأن وجود الملايين من اللاجئين ضمن أكثر من 100 مليون نسمة لا يشكل نسبة مقلقة أو مؤثرة على البيئة الديموغرافية، كما أن انخراط أعداد كبيرة منهم في مشروعات استثمارية تبحث عنها الحكومة المصرية يدفع نحو فتح الباب أمام استقبال المزيد منهم.

وأكد رئيس المنتدى العربي - الأوروبي للحوار وحقوق الإنسان بجنيف أيمن نصري أن المهاجرين يتوافدون على مصر في توقيتات مختلفة، عكس اللاجئين الذين يفرون في توقيت واحد من بلادهم جراء أوضاع العنف المسلح، وأن ما تشهده مصر الآن هو “زيادة مضطردة في أعداد اللاجئين وليس الوافدين، وهؤلاء بإمكانهم العودة إلى بلادهم عقب انتهاء الظروف التي قادتهم إلى الهرب”.

وشدد في تصريح لـ”العرب” على أن اللاجئين ليست لديهم جاليات ينضمون إليها وهو ما يسبب لهم مشكلات في تركيا مثلا، بالتالي حينما يصلون إلى القاهرة أو أي مدينة مصرية أخرى يحاولون تجميع أنفسهم بما يترتب على ذلك توافد أعداد كبيرة على مناطق سكنية بعينها، وفي مصر يكون ذلك محل ترحيب بعكس ما يحدث في دول أخرى ترى أن هؤلاء يشكلون ضغطا مجتمعيًا مباشراً.

وتضع الحكومة المصرية جملة من الضوابط الأمنية الصارمة التي بمقتضاها جرى رفض عدد من المتورطين في أعمال عنف وشغب في بلدانهم، وتم تحييد التوجهات السياسية عن أي عملية استقبال اللاجئين.

الفقراء ومحدودو الدخل هم الأكثر تأثرا، لأن غالبية العمارات السكنية تحولت إلى ما يشبه الفنادق التي تستقبل أبناء جنسيات مختلفة

وتقوم أجهزة الأمن بين الحين والآخر بعمل مراجعات أمنية للوافدين إليها، وتترك رسالة لهم أنها قادرة على التعامل مع أي تجاوز، كما أن تدخلاتها في المشكلات التي تنشب تبقى محل احترام من كافة الأطراف دون الانحياز إلى طرف على حساب آخر.

ويقول خبراء أمنيون في مصر إن جزءا من إستراتيجية التعامل مع اللاجئين والمهاجرين والوافدين يتمثل في دفعهم نحو التواجد في مناطق جغرافية متفرقة، وليس التمركز في بؤر محددة ما يساعد على التدخل لضبط الأوضاع في حال حدوث مشكلات، وأن ما يساعد على ذلك قبول المصريين لوجود جنسيات مختلفة في أماكن عديدة من دون أن تخرج الخلافات أو المشكلات عن الإطار الطبيعي.

وأكد عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية السفير رخا أحمد حسن أن تاريخ الدولة المصرية يؤشر على أنها معبر وملجأ لدول الجوار القريبة والبعيدة وتتلاقى فيها الأصول العرقية القديمة ويظهر ذلك في إتقان اللهجة المصرية أحيانا.

وذكر لـ”العرب” أن القدرة على احتواء التنوع الثقافي والمعرفي تساعد على وجود قدر من المرونة في استيعاب وافدين من جنسيات مختلفة يتحملون مسؤولية أنفسهم في البحث عن عمل أو تدشين مشروعاتهم الخاصة بحسب إمكانياتهم.

وشرح أن اعتماد اللاجئين على أنفسهم يدفع الكثير منهم إلى عدم الانتظار للتسجيل في قوائم اللجوء الرسمية لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، فروح التكافل الاجتماعي في مصر القائمة على تقديم المساعدات بشكل سخي في أوقات الأزمات تبقى عاملاً مساعداً على خلق حالة من الألفة بين الوافدين والمواطنين.

وحسب التقرير الأخير فإن المهاجرين في مصر يساهمون بشكل إيجابي في سوق العمل ونمو الاقتصاد، ويعتبر السوريون الذين يشكلون 17 في المئة من أعداد المهاجرين الدوليين في مصر من أفضل الجنسيات التي تسهم بشكل إيجابي في سوق العمل والاستثمار، حيث يقدر حجم الأموال التي استثمرها حوالي 30 ألف سوري من المسجلين في الدفاتر الرسمية بمصر نحو مليار دولار، ما يعكس أهمية تعزيز اندماج المهاجرين لما يحويه ذلك من آثار إيجابية على المجتمع المصري.

7