العراقي محمد صابر عبيد: الشعراء تمردوا على سلطة العائلة وميراث القهر

لا شك أن القصيدة المعاصرة التي تكتبها أجيال الشباب من الشعراء العرب لها خصوصياتها المختلفة عن السابق، وربما يأتي أغلبها في سياق قصيدة النثر أو القصيدة الحرة خارج الوزن، لكن ما يميزها بعيدا عن شكلها هو انتهاجها التمرد والتمركز حول الجسد وكأنه الحصن الأخير أمام ما يحدث من أهوال. فالجسدي والشعري كان محل دراسة للناقد العراقي محمد صابر عبيد وفق نماذج اختارها من الشعر العراقي.
يتجلى الجسد في رؤى وتشكيلات قصيدة النثر العربية بحضور بارز، حيث انشغل شعراؤها من الأجيال الجديدة خاصة بفضاءات حياتهم الذاتية ووجودهم العام المحيط بهم، وقدموا تجارب مهمة انفتح فيها الجسد بحرية ليتوغل في كشف أسرار عوالمه.
ويعبر كتاب “الفضاء التشكيلي لقصيدة النثر.. الكتابة بالجسد وصراع العلامات” للناقد العراقي محمد صابر عبيد، عن وجهة نظر نوعية وذات خصوصية مكانية وزمانية وظرفية خاصة، لا تذهب بعيدا في تحليل وقراءة مكونات هذه الظاهرة الشعرية وإشكالاتها وقضاياها الرؤيوية التشكيلية التي انطوت عليها قصيدة النثر العربية الحديثة عراقيا وعربيا في تاريخها الثقافي منذ منتصف القرن الماضي.
الجسدي والشعري
ارتبطت قصيدة النثر في النموذج النوعي الذي يشتغل عليه الكتاب، الصادر عن دار غيداء للنشر، بفعالية الحراك الجسدي في وظيفته الكتابية ذات التعبير العلامي السيميائي، المشتغلة في منطقة الدفاع عن وجود الماهية وماهية الوجود. فبعد أن تعرض الجسد ـ وفقا للمؤلف ـ لتعطيل مباشر ومقصود في الكثير من أدواته، وأقفلت أمامه فرص الاستيعاب الوظيفي لحراكه المتجه طبيعيا إلى إنجاز معنى الحياة ورسم صورتها المثلى، ارتد إلى كيانه ولاذ بأبعاده الفيزيائية والاعتبارية وتمركز على ذاته، في السبيل إلى إيجاد حلول لفك شفرة الحصار الدموي القاسي الذي يتعرض له.
محمد صابر عبيد: قصائد النثر في العراق وفي مناطق أخرى من العالم العربي تمتاز بارتيادها مناطق جديدة مهمة، لم يلتفت إليها من قبل
يلفت عبيد إلى أن قصائد النثر في العراق وفي مناطق أخرى من العالم العربي تمتاز بارتيادها مناطق جديدة مهمة، لم يلتفت إليها من قبل، ولم يعن الشعر العراقي والعربي بها مسبقا، بوصفها لا تنطوي على أي شعرية ـ حسب المنظور الشعري النسقي التقليدي ـ وتمكن ضمن أهم إنجازاته من نفض الغبار عن حيواتها وإخراجها إلى النور بكل الألق والإشعاع والرغبة والحياة. وغالبا ما تميل معظم تجارب هذه القصيدة إلى أسلوب البرقيات التي تكتنز الشعر وتضج بجماله، في طراز مهم من طرز تشكيلها فضلا عن طرز أخرى لا تقف عند حد معين، ولا تكتفي بالطمأنينة إزاء وضع معين.
ويقول عبيد إن النماذج التي اشتغل عليها كتابه تعيد الاعتبار كلاميا ـ شعريا إلى الجسد ضمن نوع شعري إشكالي اسمه “قصيدة النثر”، ويشكل خروجا على سلطة العائلة، وتمردا على هيمنتها وبطرياركيتها الكلاسيكية، ورفضا للقهر الروحي والانتهاك الجسدي، وتمثيلا لحراك إبداعي وإنساني جديد ينجز أسئلته بعيدا عن القياسات والأطر المدرسية، ويفتح صفحة جديدة تسمح للجسد الناقص والمقهور والمحاصر بأن ينتج علاماته في حرب ثقافية هي الأقسى والأكثر ترويعا في التاريخ الشعري البشري.
يقارب عبيد في كتابه “النموذج العراقي” بوصفه أحد النماذج المركزية في قصيدة النثر العربية الحديثة، ولاسيما في ظل الظروف القاسية التي مرت على العراق في العقود الثلاثة الأخيرة، على كافة الأصعدة، وحرضت الحساسية الشعرية العراقية على ابتكار سبل جديدة للتشكيل والتعبير والتدليل والتصوير، يمكن أن تناسب الوضع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والحضاري والإنساني بالغ القسوة والقهر والترويع، على النحو الذي يمكن أن تتجلى بوصفها فضاء للخلاص.
وقد كشفت حال التجربة العراقية في قصيدة النثر خاصة عن إمكانات خصبة وثرية وواسعة التنوع والثراء والتعقيد أيضا، أخضعت الحالة الإنسانية والثقافية للحالة الشعرية ووظفتها في سبيل خلق مناخات متفتحة ومغايرة للكتابة الشعرية، وانكب جيل الشباب خاصة على مهمة التوغل الإنساني والثقافي والجمالي “المغامر” في جوهر هذه القصيدة.
ويرى عبيد أن ثنائية الجسدي/ الشعري بنموذجها الفني ـ الثقافي المتعدد في صوره وقضاياه، أصبحت اليوم ـ ولاسيما في الشعر العراقي الحديث ـ بوابة مهمة للدخول إلى عوالم هذا الشعر وفضاءاته ومتاهاته ورؤاه، بحكم عوامل تارخية ومؤثرات ومتغيرات ثقافية عميقة ومعقدة، في الوقت الذي هيمن فيه الثقافي واحتوى الطبيعي أيضا.
ويؤكد أن الجيل الجديد من شعراء قصيدة النثر العراقية قدم ويقدم أسماء ونصوصا مهمة، تشتغل بوعي وموهبة على التواصل مع النبع الحي والأصيل للشعرية العربية في العراق، وتمكنت على الرغم من الظروف البالغة القسوة من انتزاع مواقعها وقيادة حركة الشعر العراقي، في هذه المرحلة بالذات، وأخذت هذه المواقع تتعزز وتتكرس قيمها الثقافية يوما بعد يوم، ذلك أن أمل هذا الشعر ومستقبله معقود عليها، وهي ـ كما يبدو ـ أمينة على هذه المهمة التاريخية الصعبة، وتستجيب على نحو عميق وفعال للخصوصية الثقافية والتاريخية التي تمتعت بها.
ويتابع أن قصيدة النثر الحديثة في العراق قدمت رثاء عاليا ومتعاليا للجسد يتضمن إحساسا عميقا بتعرضه لخروقات هائلة بقسوة بالغة، بلغة وحشية ضارية تتدخل في تفاصيل المشهد وتندلع فيه، وتدفعه إلى أن يتشكل على وفق منظومة تعبير صورية وإيقاعية خاصة، بأسلوب التقطيع الصوري الذي يماهي ويقابل ما يتعرض له الجسد من تقطيع في الأوصال وتحجيم لطاقة الفعل فيه.
في قصيدة منذر عبد الحر ينسحب الجسد من كل أعضائه ليقيم في عضو واحد يأخذ صفات الجسد ومعانيه وفعالياته كلها، ومن ثم يصبح العضو الوحيد الجسد ذاته، باختزالية تستغني عن الكل لصالح الجزء، الذي لن يشغل في هذا الإطار إلا حيزا محدودا في المكان والزمن والفكرة والرؤية، يقول الشاعر: خذي كفي/ منحتها الحرب ندما/ واختفت فيها الوصايا/ ولوحت/ لوحت كثيرا للغائبين.
قصيدة النثر العربية المعاصرة تشيد نوعها الشعري بعيدا عن ضغط الميراث من جهة وقريبا من إنشاء جماليات مضافة
ويعلن حسن النواب في قصيدته بلغة جسدية صارخة عن هزيمة الجسد وانحسار قوة تأثيره في الأشياء، وهو يرسم بانوراما تاريخية لهذه الهزيمة وجغرافيتها بأعلى ما يمكن أن تقدمه الصورة من قسوة دلالية وعنف تصويري: “مُقعد/ على كرسي كفاحه الذي مضى،/ يريد أن يتسلى،/ بما تبقى من ميراث جسده التليد/ تسّلى برأسه المنير مرارا/ حتى غدا مصباحا مكسورا/ وتسلى بكفيه المدربتين على الحروب/ وجسد الأنثى/ لكن الشظايا أحاطت برعونة أصابعه أخيرا”.
وينطوي تقديم صورة الجسد عند جمال جاسم أمين على قصدية واضحة في تجميده وإنهاضه بشكل عمودي، على النحو الذي يحوله إلى تمثال يسرد قصة هذا الجسد وحكاية زمنيته وتاريخيته، يكتب الشاعر: “الأيام تماثيل/ كل يوم/ تزداد تمثالا/ ولكي لا نهرم قبل الوقت/ نحتاج إلى أرض أوسع/ وشوارع أكثر طولا”.
ويقدم فلاح عدوان الجسد العمودي مخترقا المكان الأفقي، وفاعله الشعري مخترق متجه إلى الأعلى “الفضاء”: أقف مستوحشا/ كعمود../ فينزلق المارة / نحو الجوانب/ ويجف الرصيف / ورائي/ من الخطوات.
ويواصل عبيد تحليله لقصائد الشعراء انطلاقا من محاور معادلة الجسد من الوهم إلى التشكيل، ونداء العتمة واستدعاء الجسد، وثقل اللغة والإحساس في وطأة الجسد، وعزلة الجسد وهزيمة المصورة الشعرية، وفي هذا المحور الأخير يقول “يتفاعل الجسدي مع الشعري أو ينازعه مؤثرا في مساحة القصيدة، وعلى الرغم من أن القصيدة تجتهد كثيرا في إحلال حوار وتناغم ثقافي ورؤيوي بينهما، إلا أن الجسدي في عزلته الشعرية يضاهي المصورة الشعرية وينافسها في تحركها الدائب على سطح القصيدة بحثا عن خلاص نصي”.
ويستشهد بالشاعر طالب عبدالعزيز الذي يرسم مشهدا شعريا تشكيليا يدعي البراءة والعفوية والبساطة التشكيلية المباشرة، لكنه يخفي في العتمة والظل والماوراء التخييلي غير ذلك، اللغة فيه تزاحم الخطوط واللون، والقلم يزاحم الريشة والصورة الشعرية تزاحم الصورة التشكيلية، والإيقاع اللوني، يقول الشاعر: “حين تكون وحدك/ جالسا على أريكة في المنتزه العام/ ساقك فوق ساقك الأخرى/ ويدك مثنية تحت ذقنك/ شاخصا ببصرك نحو الأفق/ الفسيح/ تفكر بمصور بارع/ يخلد غبطتك هذي”.
وعن العتمة واستدعاء منطق الجسد يوضح عبيد “يبلغ الجسد أعلى مراحل سريته في نداء العتمة، إذ يستدعي منطقه شعريا ليفقد في هذا التداخل حس المنطق لصالح حس الشعر، في فعالية مواربة تظهر ثقافة الجسد في التصرفات بآليات عقله وإمكانات فلسفته. مثلا ينبع نداء خالد جابر يوسف من قلب العتمة ليقدم معاناة الجد وقد ارتهن النداء فيها بالمحيط الثقافي وأصبح أسيرا لمقتضياته وأحواله: الليلة مسافة/ سوداء باردة/ تشب من جزمتي إلى خوذتي/ ليس ثمة من يتجول/ غير أصابع منتفخة تتلمس الفراغ/ السواد الطريق الوحيد إلى الضفة الثانية / وأنا ومشيدو قناطر وهمية آخرون/ أيها المشهد الأنيق/ عبأتني بالحلم/ وتركتني أطفو على حقل من الرنين/ عيناي معلقتان شاهقتين ومسلولتين/ تتلمسان الخرائب والدخان والفكاهة”.
فصاحة قصيدة النثر

إن قوة اللغة بتجلياتها التخييلية وتمثيلاتها الرؤيوية هنا هي التي تحيل رمزيا وإيقاعيا على تمظهرات الجسد وحالاته، إنه محاصر باللغة والصورة والإيحاء والدلالة والشكل الشعري، فضلا عن أنه مدجج بالجزع الذي تكللت به الروح، وهي تضغط على ضآلة الجسد وحلمه بالتلاشي، والتحول إلى أصغر وحدة ممكنة من وحداته القابلة للإفلات من فداحة المصير، على النحو الذي تتفاعل فيه/ تتصارع رغبة اللغة في التحويل مع قدرات الجسد، في الحفاظ على وضعه المنفتح على واقعية المشهد.
وفي مختلف محاور فصول الكتاب واصل عبيد كشف تجليات الخطاب بين الشعري والجسدي اعتمادا على مجموعات شعرية وقصائد شعراء من بينهم: شاكر مجيد سيفو، نامق سلطان، محمد مردان، رعد فاضل، جمال علي الحلاق، عباس اليوسفي، أحمد الشيخ علي، مهدي لقريشي، طالب عبدالعزيز، حسين السلطاني، خالد جابر يوسف، وأحمد آدم، باقر صاحب، محمد درويش، سهام جبار، عمار المسعودي، وأحمد آدم.
ويؤكد أن النصوص التي انتخبها تجسد على نحو ما جزءا مركزيا وحيويا من محنة الجسد، المتوزع بين مطرقة الطبيعي وسنديان الثقافي، وهو يواجه مصيرا معتما ينفتح على معاني التغييب ودلالات الإقصاء والتحجيم، بفعل ضغط منظومة الحصارات التي يتعرض لها داخليا وخارجيا، والتي تكالبت عليه من المكان والزمن والمحيط والقريب والبعيد، ودفعته إلى المواجهة أحيانا والاستسلام والخنوع أحيانا أخرى. على النحو الذي جعل الفعل الشعري يتحرى سلوكين لفظيين للخلاص يعبر عن حلم ميداني يتعلق بحيز ضيق من أحياز الأمل، ويرنو إلى استقبال هذا النداء القادم من أقاصي العتمة، والمستفز لحلم الجسد في التجلي الطبيعي والسليم بعيدا عن شبكة الضغوطات والإكراهات التي يتعرض لها.
ويذكر أن الكتاب جاء في تمهيد وخمسة فصول، انطلاقا من “فصاحة قصيدة النثر ـ حداثة اللغة تكتب عصرها” يذهب عبيد إلى التدخل في صياغات المفهوم الاعتباري والنوع الشعري والخطاب، بالمعنى التاريخي والثقافي والسيميائي والاستراتيجي والحداثي، وبحسب ارتباط ذلك بمركز اللغة ورؤيتها وبؤرتها المغامرة الباحثة عن مكان مؤثر تحت شمس الشعرية العربية الحديثة، يضع قصيدة النثر في مكان متقدم من المدونة الشعرية. وفي فصل آخر خاض في مياه النماذج المنتخبة ـ حرصا على الاختيار النصي والمنهجية القرائية ـ في سعي تطبيقي للإجابة على أسئلة التشكيل والتعبير “شعرية التشكيل ورمزية التعبير”، وللتدليل على طاقة قصيدة النثر في تشييد نوعها الشعري بعيدا عن ضغط الميراث من جهة، وقريبا من إنشاء جماليات مضافة تأخذ بيد القراءة إلى مجالات شعرية مبتكرة وواسعة من جهة أخرى.
وفي الفصل الرابع يؤكد هيمنة نموذج قصيدة النثر الحديثة على حاضر الشعرية العربية، ليتسمى بـ “حصار الحياة.. حصار الشعر.. مأزق الشكل وهوية الوظيفة الشعرية” مقاربة للأشكال الثلاثة التي عرفتها الشعرية العربية منذ نشوئها على نحو واضح وشامل. وفتح عبيد فصله الأخير الموسوم بـ “نداء العتمة: تجليات الخطاب بين الشعري والجسدي” على محاولة اكتشاف جدل العلاقة الإنسانية والكتابية بين الجسدي والشعري، في منطقة هذه القصيدة حصرا، والمجازفة بإطلاق بيان موت القصيدة العربية الحرة “التفعيلة” في سياق بروز الجسدي تمظهرا وكتابة، باستدراج معان ودلالات وسيمياء الاستنزاف والمغايرة والعزلة وغيرها.