الموت يقطع قلادة الغناء العراقي

الموسيقار محسن فرحان كان يتوج لحنه بالبناء الموسيقي في براعة لحنية تدور على روح النص لتعود إلى نفس النقطة، من دون أن تشعر الذائقة السمعية بالانتقالات المقامية.
الاثنين 2022/07/25
موسيقار لا يشبه أبناء جيله من الملحنين العراقيين

كان ذلك قبل ثلاثين عاما، وقفت بينهما وأنا ممسك بيد الصغيرة هنادي ابنة الفنان حسين نعمة، ممارسا “لعبتي الصحافية” بهدوء، علني أعيد تاريخا من الولع بينهما، وقد أحصل على ما لم يكن قد ذاع سره عن تلك الترنيمة “غريبة الروح” التي بقيت خالدة منذ بداية سبعينات القرن الماضي. ذكّر محسن فرحان ونحن نقف على باب منزل بيت حسين نعمة الصغير في الجادرية، وكيف تدربا معا على “غريبة الروح” على ضفاف نهر الحلة، قال له، وأنا الصحافي الشاهد بينهما، هل تذكر يا أبا علياء؟ ومن لا يذكر غربة الروح في تلك البلاد التي تغني منذ أن رثى ذلك السومري ابنته القتيلة!

بعد هذا اللقاء بأشهر قليلة، خصص تلفزيون العراق ساعة حوارية لحسين نعمة، وأعاد تصوير أغانيه القديمة التي بقيت تنبض بالحياة رغم ما مر عليها من عقود، ومن بينها “غريبة الروح” فقد كان قدر البلاد آنذاك الغناء وهي تسير نحو المجهول، فمَن لا يجد من العراقيين في الغناء حلا؟ مَن، أخبروني بالله عليكم؟

بعد أيام من الساعة الحوارية لحسين نعمة في تلفزيون العراق، زارنا أبوميديا إلى جريدة “الجمهورية”، وبمجرد أن أثرنا من جديد إعادة تصوير “غريبة الروح” قال لي “هل تعرف لم أنم ليلتها! بمجرد انتهاء الساعة التلفزيونية، لم يتوقف هاتف المنزل عن الرنين، كان الجميع يبث لي وجعه وسعادته في آن. نفد ليلتها الشراب في بيتي، وليس بمقدور القلب مداراة أوجاعه”.

كذلك أُرّخ لسيرة الموسيقار محسن فرحان بـ”غريبة الروح” مثلما أُرّخ لشاعرها جبار الغزي. رحل جبار ضائعا، وهذا الأسبوع فقدنا محسن فرحان، بينما حسين نعمة لا يملك في الحياة اليوم غير مداعبة أحفاده واستعادة تاريخه بمتعة من يشعر بالفخر والازدراء أيضا.

لا يشبه محسن فرحان أبناء جيله من الملحنين العراقيين محمد جواد أموري وطالب القره غولي وفاروق هلال وعبدالحسين السماوي، فقد كان يتوج لحنه بالبناء الموسيقي في براعة لحنية تدور على روح النص لتعود إلى نفس النقطة، من دون أن تشعر الذائقة السمعية بالانتقالات المقامية، لأنها تكون قد هوت عميقا في الولع.

إذا كان فرحان قد أرخ لسيرته اللحنية من “غريبة الروح” إلا أنه ابتكر لحنا غير مسبوق في تاريخ الغناء العراقي لصوت حسين نعمة أيضا “مابيّه أعوفن هلي”. ولا يمكن أن يذكر سعدون جابر أو قحطان العطار من دون محسن فرحان، فمجد جابر الفني لا ينتهي بلحن كوكب حمزة “الطيور الطائرة” بل ما صنعته ألحان فرحان من قصائد الراحل زهير الدجيلي “البارحة” و”يا نجوى”، ثم “عيني عيني” التي كتبها عريان السيد خلف، بينما لا يمكن التعريف بالعطار من دون أن يكون فرحان حاضرا. وليس بمقدور صاغة قلادة الغناء العراقي، البارعين، إلا أن يضعوا “يقولون غني بفرح” جوهرتها الثمينة، وتلك التي شكلت ثلاثية الغزي شاعرا وفرحان ملحنا ونعمة والعطار في أغاني تعبيرية عن “الغناء بفرح والغربة والأهل”.

كان آخر ما سمعته من أبي ميديا، اتصاله الهاتفي مختصرا عقودا من البعاد والمسافات بين بغداد ولندن، بعد مقالي المنشور في هذه الصفحة “الرثاثة السائدة تشوه الغناء العراقي” عندما شوه أحد الأميين في علوم الغناء لحنه الباذخ للعطار “شكول عليك” وقبلها مقالي “العراق برمته ينتظر رائعة غنائية” قائلا “يا كرم الحبيب، كم تتعمد إثارة أسايّ”.

رحل محسن فرحان هذا الأسبوع من دون أن يعيد الغناء المخطوف إلى عراقيته. وبقي العراق برمته ينتظر. فلا غودو يأتي ولا الموت يتوقف عن سرقة من نحب.

20