الرواية الليبية مشروع يسير بخطى طموحة وهوية حداثية خاصة

بات للرواية الليبية حضور بارز في المدونة السردية العربية، وهذا ما يؤكده حضورها المتكرر على منصات التتويج لأهم الجوائز الروائية العربية، ومنها تتويج رواية ليبية بالجائزة العالمية للرواية العربية البوكر هذا العام. فيما يلي حوار مع الكاتبة الليبية عائشة إبراهيم حول خصوصيات الرواية الليبية ومشروعها الأدبي المرتبط بالمكان.
عائشة إبراهيم قاصة وروائية ليبية، وصلت روايتها “حرب الغزالة” إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” العام 2020، وهي تؤمن أن للرواية الليبية جماليتها وهويتها الخاصة.
في هذا الحوار تتحدث عائشة إبراهيم عن روايتها الجديدة الصادرة عن منشورات المتوسط “صندوق الرَّمل”.
وهي رواية تقف على قصص مرعبة لنساء ليبيات ذقن ويلات التعذيب والقتل في مستوطنات العقاب الإيطالية، استنادا إلى تقارير باولو فاليرا، الصحافي الوحيد الذي تمكن من زيارة السجناء الليبيين في تلك المستوطنات، وتحدث إلى السجينات قبل أن يختفين إلى الأبد.
صندوق الرمل
تلفت عائشة إبراهيم إلى أن أسم رواية “صندوق الرَّمل” يرمز إلى ليبيا بحسب عبارة قالها السيناتور الإيطالي سيلفاميني، في جلسة للبرلمان الإيطالي، وكانت وقتها القوى السياسية تقود حالة الجدل حول جدوى توجيه حملة عسكرية إلى ليبيا، كانت تلك أبرز تسمية، واستخدمتها الصحافة الغربية المناوئة لحكومة جيوفاني جوليتي عرّاب الحرب.
وتقول “هذه أول مرة أختار عنوان النص قبل الشروع في كتابته، في العادة أترك العنوان يتراوح بين عدة خيارات إلى أن أحسمه في النهاية، ولكن في صندوق الرمل، في البدء كان العنوان، ثم كانت الرواية”.

◙ رواية تستدعي التاريخ، الأحداث التي وقعت على أرض ليبيا في فترة مستعمرات الاحتلال الإيطالي
في روايتها “صندوق الرَّمل” تستدعي إبراهيم التاريخ، الأحداث التي وقعت على أرض ليبيا. مستعمرات الاحتلال الإيطالي، وهنا نسألها ما هي النقطة أو المحور الذي كان البداية في كتابة الرواية، فتقول “لا أدري إذا كان المعنى المقصود من السؤال هو لحظة اتقاد فكرة الرواية، وليس نقطة بداية السرد، الفكرة كانت من أغنية إيطالية شدت انتباهي بعنوان ‘طرابلس أرض الحب الجميلة’ أطلقتها مغنية إيطالية اسمها جيا جارسيندا، وتحولت إلى فيلم لاحقا خلال مرحلة الأربعينات، الأغنية شدت انتباهي وتعقبت مناسبتها من خلال المصادر الإيطالية، فأحالتني إلى المناخ العام في المدن الإيطالية، الطموحات والصراعات السياسية وحملة التحشيد للغزو، تأثير الدعاية وحملات الإعلام لتحشيد الجنود والرأي العام”.
وتضيف “كل ما أعرفه سابقا عن الحملة الاستعمارية على مدينة طرابلس الغرب هو ما تقدمه كتب التاريخ من زاوية الجهاد الليبي، ولدينا في الموروث الثقافي والشعبي الآلاف من القصص التي تغطي تلك الفترة، لكن لا نعلم ماذا عن الجانب الآخر؟ لماذا وكيف تمت التعبئة الإعلامية والسياسية والعسكرية، تتبعت الخيوط لأكتشف جوانب أخرى مظلمة من حقبة الاستعمار”.
وتشير الكاتبة إلى أن روايتها “صندوق الرَّمل” تتحدث عن نساء ليبيات تم ترحيلهن إلى مستعمرات العقاب، وتلفت إلى أن الصحافة الإيطالية تتحدث عن ذلك في الكثير من المصادر والمقالات، وحين عادت إلى المصادر الليبية، على الأقل الوثائق المتاحة في مركز جهاد الليبيين، استغربت كيف تُطوى تلك الصفحة البشعة وتختفي ما يزيد على مئتي امرأة ليبية في جزر باردة مهجورة في جريمة ضد الإنسانية، دون أي محاكمة عادلة، ربما لا يمكن تقديم الجناة إلى العدالة ولكن الرواية هي محاكمة أخرى للجناة تتجدد بعدد القراء، كاللعنة تطارد القاتل مع كل قراءة جديدة.
توضح إبراهيم أنها حاولت الابتعاد عن المصادر الليبية حتى لا تتهم بالتحامل، لذلك وخلال أشهر طويلة انشغلت بنبش الوثائق الإيطالية، من مقالات ودراسات بحثية، هنالك أيضا كتابان مهمان، الأول للصحافي الإيطالي باولو فاليرا، نقل فيه مشاهداته اليومية عن أحداث معركتي المنشية وشارع الشط، ولديه أيضا تقرير مطول يتحدث فيه عن معاناة السجناء الليبيين في المنافي الإيطالية وخاصة النساء، الملفت للاهتمام أن السلطات الإيطالية بحسب مصادر إخبارية متنوعة أكدت أنه صدر مرسوم من رئيس الحكومة جيوفاني جوليتي يمنع زيارة أي صحافي إلى مستعمرات العقاب، بعد ما كشفه فاليرا من فضائح تطيح بالمشروع الحضاري الإيطالي. أما الكتاب الثاني فهو للصحافي الإيرلندي ماك كولاغ، وكان أيضا في طرابلس شاهدا على أحداث المنشية وقام برمي كرت تعريفه كصحافي احتجاجا على ما شاهده من ممارسات ضد الإنسانية، وهنالك أيضا مصادر ليبية متنوعة مثل كتاب الطاهر الزاوي وكتاب المنفيين الليبيين الصادر عن مركز جهاد الليبيين.
التجريب مهم
من رواية “قصيل” إلى “حرب الغزالة” إلى “صندوق الرَّمل”، تنشغل الروائية الليبية بالكتابة عن مناطق بعيدة من التاريخ الليبي.

◙ رواية تاريخية تغوص في عالم متخيل بالكامل
وهنا تفيد إبراهيم “ليس لدي تخطيط مسبق للكتابة عن نطاق معين من التاريخ، ولكن الموضوع هو الذي يشدني ويستهويني، والتاريخ سواء كان قريبا أو بعيدا هو وعاء لابد منه لحركة تدفق السرد، فرواية ‘صندوق الرمل’ تدور أحداثها مطلع القرن العشرين في حقبة الاستعمار الإيطالي، ورواية ‘قصيل’ تتناول مرحلة السبعينات من القرن العشرين، هاتان منطقتان تاريخيتان شائعتان وكتب عنهما الكثير من الروائيين كل من زاويته الخاصة، وأنا لا أتطرق إليهما بهدف صياغة رؤية تاريخية رغم اهتمامي بفكرة إعادة قراءة التاريخ من خلال النص الروائي، ولكن ما يعنيني هو حالة التجريب في النص الروائي، وتقديم نموذج مختلف يواكب تطور تجربة السرد الإنساني عامة”.
وترفض الكاتبة تسمية رواية “حرب الغزالة” رواية تاريخية، معتبرة أنها عالم متخيل بالكامل، ليس لها من التاريخ سوى الإطار العام الذي يتطلبه أي عمل سردي، وكان ذلك الإطار هو العصر الحجري وبالاستناد إلى بعض النقوش على صخور الأكاكوس، ومومياء يتيمة وجدت في كهف منسي، لم يكن الهدف هو طرح السياق التاريخي بقدر ما هو إيجاد بيئة زمكانية للقص، وعزل الأحداث عن أي بيئة عرفها أي قارئ من قبل.
وتتابع “لقد تأسفت لأن الكثير من القراء والنقاد في مناطق خارج ليبيا، بل حتى داخلها يعتقدون بأن ما حدث في رواية ‘حرب الغزالة’ هو تراث منقول عن التاريخ الليبي أو الأساطير الليبية، من الإجحاف تصور شيء مثل هذا، هل يمكن أن يدوّن التاريخ أحداثا قبل عشرة آلاف عام، إذا كان عمر الكتابة لم يتجاوز ثلاثة آلاف عام بالحروف المسمارية والهيروغليفية”.
وتضيف “الأمر المؤسف حقا أنه حتى في زخم جائزة البوكر خلال العام 2020 بعد وصول الرواية إلى القائمة الطويلة تم التعامل معها على أنها رواية تاريخية تنقل إرث وتاريخ الليبيين، دون تقدير للعناء الذي يتكبده الكاتب في بناء عالم روائي متخيل خاص به يؤثثه من خياله وينسج له أحداثا وأساطير خاصة به، الأساطير نفسها بالرواية كانت نسجا خاصا لي، والنقاد يعلمون مدى صعوبة بناء أسطورة وصياغتها لغويا بما يتوافق مع بناء السرد الأسطوري، كل ذلك تم نسفه ببعض الآراء التي لا تستطيع أن تكون نظرة موضوعية عن السرد التاريخي والسرد التخييلي، ربما لأن ضخامة الفعل التخييلي بالرواية لم يكن متوقعا، وخاصة لكاتبة مغمورة من ليبيا كدولة لم تكن قد برزت بعد بشكل جيد في المنافسات الكبرى، وتم التعامل بظلم صارخ مع ‘حرب الغزالة’ على أنها رواية تاريخية نقلت تاريخ ليبيا القديم واستندت على الأساطير الخاصة بالمنطقة”.
مشروع روائي
عن حضور المكان في رواياتها تقول “حين ننتهي من قراءة رواية فالمكان الروائي هو الشيء الوحيد الذي يبقى عالقا في الذاكرة، لذلك، لابد أن نوليه الاهتمام الخاص، بتأثيث تفاصيله وإضاءة جوانبه المظلمة والمخفية، وبعث الحياة فيه كما لو كنا نزوره في ذات زمن الرواية، عندما نخوض تجربة قراءة رواية فنحن في الحقيقة نزور مكانا، وعندما أدعو قارئا لقراءة عمل لي لابد أن أقدم له المكان مؤثثا بتفاصيله نابضا بحرارته، بالنسبة إلي أتعلق كثيرا بتفاصيل الأمكنة، الذكريات القديمة هي أمكنة، الروائح والموسيقى والأغاني حين نتذكرها”.
وتواصل قولها “نحن في الحقيقة نتذكر الأمكنة التي التقينا بها، الأشخاص الذين تركوا أثرا في حياتنا جمعتنا بهم أمكنة، إننا لا يمكن أن نتذكر حدثا ما في حياتنا دون أن تحضر الخلفية المكانية التي حدثت فيه، لذلك يظل تأثيث المكان هو الميزة السحرية التي ترفع من قيمة وجودة النص الروائي”.
الكاتبة مهتمة بحالة التجريب في النص الروائي وتقديم نموذج مختلف يواكب تطور تجربة السرد الإنساني عامة
وحول سؤال هل لدينا مشروع روائي ليبي؟ كان ردها “يسعدني أن هذا السؤال قد تكرر للمرة الثانية، سبق وأن تفضلت بتوجيهه لي في حوار كان قبل خمس سنوات تقريبا، وقتئذ كان في رصيدي رواية واحدة هي ‘قصيل’، وكانت الإجابة صعبة ولكنني غامرت وأكدت أن لدينا مشروعا روائيا إذا واصل الكاتب تجربته ولم يتوقف على رواية أولى، الرواية الأولى حالة متاحة لدى الجميع، كل إنسان بإمكانه أن يكتب رواية أولى، في الغالب تمتح من سيرته الشخصية، لكن لا نجزم بأن لديه مشروعا روائيا ما لم يخض تجارب جديدة، وتجارب لا تكرر نفسها”.
وتتابع “هذا على المستوى الفردي، أي كرأي شخصي يخص حالتي، أما على المستوى العام، كحالة ليبية بالتأكيد لدينا مشروع روائي يسير بخطى طموحة ليثبت مكانته في مدونة السرد العربي والعالمي، لقد قطعنا شوطا مهما في إثبات وجود وجمالية الرواية الليبية بهويتها الخاصة ومعايير الحداثوية، تكرار الحضور والنجاح والتميز للعمل الروائي الليبي يخلق حالة تراكمية تؤهله للتنافس وإثبات مكانته في أعلى المحافل الإبداعية”.