يمكن للواقعية أن تحيد الذاكرة دون إتلافها

فرنسا وعاء اجتماعي واقتصادي للجزائريين وموجات الهجرة إليها تعود إلى سنوات الحقبة الاستعمارية رغم ذلك تبقى الجالية الجزائرية الأكثر فوضوية وعشوائية تعيش خارج اهتمام حكومتها وتعاني الإهمال والتجاهل.
الأربعاء 2022/07/20
علاقات ملتبسة

مع كل ذكرى ومع كل عيد وطني تقلب المواجع وتستفز المشاعر المناوئة للاستعمار، لكن مرت ستة عقود كاملة على الاستقلال الوطني، ولم ير الجزائريون نتيجة للعداء المستفحل تجاه فرنسا، فلا هم في حالة قطيعة نهائية ولا هم في تطبيع كامل مع المستعمر القديم، ورغم ذلك يتأخر الصوت العاقل هنا أو هناك ليضع حدا بين هذا وذاك.

ويبدو أن القوى المستثمرة في التاريخ لا تسمح إلى حد الآن بتصفية التركة والتفكير في راهن الأجيال الجديدة ومستقبلها، فكل تغريد خارج السرب سيكون مآله التشكيك وحتى التخوين، رغم أن الواقعية تملي على العلاقات الجزائرية الفرنسية الخروج من ربقة التاريخ إلى أفق الحاضر والمستقبل.

وكان أحد الفاعلين في الملف التاريخي محقا، عندما رفع صوته مناديا بعدم مطالبة فرنسا بالاعتراف والاعتذار عن الحقبة الاستعمارية، لقناعة لديه بأن ذلك لن يحدث، وأن التاريخ يستوجب أن يخطه الجزائريون وحدهم لتتوارثه الأجيال وتستلهم منه الدروس والعبر.

الحقبة الاستعمارية في نظر الرجل هي جزء من الماضي، والأولى هو الالتفات إلى المستقبل والبحث عن طريقة للتعامل مع فرنسا بلغة الواقعية والمصالح، خاصة وأن للجبهة الاجتماعية رأيها في هذا المجال على اعتبار أن الجزائر تملك أكبر جالية في فرنسا، ويمكن النظر إليها بعين الثروة المعطلة.

وهي نظرة واقعية تفكر في المستقبل دون أن تنسى الماضي، وتبعد المتاجرين بالتاريخ والذاكرة الجماعية، وفوق ذلك تكشف حقيقة المستغلين للملف من أجل ممارسة مصالحهم الضيقة، فلقد ظل هؤلاء طيلة عقود الاستقلال يمارسون السلطة باسم الشرعية التاريخية، ويعادون فرنسا متى يريدون ويطبّعون معها متى يريدون، دون أن يلتفتوا إلى طموح الأجيال الشابة ومصالحها، وهي التي ترى في فرنسا النموذج الغربي المبهر أو نقطة العبور إلى بريق الحضارة الغربية.

وتؤكد الإحصائيات أن عشرات الآلاف من حاملي الجنسية الفرنسية وملاك العقارات والحسابات البنكية في باريس، قد مروا على السلطة أو مارسوا الخطابات الجوفاء، فأن يستقر وزير للمجاهدين (قدماء المحاربين) في فرنسا بعد نهاية مهمته في الحكومة، هو عينة مصغرة للمتاجرة بالذاكرة وارتداء ثوب التاريخ في العلن، وتسوية الوضعية الاجتماعية والاستقرار النهائي في الخفاء.

الواقعية تسمح بتحييد الذاكرة الجماعية دون نسيانها، ويمكن لها أن تبني علاقات شفافة وعادلة تراعي مصالح الطرفين وتفكر في استغلال الروابط الاجتماعية والاقتصادية

ويتجاهل هؤلاء أن التأشيرة الفرنسية هي الأكثر طلبا من طرف الجزائريين، وأن الجنسية الفرنسية والوضعيات المهنية والاجتماعية المريحة هي حلم غالبية الشبان الجزائريين، وهو أمر كان ضروريا النظر إليه من زاوية الواقع والواقعية وليس من زاوية مواجع التاريخ، فكما لباريس مصالح مهمة بالجزائر، للجزائر أيضا مصالحها في فرنسا لو يتم النظر إلى المسألة بعيون الواقعية والبراغماتية وليس التاريخ.

وكان يمكن للجزائر أن تدوّن تاريخها بنفسها وتطلع الإنسانية على بشاعة النظام الاستعماري، وتؤسس لعلاقات ندية وبراغماتية مع الفرنسيين، دون أن تربط هذا بذاك وتجعل من التاريخ المفتاح الوحيد لأيّ علاقات طبيعية مع فرنسا، فهي تدرك أن ما تطلبه يستحيل تحقيقه قياسا بالعقدة التي تحكم الفرنسيين.

في فرنسا تتواجد جالية رسمية وغير رسمية تقدر بستة ملايين جزائري، ويتداول هؤلاء رأسمال يقدر حسب بعض الدوائر بخمسين مليار يورو، لكن رغم ذلك لا تستفيد الجزائر من ذلك شيء، وحتى قيمة التحويلات السنوية للجالية تعد هي الأضعف مقارنة بجاليات دول المنطقة، وأخيرا فقط هجرها 1200 طبيب من خيرة أبنائها إلى باريس دون أن تجني أيضا أيّ شيء، وكأن الأمر في “وكالة من دون بواب” وليس مؤسسات ودولة.

وباجتهاد بسيط فقط، كان يمكن للجزائر أن تفاوض الفرنسيين على الـ1200 طبيب من أبنائها مقابل الحصول على رسوم ما دامت هي التي درّست وكوّنت، أو تعاون صحي ما دامت أيضا تفتقد للإمكانيات والخدمات الصحية اللائقة، بدل أن تكون الحكومة آخر من يعلم ولا تعلم بالمسألة إلا من وسائل الإعلام.

فرنسا هي وعاء اجتماعي واقتصادي للجزائريين، وموجات الهجرة إليها ليست وليدة اليوم بل تعود إلى سنوات الحقبة الاستعمارية، وبعيدا عن سياسة “اللوبيينغ” التي تنفق لأجلها الحكومات أموالا طائلة من أجل امتلاك مواطن نفوذ، تبقى الجالية الجزائرية الجالية الأكثر فوضوية وعشوائية تعيش خارج اهتمام حكومتها تماما وتعاني الإهمال والتجاهل.

ورغم أن غالبية حكومات المستعمرات القديمة وشعوبها عالجت وضعياتها التاريخية مع فرنسا من أجل المرور إلى مرحلة جديدة، إلا أن الوضع لا زال ملتبسا في الجزائر بين ما هو تاريخ وبين ما هو مصالح، وفوق ذلك يجري الاستثمار فيه وفق الأهواء والأمزجة المستجدة للحكام، فإذا كانت المصلحة تقتضي وضع التاريخ جانبا يتم وضعه، وإذا كانت المصلحة تقتضي غير ذلك يجري استخراجه كأنه سجل تجاري.

الواقعية تسمح بتحييد الذاكرة الجماعية دون نسيانها، ويمكن لها أن تبني علاقات شفافة وعادلة تراعي مصالح الطرفين وتفكر في استغلال الروابط الاجتماعية والاقتصادية، والنظر بإيجابية لطموحات الأجيال الصاعدة، التي تفكر في مستقبلها بعيدا عن الماضي حتى ولو كان جزءا منها.

9