عقلية الجحود إلى متى

منطق التوازنات والأجنحة وحسابات الربح والخسارة لا زال يسيّر مؤسسات الدولة ووفقه أضاعت الجزائر على نفسها عقودا في الصراع على السلطة بدل الاحتكام إلى شرعية الشعب وثقافة الاعتراف بالآخر.
الأربعاء 2022/08/10
صراع على السلطة

تابع الجزائريون باستغراب شديد تغير موازين القوة العكسي والمفاجئ داخل مؤسسة الجيش، ففيما تم إعادة الاعتبار لضابطين ارتبطا بالعشرية الدموية، وكانا إلى عهد قريب تحت طائلة الاتهام والسجن، جرى تجاهل كلي لرجل شكل منذ العام 2018 صلب القرار السياسي والعسكري في البلاد، وهو من زج بالمكرمين في سجن البليدة وسط دهشة الجميع حينها.

تكريم خالد نزار ومحمد مدين، مقابل تجاهل أحمد قايد صالح، أعاد تقليد الجحود والتنكر الذي يدير مؤسسات الدولة ورموزها، فإذا كان العديد من الشخصيات قد لقوا حتفهم خلال ثورة التحرير على يد رفاقهم، وعلى رأسهم المناضل عبان رمضان، فإن الذرائع التي أطلقت لتبرير مثل تلك الأفعال، لم يعد لها مكان بعد الاستقلال، وإلا ما معنى وما ماهية الدولة والمجتمع.

لقد قيل بأن التغيير هو ثورة وكل ثورة هي سلوك عنيف لا تقوم به ملائكة، بل بشر يخطئون ويصيبون، فيقع الضحايا والتصفيات كما حدث في ثورة التحرير الجزائرية، خاصة وأنه ليست هناك ثورة مسلحة منزهة من الأخطاء والتجاوزات، وإنما العبرة في النتائج والتغيير المستحدث، لكن أن يستمر تقليد الجحود والنكران بعد انتفاء أسبابه فذلك دليل على أن خللا مّا لا زال يلف مشروع الثورة أو الاستقلال نفسه.

وبين الدهشة والاستغراب تم تكريم الرجلين وضباط آخرين تحت يافطة الربط بين جيش التحرير الوطني والجيش الوطني الشعبي، لكن تم تجاهل أحمد قايد صالح، وهو القريب من كل هؤلاء في طقوس التشريفات الرسمية، فلقد ظل إلى غاية نهاية العام 2019 الآمر الناهي، وهو الكل في الكل وهو السلطة وهو المؤسسات، فما الذي حدث حتى يتبلور كل هذا الانقلاب.

لا زال الجزائريون يتذكرون، الصور التي بثها التلفزيون الجزائريون العام 2019، بعدما تظاهر أنه التقطها خلسة في مبنى المحكمة العسكرية بالبليدة، وهي تبرز سعيد بوتفليقة، لويزة حنون، محمد مدين، وبشير طرطاق، يساقون إلى القاضي العسكري لينظر في تهم الخيانة والتآمر التي أوعز بها أحمد قايد صالح بها ضدهم، وقيل حينها إن الحراك حقق أهدافه وإن الجيش يدعم الحراك ولا داعي في استمرار الاحتجاجات والمظاهرات.

الخوض في أسباب الأزمة يحيل إلى الكثير من الاختلالات، لكن يبقى منطق الإقصاء والاحتماء بالقوة، على حساب ثقافة الاعتراف وتسيير الاختلاف، أحد تلك الأسباب التي فوّتت على الجزائر فرص إرساء تقاليد وممارسات الدولة الحديثة

آنذاك حذر معارضون من الفخ الذي نصب للحراك، رغم أن الكثير انساق وراء الانتشاء بسجن رموز السلطة، واعتبر المسألة جزءا من لعبة موازين القوة داخل أعتى مؤسسات الدولة، وأن جناحا تغلب على جناح آخر، والأمر لا علاقة له بتحقيق مطالب الحراك الشعبي المطالب بالتغيير والرحيل الكلي للنظام القائم.

والظاهر أن الجناح المسجون يعود بقوة وبتكريم من أعلى هرم السلطة، بينما يتلاشى جناح السجان ككرة ثلج، فقد فارق أحمد قايد صالح، وزج برفاقه ومقربيه في السجون، لتستمر ثقافة الجحود والنكران بين مؤسسات الدولة ورموزها، ويتكرس الاختلال الكبير في مفاصلها وفي ثقافتها، فهي لا زالت تتعامل بمنطق “الفارس الذي ركب اليوم”، وليست مستعدة للاعتراف بذلك.

منطق التوازنات والأجنحة وحسابات الربح والخسارة لا زال يسيّر مؤسسات الدولة، ووفقه أضاعت الجزائر على نفسها عقودا في الصراع على السلطة، بدل الاحتكام إلى شرعية الشعب وقبلها إلى ثقافة الاعتراف بالآخر مهما كانت الاختلافات والخلافات، ولذلك ضاعت منها الحقيقة التي يريدها الناس.

أحمد قايد صالح كان أنانيا ولم يتصرف بما تمليه المرحلة ولا بما قاله الشعب، وحاول التأسيس لنفسه على حساب الآخرين، ولذلك عاد الآخرون وانتهى هو إلى هذا التجاهل الكبير، وهو ليس الوحيد في هذا المنطق الذي يحكم رأس الدولة، فقد ظل المناضل مصالي الحاج يسوّق للأجيال في المناهج المدرسية والإعلام والخطاب الرسمي على أنه عميل وخائن، بينما هو أب الحركة الوطنية في الجزائر، وأول من تبنى مطلب الاستقلال رغم جنونية الفكرة حينها.

وانتهى أصغر عقيد في جيش التحرير الوطني محمد شعباني، إلى سجين ومعذب ثم أصبح قتيلا من طرف الرفاق في سلطة الاستقلال، وذنبه الوحيد أنه رفض بعض خيارات تلك السلطة، لكنه اتهم بالعمالة وبتهديد الوحدة الوطنية، وعاش المناضل والشاعر مفدي زكريا لاجئا في تونس، ولم يشفع له تأليفه للنشيد الرسمي للدولة للعيش معززا مكرما في وطنه.

الكثير من هذه النماذج تحتّم على الدولة مراجعة ثقافة التداول على السلطة، وتسيير الاختلاف بثقافة الاعتراف وليس بالإقصاء والتهميش وحتى التصفية الأبدية، فقد عاش الرجل الثاني في جمعية العلماء المسلمين المصلح والمفكر البشير الإبراهيمي في الإقامة الجبرية، وقضى محمد بوضياف وحسين آيت أحمد جزءا من حياتهما في المنفى بالمغرب وسويسرا، وسيّرت المظاهرات الشعبية المفبركة في التسعينات للتنديد بخيانة عقلاء البلد وعمالتهم، لا لشيء إلا لأنهم اجتمعوا في الخارج ودعوا السلطة آنذاك إلى وقف حمام الدم والذهاب إلى حوار وطني جامع.

والآن يعاد الاعتبار أمام الملأ لرموز الدولة العميقة التي تشوبها الكثير من الاتهامات والشكوك، ويُمسح أحمد قايد صالح من الذاكرة والخارطة وحتى من أقرب الناس إليه خلال عزته وسطوته.

الخوض في أسباب الأزمة يحيل إلى الكثير من الاختلالات، لكن يبقى منطق الإقصاء والاحتماء بالقوة، على حساب ثقافة الاعتراف وتسيير الاختلاف، أحد تلك الأسباب التي فوّتت على الجزائر فرص إرساء تقاليد وممارسات الدولة الحديثة التي تحتضن جميع أبنائها مهما كان الحاكم ومهما كان المحكوم.

9