تونس: المطلوب ديمقراطية واعدة بعد الاستفتاء الناجح

قبل أن يمحى ويختفي الحبر الانتخابي من أصابع التونسيين، ينبغي لهم أن يتنبهوا إلى أن الصناديق القادمة لن تكون استفتائية تتحكم فيها وتختصرها كلمتا “نعم” و”لا” بل سوف تتنافس عليها أحزاب وشخصيات سياسية ذات برامج متلوّنة.
اللعبة الديمقراطية التي اختارت تونس “التورط” فيها منذ 2011، لا تتحمل عقلية الاستفتاء أو المبايعة بل الاختيار الحر والنزيه والشفاف.. وهو أمر يبنى بالتعلم والتقادم بعد الكثير من الهفوات والكبوات.
التونسيون سريعو التعلم وقد بلغوا من النضج ما يجعلهم لا يقبلون بالوصاية أو الانضواء في صفوف التلاميذ الأبناء كما كان الأمر فترة حكم الزعيم الحبيب بورقيبة أثناء مرحلة بناء الدولة الوطنية.
أما فيما يخص الاستفادة من الأخطاء والهفوات فقد استفاد التونسيون من أخطاء سياسييهم بما يكفي ليجعلهم ينتفضون ضد الخطائين دون تردد.. وهذا ما حدث في 25 يوليو العام الماضي حين حاصروا مبنى البرلمان، وجاء قيس سعيد لينفذ إرادتهم ويقوم بما ينبغي القيام به.
والمقصود من كلمة “الخطائين” هنا هم بارونات الفساد والمتلاعبون بالأموال العامة الذين جثموا على صدور التونسيين عقدا من الزمن وحكموا باسم الإسلام السياسي المتحالف مع الفساد الإداري والعمالة لقوى أجنبية مشبوهة.
بعد كل هذا المشهد القاتم للبلاد التي كادت تعصف بها الأزمات، لسائل أن يسأل: أين دور الأحزاب والنخب السياسية أمام كل ما يجري، خاصة ونحن نتحدث عن بلد ليس حديث العهد بالتنظيمات الحزبية التي عرفها منذ منتصف القرن الماضي رغم هيمنة الحزب الحاكم منذ عهد بورقيبة.
أين دور القيادات الحزبية التي يصفها بعضهم بـ”التاريخية” إزاء تأثيث مشهد سياسي قوي فاعل ومسؤول، يأخذ على عاتقه هذه الديمقراطية الناشئة ويوصلها إلى بر الأمان والنضوج؟
هل عقرت السياسة وتصحرت إلى الحد الذي اقترنت فيه أسماء بعض القيادات الحزبية التي كانت بالأمس، وازنة بالانتهازية السياسية والتحالف مع حركة النهضة في محاولتها لاسترجاع هيمنتها على الدولة عبر الحكومة والبرلمان.
كل من يؤمن بالحريات يدرك أن لا ديمقراطية تقوم من دون أحزاب أو بأحزاب مترهلة وقد بلغت سن اليأس، وهذا الأمر لا يمكن بناؤه بسهولة في بلد مثل تونس
الحقيقة أن التونسيين فقدوا الثقة بالأحزاب منذ أن اختاروا للرئاسة رجلا لم يقدم على صهوة حزب ولم تتلوث يداه بالأموال المتسخة، وانتخبوه رئيسا للبلاد بأغلبية ساحقة.
هذا يدل على شيء واحد: ثقة مطلقة في قيس سعيد، وكفر واضح بالأحزاب التي تتقاتل قياداتها فيما بينها من أجل الغنائم والمناصب.
ولأن التعميم لغة الحمقى، فلا يمكن التغافل عن بعض الأحزاب والشخصيات الوطنية التي وقفت لتحمل المسؤولية.. وهؤلاء يمكن أن يعوّل عليهم مستقبلا من أجل استصلاح الحياة السياسية وإكمال بناء الديمقراطية التي لا يمكن أن تسود مع اللون الواحد والرأي الواحد.
وهذا الأمر منوط بالسلطة والإرادة الفاعلة من الهيئة العليا للدولة كحاضنة ومفعلة للحراك السياسي وداعمة له، لأنه ليس من مصلحة التونسيين أن يتحول سياسيوهم الحزبيون إلى قطع أنتيك في خزانة التاريخ الحديث للبلاد.
نعم، إن الترهل بدا واضحا في هيئة الأحزاب التقليدية وقياداتها، لذلك لا بد من تشبيبها وضخ دماء جديدة في عروقها.
وهذا الدور لا يمكن أن تتصدى له إلا جماهير الشباب الذين ناصر قسم كبير منهم قيس سعيد وأخذوا على عاتقهم دعم حملته الانتخابية لرئاسة الجمهورية سنة 2019.
المطلوب طبعا، ليس جمهور قيس سعيد بالذات، ومطالبة أنصاره بإنشاء أحزاب، وإنما الاستفادة من تلك الروح الوثابة والتائقة إلى التجديد ومحاربة الفساد وازدراء المتاجرين باسم الدين والتدين.
ولا ينبغي أن يفهم من هذه الدعوة أنها إرساء نوع من “القيسية” (نسبة إلى قيس سعيد) أو على غرار الناصرية كتيار ساد ثم باد في العالم العربي، وإنما نوع من تمثل روح وطنية غيورة وحازمة في مكافحة الفساد.
كل من يؤمن بالحريات يدرك أن لا ديمقراطية تقوم من دون أحزاب أو بأحزاب مترهلة وقد بلغت سن اليأس، وهذا الأمر لا يمكن بناؤه بسهولة في بلد مثل تونس، لكنه ممكن بفضل تيار شبابي جديد بدأ يظهر في حكم الرئيس سعيد.. ولعله كان موجودا وظهر بفضل السياسة الحاسمة للرئيس.
أما عن سياسيي الأمس واليوم من زعماء الأحزاب المتهالكة فإنهم لا يُصلحون ولا يصلحون، وقد أزفت ساعة رحيلهم مع زعماء الإسلام السياسي الذين أذاقوا تونس الأمرّين ودفعوا بها إلى حافة الإفلاس خدمة لمآربهم الشخصية وأجنداتهم الخارجية.
وفي نهاية الأمر فإن المسألة ليست تكريسا لسياسة الشخصية الواحدة، ولا الاستنساخ منها، وإنما الاستفادة من فضائلها وركوب القطار في اللحظة الحاسمة والتوقيت المناسب.