العقد الاجتماعي يضع تونس على أبواب مرحلة مغايرة

المرحلة الماضية انتهت باستفتاء 25 يويلو الماضي. ومؤشرات كثيرة تقول إن المرحلة الجديدة سيكون عنوانها الفعل الإيجابي سواء من السياسيين أو من الأطراف الاجتماعية. والجميع بات مقتنعا بأن تونس لم تعد تتحمل تأجيل الإصلاحات، وأن الشارع التونسي لم يعد يقبل أي اعتذارات.
يمكن أن يكون حديث رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن عن إبرام عقد اجتماعي ثلاثي بين الحكومة، والاتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد العمال)، واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (اتحاد أرباب العمل) مدخلا للاستقرار الاجتماعي، وإشارة إلى أن تونس ما بعد استفتاء الخامس والعشرين من يوليو 2022 قد غادرت مربع الفوضى الذي كان سائدا في العشرية الأخيرة، وهو الذي عرقل مساعي البلاد لمعالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتركها في وضع أقرب إلى الدولة الفاشلة.
واللافت هنا أن العقد الاجتماعي، الذي رفض اتحاد الشغل توقيعه مع الحكومات السابقة، يعني في أحد أهدافه التفرغ للعمل واعتماد الحوار وإستراتيجية “تقاسم الأعباء” للخروج من الوضع الراهن، وهي إشارة إلى أن اتحاد الشغل قد فهم قبل السياسيين أن المرحلة تغيرت، وأن قوس الفوضى لا بد له أن يغلق من كل الفاعلين والمؤثرين بشكل علني أو سري.
لا شك أننا سنشهد حوارا اجتماعيا، وليس سياسيا، على قاعدة الشراكة والندية بين الأطراف الثلاثة. ويراعي هذا الحوار مصالح العمال، ولكن في حدود إمكانيات رجال الأعمال وظروفهم في ظل الأزمة العالمية التي بدأت بالجائحة وزادت تعقيدا مع أزمة الدينار، وصولا إلى أزمة الغذاء العالمية.
على الجميع أن يمشوا على الأرض حكومة وأحزابا ونقابات ورجال أعمال، فلا أحد يمتلك المصباح السحري لتغيير الوضع
المرحلة ستكون مرحلة مختلفة تقوم على الشراكة وليس على الصراع، وسيكون دور اتحاد العمال فيها مؤثرا من أجل إقناع نقاباته المركزية والجهوية والمحلية بأن زمن “الاتحاد أقوى قوة في البلاد” قد ولى وأن المنظمة ستعود إلى منطق الشراكة كما يفرضه الدور الاجتماعي التقليدي للنقابات في العالم كله.
قد يتنصل الأمين العام لاتحاد الشغل نورالدين الطبوبي من “العقد الاجتماعي” مع الحكومة واتحاد أرباب العمل، وهذا متوقع في محاولة لامتصاص الصدمة على منتسبيه الذين تعودوا في السنوات العشر الماضية، وفي ظل ضعف الحكومات السابقة وقلة معرفتها بالملفات، على أخذ “حقوقهم” بالقوة من خلال الإضرابات والاعتصامات والضغط بالشارع.. لكنها ستكون مناورة مؤقتة لأن من مصلحة الاتحاد أن تنتهي مرحلة الفوضى وأن يعود إلى دوره الطبيعي الذي يقوم على معادلة “خذ وطالب” التي فسر بها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة كيف قبل بالاستقلال الداخلي في مرحلة أولى قبل الحصول على الاستقلال التام.
ما يجري على الجبهة الاجتماعية بدأت مؤشرات كثيرة على أنه سينتقل إلى الجبهة السياسية التي بدأ الصراخ فيها يتراجع ويترك مكانه للتصريحات التي تظهر الرغبة في العبور إلى المرحلة الجديدة ولو دون مكاسب كما جاء في تصريحات لبعض قيادات حركة النهضة مثل راشد الغنوشي ونورالدين البحيري.
الآن استكمل التونسيون المعترضون على الاستفتاء طعوناتهم وتصريحاتهم، وقد حسم القضاء في الأمر، والواجب الآن العودة إلى العمل السياسي الحقيقي الذي يمكن أن يخدم البلد، بدلا من أن يخدم تيارات الإسلام السياسي أو مواقف اليسار الذي يتذمر ولا يرضى عن أحد.
لا أحد يريد من الأحزاب العقلانية والبراغماتية أن تنقلب إلى صف الرئيس قيس سعيد وأن تصفق وتقود حملات مناشدة له، فذلك نفاق، والرئيس نفسه يعرف ذلك، وسيأتي الوقت الذي يتخلص فيه من المدّاحين المطبّلين الذين يريدون استثمار خصومة قيس سعيد مع بعض الأحزاب والشخصيات ليتسللوا إلى السلطة ويملأوا الفراغ من حول الرئيس الذي لا يمتلك حزبا سياسيا داعما له ليكونوا هم “حزب الرئيس” و”حزام الرئيس”، وهي خطة معلومة واللاعبون مكشوفون تماما.
المطلوب من الأحزاب أن تقفز من سفينة الفوضى والشعارات والمزايدات إلى السفينة الجديدة، سفينة الدستور الجديد والاستفادة من الإمكانيات التي يتيحها من أجل التأسيس لمعارضة جديدة لا تقوم على استهداف الأشخاص والهجوم على الخصوم بل على تقديم برامج واضحة يمكن للمواطن أن يلمس من خلالها مصلحته، برامج تحمل حلولا اقتصادية واجتماعية واقعية يمكن أن تأخذ بها الحكومة كما يمكن أن تتحول إلى برنامج مشترك بين مختلف قوى المعارضة في البرلمان أو في مجلس الجهات، تماما مثلما يحصل في الغرب حيث يتنافس اليسار والمحافظون حول مقترحات للحد من الضرائب ومشاريع قوانين لتحسين الخدمات الصحية.
لقد كشفت عشرية الثورة (2011 - 2021) أن الأحزاب التونسية لم تتغير، ظلت كما هي منذ أن تشكلت كمجموعات سرية في عهد بورقيبة وبعده بن علي.. كانت تكتفي بالبيانات التي تصب جام غضبها على السلطة من دون أن تمتلك أي برامج أو خطط عملية يمكن أن تعرضها على الناس إما لتغيير المنوال التنموي، وهو أمر صعب ومعقد وأبعد ما يكون عن الشعارات الانتخابية، أو لسن قوانين خادمة للفئات والمناطق المهمشة.
الآن سينتهي كابوس الشعارات والصراع المحموم على السلطة، وستجد الأحزاب فرصة لتأسيس إستراتيجياتها من جديد، وتعرف أن الشعارات الكبرى لا تحمل الحل، وأن التغيير يبدأ من التفاصيل الصغيرة، وهو ما يجعل الخطط المطلوبة تركز على تقديم حلول معقولة لخدمة المعتمديات والمحافظات، أي برنامج يختبر من أسفل ويتم تصويبه مرارا قبل أن تتقدم به ليكون منافسا على المستوى الوطني.
ومن المهم الإشارة إلى أن الفرصة مواتية لبناء ثقافة إصلاحية براغماتية بديلة عن خطاب التغيير الكلي الذي تحمله أحزاب الأيديولوجيات، وهو خطاب بان بالكاشف أنه طوباوي، وأنه حين ينزل إلى الأرض يفقد كل بريقه، فقد حكم الإسلاميون مثلا وبمشاركة أحزاب من يسار الوسط، وفي حكومات أخرى مع أحزاب من وسط اليمين، لكن لم تعرض برامج وأفكار يمكن أن تقود إلى تغيير وضع الناس. كانت شعارات عامة مهووسة باجتثاث الآخر من عرض الأفكار التي يمكن أن تقود إلى التغيير.
الآن استكمل التونسيون المعترضون على الاستفتاء طعوناتهم وتصريحاتهم، وقد حسم القضاء في الأمر، والواجب الآن العودة إلى العمل السياسي الحقيقي الذي يمكن أن يخدم البلد
على الجميع أن يمشوا على الأرض حكومة وأحزابا ونقابات ورجال أعمال، فلا أحد يمتلك المصباح السحري لتغيير الوضع، فقط هناك فارق بين مرحلة اتسمت بالصراعات المحمومة للسيطرة على المؤسسات السيادية وحيازة الحقائب الوزارية أو حرق الأرض بمن فوقها وشعار “أنا ومن بعدي الطوفان”، وبين مرحلة جديدة تتسم بالهدوء وتعطي فرصة للأفراد والكيانات، مبدئيا، من أجل الاقتراح والمشاركة في بناء المرحلة القادمة.
ومن المهم أن تتفرغ الحكومة والرئيس سعيد لمعالجة القضايا الحياتية للناس. كل الظروف باتت مواتية لتنفيذ الخطط والبرامج إن كانت موجودة. لا يجب أن نقف عند شعارات الحرب على الفساد وتبديد المال العام، تلك مهمة على جنب يمكن أن تمشي الحكومة في متابعتها وتقدم ما تمتلك من وثائق للقضاء الذي من حقه وحده أن يحسم الملفات ويصدر الأحكام.
الناس لم يعودوا يتشوقون لقصص المتهمين بالفساد، سياسيين أو نقابيين أو رجال أعمال أو كوادر إدارية، لسبب بسيط أنهم لم يروا نتائج على الأرض. فلا أحكامَ قد صدرت ولا أموال قد تمت استعادتها سواء في الداخل أو الخارج. إلى الآن لم يغادر الأمر مرحلة الاستثمار السياسي، وهي مرحلة ستنتهي لأن الناس يريدون الأفعال ليس فقط في حسم هذا الملف الفضفاض والمقلق، ولكن وهو الأهم من خلال بدء الحكومة في تنفيذ برامج اقتصادية واجتماعية عاجلة ليرى الناس الأمل في التغيير، وأن تصويب ما أفسدته السنوات العشر الماضية ممكن.
ما ينبغي هو أن تقف الحكومة عند خطة واحدة، وهي الرهان على صندوق النقد الدولي وإصلاحاته، فذاك مسرب طويل وملتو وفيه شروط وتعقيدات كثيرة. لا بد أن تبدأ من القضايا التفصيلية ليرى الناس أثرا في حياتهم، طبعا بعيدا عن المنح الموسمية التي تعطى لضعاف الحال والعاطلين عن العمل فتلك رشى جربت في المرحلة الماضية وفشلت.
حين تبدأ الحكومة بتنفيذ مشاريعها، فهذا سيخلق فراغا حول المعارضة ليصبح عرض أي متهم على القضاء في تجاوزات سياسية أو قضايا فساد، أو استهداف حفل لمغنّ أو مسرحي بإلقاء البيض عليه أو الانسحاب من عرضه، بمثابة قشة نجاة للمعارضة لتطل من بوابتها على الناس وتنتقد السلطة.