ثقافة الخيزران

أمضيت الشهور الفائتة مشغولا بتفسير سبب انتشار الفيديوهات التي تظهر فقراء في أنحاء آسيا وأدغالها، بأجساد لا يغطيها إلا القليل من الملابس، وهم يصنعون مبتكرات يمضون الوقت في تركيبها من خشب الخيزران.
وكانت تلك المبتكرات التي تتدفق عبر أحدث برامج التواصل الاجتماعي وتقنيات التصوير، شديدة التفاهة، لا تسمن ولا تغني من جوع، من طراز ساقية ماء، مدخل حديقة وسط الطين، مظلة ضد المطر، كرسي هزاز، مصيدة سمك بحجم الكف، وأخطر تلك البدائع كان شباكا يتيح لك إمكانية فتحه وإغلاقه بخيط!
لم أفهم الحكمة من وراء بث هذا الوعي في هذا التوقيت بالذات، هل هو جعل البشرية تطلع على المجتمعات المسحوقة والمسحوقة جدا حدّ الحضيض؟ أم القول إن تلك الحياة وسط الطين أفضل من حياة الحداثة والتمدن.
ولا أستطيع حين أهمس بكلمة الخيزران نسيان امرأة كان لها تأثير كبير على تاريخنا وحياتنا، بل إن قيادتها لأسرتها شكّلت مسارنا الحضاري، هي الخيزران بنت عطاء، هل تعرفها؟ ربما البعض يعرفها من الدراما التاريخية التي شوهت صورتها، وقد يكون آخرون اطلعوا على سيرتها التي تناقض ثقافة الخيزران التي يراد لنا أن نتشبع بها ليلا نهارا هذه الأيام.
تم اختطاف هذه المرأة وبيعها في سوق الجواري، على الرغم من كونها أصيلة من بنات جرش، وصلت إلى بيت الخليفة العباسي المهدي الذي أحبّها ورفع مقامها، وأنجب منها اثنين من الخلفاء سيكون لهما شأن لدى كل منا، الخليفة الهادي والخليفة هارون الرشيد.
كانت الخيزران أول سيدة عربية تضع أسس البيروقراطية وخصصت لنفسها محكمة تستقبل معاريض الناس وشكاواهم، وبرعت في شؤون الحكم وإدارة الدولة، وكانت تكافئ البارزين في المجتمع وتعاقب المتخاذلين والفاسدين حين تصلها أنباؤهم.
بنت الخيزران لنفسها دولة في الخلفية، داعمة لزوجها وابنيها حين وصلا إلى الحكم، ويذكر التاريخ أنها جمعت ثروة طائلة دون أن تمدّ يدها إلى بيت المال، بل من خلال ذكائها الحاد وتبادلها التجاري مع الدول الأخرى. وحين مات زوجها كتمت أمر وفاته وأدارت شؤون الدولة في بغداد حتى انتقلت السلطة بسلاسة إلى ولدها الهادي ثم ابنه الرشيد الذي ترك بصماته على العالم كله.
كانت المرأة بما تعنيه كزوجة وأم وفرد في المجتمع أعلى قيمة في الحضارة العربية مما نسمع اليوم من تنظيرات تضعها في مقام المضطهد المهضومة حقوقه. أما رسالة البؤس التي تأتينا عبر خيزرانات التيك توك وهؤلاء الحفاة العراة المنسجمين تماما مع الطين والماء فهي شكل من أشكال التمرّغ المقصود في الوحل والانحسار المدني ينشره صنّاع المحتوى كيدا بالحضارة وأهلها.