بعد عقود على رحيله هل ما زال عبدالحليم مطرب الشباب؟

دمشق تستذكر الفنان المصري الذي ما زال يعبر من جيل إلى جيل.
الاثنين 2022/07/25
أغاني عبدالحليم تعني الجيل القديم والجديد

يراهن المبدعون دائما على أن الفن الخالد يعبر حدود المكان والزمان، فالقيمة التي يقدمها تجعله مطلوبا في أي مكان وأي زمان. ما يزيد عن الأربعين عاما مضت على رحيل المبدع عبدالحليم حافظ، لكن أغانيه خالدة حتى لدى الشباب في العالم العربي. وفي أوبرا دمشق قدم أخيرا حفل موسيقي وغنائي عرض بعضا من تراثه لجمهور كان معظمه من الشباب، ما يؤكد على البعد الخالد للفن.

استضافت دار الأسد للثقافة والفنون (أوبرا دمشق) ليلة الواحد والعشرين من شهر يوليو الجاري حفلا فنيا حمل عنوان “رحلة مع الأنغام (حليم)” قدمته أوركسترا دمشق بقيادة المايسترو مؤيد الخالدي ومشاركة المغنين سومر النجار وريان جريده وهبة فاهمة وعبدالملك إسماعيل.

وقدمت في الحفل مجموعة من أغاني عبدالحليم حافظ، وكانت معظمها من التي قدمها في أفلامه السينمائية. وكانت البداية مع رائعة “قارئة الفنجان” للشاعر نزار قباني وموسيقى محمد الموجي وهي آخر أغاني الفنان الراحل، ثم قدمت أغنية “الحلوة” وهي من زجل مرسي جميل عزيز وموسيقى كمال الطويل وغناها ريان جريره، ثم أغنية “أسمر يا أسمراني”، زجل إسماعيل الحبروك وألحان كمال الطويل وغنتها هبة فاهمة.

أما ثالث الأغاني فكانت “تخونوه” وقد ألفها إسماعيل الحبروك ولحنها بليغ حمدي وغناها عبدالملك إسماعيل، وتلتها مقاطع من أغنية “موعود” وهي أغنية مسرحية كتبها محمد حمزة ووضع ألحانها بليغ حمدي وغناها ريان جريره، فأغنية بحلم بيك، التي كتبها مرسي جميل عزيز ولحنها منير مراد وغناها سومر النجار، وفي انعطافة للموسيقى التصويرية التي قدمت فيها تجربة أوركسترالية هامة قدمت أغنية خايف مرة أحب، زجل مأمون الشناوي ولحن بليغ حمدي وغناها عبدالملك إسماعيل.

نهاية الغناء السيء

أداء متجدد لأغنيات خالدة

ثم قدمت هبة فاطمة الأغنية الشهيرة “أنا كل ما قول التوبة” تأليف عبدالرحمن الأبنودي وموسيقى بليغ حمدي، ثم ينعطف الحفل نحو أجواء الرومانسية الشديدة بأغنية “ضي القناديل” التي كانت للسيدة فيروز وكتبها الأخوان رحباني ولحنها محمد عبدالوهاب، لكن الفنان عبدالحليم حافظ قدمها لاحقا، وقد أداها في الحفل ريان جريره، ثم قدمت أغنية “الهوى هوايا” وهي من أجمل أغاني فيلم “أبي فوق الشجرة” وقد ألفها عبدالرحمن الأبنودي ولحنها بليغ حمدي وكانت النهاية مع أغنية “قولولو الحقيقة” تأليف مرسي جميل عزيز وألحان كمال الطويل وغناها سومر النجار، لينتهي الحفل بأغنية وطنية شهيرة عربيا قدمها حليم بعد هزيمة عام 67 مع صديقه الأبنودي والطويل وهي “أحلف بسماها وبترابها” وكان يقدمها في مستهلّ كل حفلاته منذ ذلك الوقت.

رغم تخصص الموسيقي مؤيد الخالدي في الموسيقى الكلاسيكية، ودراسته لها في روسيا، لكن هاجسه الفني يتجه به نحو جذره في الموسيقى العربية، محاولا أن يصنع شيئا جديدا فيها من خلال تسخير علوم الموسيقى الغربية بالغة الدقة والرقي مع جوهر الموسيقى العربية المتميز بالغنى المقامي والحيوية والمرونة.

المايسترو الخالدي أوجد في العام الماضي مشروعا موسيقيا سماه “رحلة مع الأنغام” قدم فيه مجموعة من الأغنيات العربية لأسمهان ووديع الصافي وأم كلثوم وغيرهم، ويتابع في ثاني خطوات مشروعه مع عبدالحليم حافظ بمجموعة مميزة مما قدمه، ويبدو خيار الخالدي بوجود أغاني عبدالحليم حافظ محاطا بالخطورة، كونه يقدم لجمهور معظمه من الشباب الذين لم يعاصروه، لكن النتيجة كانت خلاف ذلك.

يقول الخالدي في ذلك لـ”العرب”: “كنت واثقا بأن رحلة مع الأنغام 2 سيكون ناجحا، اخترت أغاني الأفلام التي لها علاقة بذاكرة الناس ووجدانهم، وكنت مصرا على تقديم موسيقى عبدالحليم كما هي تماما، بالشكل المعروف لدى الناس، فنحن لم نغير في موسيقى الأغاني لأن أصحابها ملحنين كبار”.

الأغنية التي تحمل قيمة وتحتوي على كلام ولحن جميلين يمكنها أن تبقى وتعيش لفترات طويلة بين الأجيال

ويتابع “الفكرة التي دفعتني إلى تقديم المشروع هي قناعتي أن مرحلة الغناء السيئ قد صارت في نهايتها. والدليل على ذلك أن برامج الهواة التي تقدم فيها المواهب الشابة لا ينجح فيها إلا من يقدم أغاني قديمة أصيلة، وهذا ما يعني أن المجتمع العربي ما زال يؤمن بأن هذا الفن هو الصحيح والأصيل والباقي والآخر عابر، فالشباب والأطفال يسمعون هذا الغناء، والناس عطشى له لذلك يذهبون إلى الاستماع له في الحفلات، في البداية تخوفت من مستوى تلقي الجمهور لبعض المقطوعات بسبب بعد المسافة الزمنية عن حياة حليم لكن الجمهور الذواق أثبت بتفاعله معها العكس”.

ولم يكن وجود المايسترو مؤيد الخالدي قائدا للفرقة الموسيقية فحسب، ففي لحظات محددة ومتكررة، تخلى الخالدي عن دوره في قيادة الأوركسترا لينجرف إلى الجمال الموسيقي والغنائي الذي كان موجودا، فتخلى عن حركات القيادة الموسيقية لتكون حركاته أقرب إلى الرقص نشوانا، يقول “في لحظات تناغمت مع الفرقة الموسيقية وشعرت بأنني أكاد أتخلى عن عصا القيادة واندمج مع العزف والغناء، كنت سعيدا بالحفل وامتلأت بالنشوة الفنية. في نهاية البروفة الأخيرة قلت للعازفين والمغنين، إن الحفل انتهى الآن والمطلوب غدا أن تعزفوا كما لو أنكم تعزفون لأنفسكم، متعوا أنفسكم وبهذا سوف ننجح، وهذا ما أراه المعادلة الصحيحة، وهو ما يختلف عن العزف كما لو أنه واجب علينا القيام به”.

شراكة فنية

مؤيد الخالدي: قناعتي أن مرحلة الغناء السيء قد صارت في نهايتها

رغم اغتراب المايسترو مؤيد الخالدي منذ ما يقارب الأربعين عاما، لكنه كثيرا ما يؤكد على تمسكه بجذره الحضاري والموسيقي، ويجهد دائما بإبرازه في كل ظهوراته يقول لـ”العرب”: “نحن أبناء سوريا العظيمة، رحلت إلى كندا منذ العام 2004 ودائما أفخر بأنني سوري، أعرف نفسي بأنني سوري يعيش في كندا وليس كنديا من أصل سوري. وطني سوريا تربيت فيه وله الفضل علي، ودرست على حسابه وتعلمت الموسيقى، أفخر بأنني من أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، وأحمل عظمة بلدي في العالم، نحن نملك الأصالة والفن العظيم، ولا أدخل سوريا إلا بجوازي السوري”.

ويتابع “موسيقانا هي الأقدم والأهم في العالم، ورغم أن دراستي كانت للموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، فإن موسيقانا هي الأهم، فالموسيقى الكلاسيكية هي رسم محكم دقيق، أشبه برسم مخروطي منظم، أما موسيقانا فهي كالكرة الذهبية تمسح عنها التراب وتفعل بها ما تشاء. أنا مستمر في مشروع رحلة مع الأنغام، ولن نقدم إلا ما يلامس شغاف القلوب، لست مع أن نقدم موسيقى كلاسيكية في بلداننا بالشكل الغربي، كمن يبيع الماء بحارة السقايين، بل يجب دمج ذلك مع الموسيقى العربية، والمحافظة على أعلى درجة من الأصالة العربية فيه”.

منذ تأسيس أوركسترا دمشق على يدي الموسيقي محمد زغلول في العام 2016، وهي تحاول تقديم القيم والمختلف شكلا وموضوعا، وتجهد لتحقيق مطامح فنية عالية. عن الحفل الأحدث لها بمشاركة المايسترو الخالدي يقول محمد زغلول مؤسسها ومديرها “أوركسترا دمشق سعت إلى إلقاء الضوء على نمط مختلف من الموسيقى والفرق المختصة بها، وكان هدفنا إيجاد فرقة موسيقية تقدم شيئا رافدا للفرقة السيمفونية الأم التي تخرجنا كلنا منها. مشروعنا رحلة مع الأنغام بدأ العام الماضي مع المايسترو مؤيد الخالدي عندما تابعنا في حفل على مسرح الحمراء، فعرضت علينا المشاركة في مشروع مشترك هو رحلة مع الأنغام الذي كانت خطوته الأولى في العام الماضي وهو يقدم الآن ثاني ظهوراته”.

محمد زغلول: أغاني عبدالحليم تعني الجيل القديم وكذلك الجيل الجديد

وعن سبب تقديم أعمال الفنان الشهير عبدالحلم حافظ يتابع “قناعتنا بأن أغاني عبدالحليم تعني الجيل القديم وكذلك الجيل الجديد، وهنا تبرز أهمية هذه الحفلات، في تثبيت المعلومات الحقيقية، لأن الجيل الشاب قد يسمع الآن أغاني عبدالحليم من غيره، فنأتي لكي نقدمها باسمه وننشر التراث الموسيقي العربي بحقيقته حيث ينسب العمل إلى أصحابه”.

 وعن موسيقى عبد الحليم يتابع “أعماله رومانسية جميلة، والتوزيع الموسيقي قدم كما الأصل، فبعد عمالقة الموسيقى العربية لا نستطيع تقديم شيء جديد، الفرقة ظهرت بشكل ممتاز وقدمت جهدا طيبا والعازفون كانوا على قدر المسؤولية وقدموا أفضل مهاراتهم، المغنون الأربعة كذلك وتم انتقاء كل أغنية بما يتناسب مع صوت المغني. الجمهور كان متفاعلا مع الحفل، وهو الذي يعطي الطاقة الإيجابية أو يوصل شعور القلق، كانت رحلة موفقة مع الأنغام حلقت فيها الفرقة والمغنون والجمهور نحو سماء إبداعية سامية، تعبنا كثيرا في سبيل الإعداد للحفل، فاستهلك وقتا طويلا، ولكنه في النهاية كان ناجحا موسيقيا وتنظيميا وفي الشكل البصري، ساعتان من الزمن الجميل تمتع فيهما الجمهور بما يليق، وكان من أطول الحفلات التي قدمت في الأوبرا منذ فترة طويلة”.

وعن تعامله مع المايسترو الخالدي والقيمة الفنية المضافة التي تحققت فيه يقول “مؤيد الخالدي مايسترو راق جدا، وهو أضاف للفرقة الموسيقية الكثير، ولا شك أنها أضافت له كذلك، هو موسيقي ممتلئ بالتراث، والتجربة معه كانت رائعة وناجحة، والرحلة معه مستمرة، قد تكون سنوية أو نصف سنوية، هنالك عمالقة كثر على مستوى سوريا أو العالم العربي سوف نسلط الضوء عليهم، مهم جدا انتقاء برنامج الحفل بشكل واعٍ وموظف، موضوع الأصوات والتوزيع الموسيقي، الذي يجب ألا يطغى على العمل الأساسي فيما لو لم يقدم شيئا جديدا، ويعوض ذلك الأداء الأكاديمي العالي، ولا شك أن جهوده المشكورة مع الأوركسترا والمغنين والجهة الراعية وزارة الثقافة وأوبرا دمشق قد أوصلت الحفل إلى النجاح الذي حققه واستحق رضا الجمهور الذي هو صاحب الشكر الأكبر”.

الفن القيم

الحفاظ على الروح الأصلية
الحفاظ على الروح الأصلية

يحضر سومر النجار في المشهد الغنائي السوري، ويشكل طاقة فنية هامة، قدم في الحفل أغنيتين، حقق فيهما تفاعلا مع الجمهور، تسأله “العرب” عن السر في استمرار هذا الغناء فيقول “هذا الفن دائم وخالد لأنه يحمل قيما وجدانية عالية، فطالما حملت الأغنية هذه المعاني السامية ستكون بالتأكيد ناجحة وعابرة للعصور، والجميع يؤمن بأن الفنان عبدالحليم هو حالة متفردة، استطاع أن يكون متميزا بعمله الغنائي في العالم العربي، وجمع حوله الكثير من محبي فنه. آمل أن نكون قد نجحنا في تقديم جزء من تراثه ولامسنا قلوب الناس”.

ويتابع “من يسمع هذه الأعمال سيظن أنها نفذت حديثا، لأن اللحن والكلام يحملان تفاصيل تلامس ذائقة الناس حاليا، لذلك فإن هذه الأعمال لا يمكن نعتها بأنها قديمة. أنا مؤمن بأن الأغنية التي تحمل قيمة، وتحتوي على كلام ولحن جميلين ستبقى وتعيش لفترات طويلة، ومعروف أن بعض أغاني عبدالحليم لم يقبلها الجمهور بداية ولكن مع مرور الزمن قبلها وأحبها، فجزء من جمهوره أحبه حينها وجمهور آخر عاصره بعد نجاحه والآن جمهور الشباب يحبه”.

منذ تأسيس أوركسترا دمشق على يدي الموسيقي محمد زغلول في العام 2016، وهي تحاول تقديم القيم والمختلف شكلا وموضوعا

وعن تقديمه لأغاني قمة كبيرة مثل عبدالحليم والإضافات التي قدمها يقول “عندما أقدم أغنية معروفة أحرص على ألا أمس الجوهر، ولكن في تحليل الأغنية أحاول تقديم شيء بسيط من روحي لا يمس جوهر الأداء ولكن يعطي شيئا من روحي أنا، وهذا حق للفنان لكي لا يسمع الجمهور أغنية مكررة منسوخة”.

ويضيف النجار “كان لدي هاجس أن أحضر الجمهور للاستماع إلي في ظهوري الثاني والأخير في الحفل، فكنت حريصا على تقديم شيء يتفاعل معه الجمهور. الأغنية الأولى فيها شجن ورومانسية بينما الثانية فيها حالة طربية وهي إيقاعية، طقس الأغنية كان حيويا. الجمهور المسرحي عادة ما يكون متحفظا نسبيا، لكنه في الحفل أحب نوع الموسيقى وتخلى عن تحفظه وعبر بالتصفيق الحار عن تفاعله، والأغنية الأخيرة بحلف بسماها كانت خير مثال، حيث كان تفاعل الجمهور في أعلى مدى فشاركنا الغناء، حالة التطريب كانت حاضرة وتخلق السلطنة، كان مسار الحفل مدروسا بعناية وحقق أهدافه”.

قدم ريان جريره عدة أغان في الحفل، وحقق حضورا متميزا، خاصة في مقاطع أغنية موعود التي أعاد مقطعا فيها مرات. يقول لـ”العرب” عن مشاركته والمسؤولية التي حملها في الحفل “كنت خائفا، كون الجمهور كبير العدد وجزء منه موسيقيون ومختصون. الأمر الذي يدفع المغني إلى أن يسخر كل معارفه وخبرته في سبيل تقديم ما هو أنجح، وهذا ما كان، فالجمهور كان يحفظ كل نتاج عبدالحليم، وكان يردد مع الفرقة والمغني”.

ويتابع “كانت مسؤولية كبيرة وتمنيت أن أتقنها بأحسن صورة وأرجو أنني فعلت. تفاعل الجمهور كان واضحا بقوة. فهو الذي أعطاني طاقة جديدة وحفزني على أن أقدم المزيد بثقة أكبر، فصرت أصعد على المسرح بثقة النجاح، التفاعل الصحي مع الجمهور يسمح للمغني بأن يقدم كل طاقاته بشكل تلقائي، لم أشعر بأنني أقدم غناء على المسرح في الحفل، وشعرت بأنني مع الجمهور ذاهبون إلى مكان أو رحلة لنغني معا، قدمت الغناء بشكل لائق ويحفظ الأمانة”.

Thumbnail
13