تمام عزام المشاع البصري حين ينقل الأفكار والمشاعر بلا حدود

الفنان الرقمي السوري والعالم الجديد.
الثلاثاء 2022/08/02
تمام عزام فنان يستحضر الكائنات المغادرة

لم تكن في العالم العربي من قبل حقوق معنوية ومادية للأفكار التي يمكن أن تكون قد ظهرت في لوحة أو كتاب أو فيلم في مكان من العالم، كان يمكن استخدام كل شيء من جديد وإعادة تدويره بلا حسيب ولا رقيب والنقد كان خافتا غائباً قليل الانتباه، فضاعت بذلك الكثير من الحدود بين الأصل والنسخة المأخوذة عنه.

غير أن هذا العصر بدأ ينطوي مع ثورة الاتصالات وتطوير القوانين وانتشار المعرفة والثقافة البصرية بين المتلقين والنقاد ناهيك عن الفنانين أنفسهم، وباتت التحديات أكبر في صناعة لوحة أصلية تنتمي إلى نموذج ومدرسة يؤسس لها الفنان ذاته دون أن يستعيرها خلسة من غيره.

الفنان السوري تمام عزام  الذي يطيب للنقاد وصفه بالرسام الرقمي، تجاوز تلك المرحلة إلى التخلص من عقدة اختلاس الملامح، إلى الاستعمال الجريء والواضح لها ولكن على طريقته الخاصة مرسّخاً ما بات يعرف بالمشاع المعلوماتي حتى في الفنون البصرية. فصرت ترى لوحة غوستاف كليمت الشهيرة ”القبلة“ ولكن بتوقيع عزام. كيف حدث ذلك؟ ببساطة لأن الخلفية التي يستعملها عزام أكبر من أن تتهم باستنساخ عمل ما بقدر ما تصنع المفارقة بين عالمين، عالم الفن المستقر، وعالم السوريين المتزلزل تحت أقدامهم.

”غرافيتي الحرية“ عمل من أكثر أعمال عزام انتشاراً حول العالم، وقد قام بصنعه بوضع لوحة كليمت الذهبية الأسطورية على مبنى محطّم تحت قصف الصواريخ والقذائف. وكان ذلك جزءاً من مشروع عزام الذي أطلق عليه عنوان ”المتحف السوري“ ويا له من متحف غني بصرياً يتجاوز ثراء التفاصيل فيه حتى لغة السياسة والأخبار.

الشاشة وحزمة الألوان

"غرافيتي الحرية" عمل من أكثر أعمال عزام انتشاراً حول العالم، وقد قام بصنعه بوضع لوحة كليمت الذهبية الأسطورية بحجم عملاق على مبنى محطّم
"غرافيتي الحرية" عمل من أكثر أعمال عزام انتشاراً حول العالم، وقد قام بصنعه بوضع لوحة كليمت الذهبية الأسطورية بحجم عملاق على مبنى محطّم

ولد عزام في العام 1980 في أسرة درزية من جبل العرب، ودرس بكلية الفنون الجميلة في دمشق، وتخرّج من قسم التصوير الزيتي عام 2001. شارك في ورشات عمل تدريبية عدة، أشرف عليها رسّامون بارزون. وكان من سوء حظّه أو من الفرص النادرة التي أتيحت له أن يتم جلبه للخدمة العسكرية مع ربيع العام 2011 أي لحظة انفجار الأوضاع في سوريا. ستتغيّر حياة الفنان التي كانت قد بدأت للتو، وكان عليه أن يدخل امتحان رؤية ما يجري في بلاده عن كثب، من قلب آلة الموت والدمار، فقرر بدلاً من ذلك الهجرة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، رافضاً المشاركة في أيّ عنف.

في دبي قال عزام إنه وجد نفسه عارياً من كل شيء، لا أدوات رسم، ولا مرسما ولا شيء يمكنه أن يواصل به مسيرته الفنية، كان لديه كائن وحيد قادر على تعويض ذلك كله، جهاز الكومبيوتر.

بالعمل التركيبي الرقمي، والأفكار المختلفة تقدّم عزام خطوات عن غيره من الفنانين الذين علقوا في صدمة اللحظة، فالتعبير المباشر أبسط الأساليب، إلا أن الزمن زمن مختلف، وخبر قصير أو مقطع فيديو حقيقي أكثر تأثيراً من أيّ عمل فني رمزي لرسام. كان مفصلاً كبيراً جعله يقرر مغادرة اللغة المباشرة التبسيطية إلى الكولاج وعالمه.

أنتج عزام العشرات من الأعمال التي راجت وانتشرت بصورة كبيرة معتمدة على السوشيال ميديا وقوة الاختزال، ولم يكن يمانع من استخدام أيّ شيء في سبيل قول كلمة واحدة، وهكذا صارت الموناليزا، سيدة دافنشي وساكنة اللوفر، تفصيلاً صغيراً في لوحاته لا لوحة مركزية الحضور والثقل.

حين يرى عزام مبنى مدمراً فأنت لا ترى الحالة التي هو عليها في لحظته هذه وحسب، بل يراه كما كان، حافلاً بالحياة ونابضاً بالبشر الذين سكنوه، النساء والأطفال والشجيرات، بوسع مشاهد لوحات عزام رؤية هذا كله دون أن تكون تلك العناصر حاضرة، حتى في ظلال لأطفال يرقصون فوق الخرائب.

الدمار جزء من عمارة اللوحة

عزام يستحضر الكائنات المغادرة ويجلب معها حكاياتها خالطاً جميلات غوغان مع الدخان والحرائق
عزام يستحضر الكائنات المغادرة ويجلب معها حكاياتها خالطاً جميلات غوغان مع الدخان والحرائق

استحضر الكائنات المغادرة، وجلب معها حكاياتها. خلط جميلات غوغان مع الدخان والحرائق، وجعل من ذلك كله وصفة جديدة، قد لا تكون محزنة كما يخيّل للبعض عند وصفها، بل تبدو كمحاولة لاستعادة الحياة والإصرار عليها رغم كل شيء.

وكانت ثقافته الشخصية العميقة واطلاعه المواكب على أحداث العالم المفصلية جزءاً أساسياً من قدرته على ربط الصور ببعضها البعض، فسوريا هي مانهاتن والأبنية هي ذاتها برجا مركز التجارة العالمية، والإرهاب واحد مهما اختلفت أقنعته.

يقول عزام في حوار أجرته معه مارتينا صبرا في موقع قنطرة قبل سنوات ”حين لا يأتي العالم إلى سوريا، ولا ينظر إلى سوريا، فسوريا هي التي تذهب إلى العالم“. وقد مكّنته تلك المعادلة من الذهاب بالمشاهد السورية مع ألوانه ومؤثراته وتدخلاته الرقمية إلى أبعد مدى حول العالم، إلى أن استقر في برلين.

بعد تلك المرحلة توجّه عزام نحو الغرافيك مجدداً، مطوّراً أسلوبه الذي أصبح بصمة خاصة به، وبـ”المدن  المنسية“ عنوان أحد معارضه الذي افتتحه في غاليري هينز بسان فرانسيسكو قدّم فضاءات جديدة للوحة، لم يكن قد بلغها في تصوفه الرقمي إن صح التعبير.

قال منظمو المعرض آنذاك إن عزام ”قام بتطوير ممارسة ديناميكية تتضمّن الرسم والتركيب والفن التصويري الرقمي والورقي، وفي لوحاته الجديدة يجمع بين الطلاء مع قطع ملونة من الأوراق الممزّقة، مقدّماً صوراً لوطن دمرته سنوات من الصراع العنيف: المباني المنهارة، والحافلات المهجورة، والأسطح المكسورة في المدن القديمة التي كانت مزدحمة ذات يوم“.

إهانة الجمال

الوجوه التي يرسمها عزام بدلاً عن المباني لا أمامها تمييز عمارة الإنسان عن عمارة البنيان في المشرق الذي يحاول الخروج من دماره
الوجوه التي يرسمها عزام بدلاً عن المباني لا أمامها تمييز عمارة الإنسان عن عمارة البنيان في المشرق الذي يحاول الخروج من دماره

وفي مرحلته الجديدة، لم ينتبه عزام إلى أنه كان من البداية يتحدث عن مغادرين رحلوا عن عوالمهم، وكان سؤاله الدائم في كل لوحة ”هل سيكون هذا الرحيل إلى الأبد؟“.

سيجيب عن ذلك السؤال عبر البورتريه، والوجوه التي رسمها بدلاً عن المباني، وكيف يمكن تمييز عمارة الإنسان عن عمارة البنيان في المشرق الذي يحاول الخروج من دماره؟

في مكان في الشمال السوري، حيث إدلب تقبع “المدن المنسية“ وهي مدن أثرية قديمة تعود إلى القرن العاشر الميلادي، يحمل اسمها من البلاغة ما يجعلها مادة شهية لكل فنان أو كاتب يريد إسقاطه على الواقع الحالي. من هناك قرّر عزام أن يجلب ملامحها إلى حلب ودمشق وكل مكان يمكن لعينه أن تقع عليه.

كما لو أن عزام يريد القول إن ما وقع من تخريب في بلاده، هو إهانة للجمال، يقول “هذا هو تاريخ البشر، بعضهم يمارس القتل والحروب، وهنالك من يحاول ممارسة الحياة دومًا”. يزيد عليه غضبه من انتشار كبير للصور والفيديوهات الشنيعة التي تسببت بالأذى للأعين والأرواح والذوائق الجمالية.

لم يكن بعيداً عن روح التهكم التي يتيحها ”الديجتال آرت“ وهي روح قائمة في جانب منها على الكاريكاتير والسخرية من الأصل، فها هو تمثال الحرية الأميركي يبرز في أعمال عزام، لكن على طريقته هو، بعد الذي رآه العالم في أبوغريب بالعراق وفي سوريا، أعاد عزام بناء تمثال نيويورك الأكثر حضوراً وشهرة في الأذهان، ولكن من قطع من المباني المدمّرة، وقال حينها عندما انتشرت لوحته وعبرت القارات مثيرة العديد من التساؤلات إن “تمثال الحرية في نيويورك لا يمثل السياسة الأميركية وعندما استعملته استعملت رمز الحرية فقط، وهذ العمل يحمل رسالة تفاؤل“.

روح التهكم التي يتيحها "الديجتال آرت" والقائمة على السخرية من الأصل، يبرز عزام من خلالها تمثال الحرية الأميركي على طريقته، بعد الذي رآه العالم في أبوغريب بالعراق وفي سوريا

قد لا يصح التفاؤل الذي أضمره عزام وقتها، بقدر ما تصح سخرية الأقدار، والمفارقة بين الخيال والواقع.

في معرضه ”الطريق” الذي أقامه في غاليري “أيام” بدبي، قدّم عزام هذه المرة ست لوحات زيتية كبيرة على قماش، وكانت أسعار لوحاته مفاجئة للجميع، فسعر اللوحة الزيتية المرسومة على قماش، بين 30 ألف و60 ألف دولار، بينما تباع اللوحة الرقمية بمبلغ 20 ألف دولار.

في ذلك المعرض كان الفراغ هو لعبته، فراغ وصفه بأنه ”طريق ضبابي لا نعلم كيف ستكون نهايته“، وكثيراً ما كان يقول “الفراغ جعلني أشعر بالرعب. وأنا أريد أن أتحدث عن ذلك“.

وتحدّث عزام وبقي يتحدث عن ذلك الضباب، في مشاركاته في معارض دولية حول العالم، في ساراييفو وبينالي فانكوفر، وبينالي مهرجان التصوير، هيوستن؛ وبينالي داكار للفن الأفريقي المعاصر، داكار؛ وبينالي الإسكندرية.

وعرضت أعماله في متاحف جنوب تيرول بإيطاليا، والبينالي الدولي للفن المعاصر بكاراكاس؛ وخلال عاصمة الثقافة الأوروبية بافوس؛ ورحلت إلى جامعة كولومبيا بنيويورك؛ ونحو غاليري فريمر فريمد، أمستردام؛ وغاليري لينا وروزيلي، ببودابست؛ وليكيد آرت هاوس، ببوسطن؛ وعرضت في متحف بوسان للفنون بسيؤول؛ وفي غاليري 1×1 بنيودلهي.

هذا الحضور غير العادي لفنان رقمي عربي، رسالة قوية إلى غيره من الرسامين من أبناء ثقافته العربية الذين حافظوا على الأدوات ذاتها، ولم يتمكنوا من الانتقال نحو العصر الجديد، ومع أن عزام نجح في المغامرة الرقمية العابرة للثقافات، إلا أنه بقي وفياً لمن يعتبره المعلّم والملهم الأول له، الفنان الراحل مروان قصاب باشي.

سيدة دافنشي وساكنة اللوفر صارت تفصيلاً صغيراً في لوحات تمام عزام لا لوحة مركزية الحضور والثقل
سيدة دافنشي وساكنة اللوفر صارت تفصيلاً صغيراً في لوحات تمام عزام لا لوحة مركزية الحضور والثقل

 

12