الإنشاد الديني يخرج الغناء العربي من أزمته

محمود الصياد لـ"العرب": الترابط بين الإنشاد الديني والغناء العاطفي يمنحهما المزيد من التطور.
الجمعة 2022/07/01
موسيقى تسمو بالروح

منذ القدم كان للغناء دور في رسم حضارات الأمم، حيث وجد في المعابد والبيوت والشوارع والمراقص وغيرها. وكانت فيه أشكال وأطياف منها الإنشاد الديني الذي تطور مع العصور ودخلت عليه الآلات الموسيقية وفنون الرقص، حتى صار أحد أسباب التطور الموسيقي في كل بقاع العالم، وقيل إن معيار حضارة أمة ما يمكن أن يقاس بمقدار تطور موسيقاها الدينية. وتحقيقا لفكرة التطوير الغنائي الديني وجدت فرقة “رباعي دمشق” للنشيد التي قدمت حديثا حفلا خصصته لفن القد.

قدمت فرقة رباعي دمشق للنشيد، في دار الأسد للثقافة والفنون “أوبرا دمشق” حفلا لها قبل أيام حمل عنوان “قد ودور وطقطوقة”، بمشاركة فرقة محمود الطير للمولوية. وغنت فيه المجموعة المؤلفة من محمد الشعار ومصطفى الشيخ ومحمود الصياد وغسان السروجي، عددا من القدود الغنائية الدينية الحديثة، جالت فيها على مؤلفات موسيقية للمؤلف الشهير عمر البطش فقدمت قدا على موشحه الشهير “يمر عجبا”، كما غنت قدا على نغم أغنية “يا مال الشام” للمؤلف سهيل عرفة وكذلك قدا على مقطع من موسيقى أغنية “الحب كله” للملحن المصري بليغ حمدي كما قدمت قدا على موال “حبيبي على الدنيا” للفنان صباح فخري وغيرها من القدود التي لاقت إعجابا لدى الجمهور.

كيف نشأ القد 

فن نبيل يحمل قيما سامية
فن نبيل يحمل قيما سامية

الثابت أن فن القد وجد في حلب أولا عبر القديس السرياني مار أفرام عام 306 ميلادي. لاحظ القديس أن الناس يبتعدون عن تأدية الترانيم الدينية في الكنيسة ويحفظون بدلا عنها أغاني عاطفية أو شعبية تتميز بخفة الألحان وحيويتها، فقرر أن يأتي بتلك الألحان للكنيسة ليرددها المصلون، لكنه اصطدم بواقع أن بعض الكلام فيها مبتذل وسوقي مما لا يمكن معه أن يقدم في طقوس التعبد داخل الكنيسة، فما كان منه إلا أن أتى باللحن الأساسي الذي يحبه الناس وصاغ كلاما دينيا يناسب هدفه. فانجذب الناس للتجربة وتبنوا تلك الأناشيد بألحان الأغاني المحببة إليهم.

ويكتب الباحث الحلبي عبدالفتاح قلعه جي في تعريف القد: “كلمة قد تعني المقاس. فالألحان الدينية كانت تخرج من الزوايا الصوفية لتبحث عن كلمات فيها الغزل وفيها القضايا الاجتماعية، فيبقى اللحن الذي كان أساساً أنشودة دينية وتصوغ وفقه كلمات تدخل في الحياة اليومية فهذه على قد تلك ومن هنا نشأ القد. واشتهرت القدود بأسماء مؤلفيها وليس بأسماء ملحنيها (المجهولون على الغالب) فالذين ألفوا القدود هم شعراء لكنهم يمتلكون ذائقة موسيقية جيدة ومنهم من كان موسيقياً أيضاً”.

الغناء الديني ما زال يحتاج إلى المزيد من الاهتمام والدعم الحكومي الرسمي، شعبيا هنالك حاضن كبير له ومتابعوه كثر

ويعود ارتباط القد بمدينة حلب، في الغالب إلى أن السبب في ذلك موقعها الجغرافي المميز الذي جعلها مركزا تجاريا واجتماعيا هاما في طريق الحرير كما كان لوجود إذاعتها دور أساسي، فإذاعة حلب من أقدم الإذاعات العربية وفيها تم تقديم الكثير من القدود. وعبر تاريخها اشتهر عدد من المطربين في تقديم القدود في حلب منهم: الشيخ عبدالغني النابلسي والشيخ أبوالهدى الصيادي ومحمد الدرويش وشاكر الحمصي وجمال الدين ملص وصبري مدلل وأشهرهم صباح فخري.

وفي 16 ديسمبر 2021 أدرجت منظمة اليونسكو القدود الحلبية على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي.

ولبلاد الشام تاريخ قديم في الإنشاد الديني الذي بدأ مسيحيا منذ القرون الأولى لانتشار الدين المسيحي، خاصة مع القديس مار أفرام. والذي تعتبر قدوده الأقدم في تاريخ هذا الفن. ومع دخول الإسلام وجد الغناء الديني الإسلامي الذي تطور عن الشكل الأول الذي نشأ مع صوت بلال بن رباح أول مؤذن في الإسلام، ومن أول أنشودة إسلامية “طلع البدر علينا”.

وعبر مئات من السنين تغير الإنشاد وتطور وكان له مكان خاص تحديدا في شهر رمضان وكذلك في رحلة المحمل الشريف إلى الحج في مكة المكرمة. وكانت تحوطه طقوس خاصة ويقام في القصور والبيوت، وطوّر الملحنون الأداء فيه فصار يقدم في جوقات، إذ تؤدي كل جوقة مذهبا غنائيا بصوت خفيض ومستمر بينما ينفرد واحد بغناء موشح أو قد محدد. وصار له أماكن خاصة في التكايا والزوايا في الأحياء والمدن، ودخلت عليه بعض الآلات الإيقاعية مثل الدف، وقدمت فيه أشعار للمتصوفة مثل ابن الفارض والبوصيري. وأدخل عليه جلال الدين الرومي رقص المولوية وارتبطا معا، كما شهدت مصر في النصف الأول من القرن العشرين تطورا هاما في هذا المجال حيث عمل العديد من المؤلفين الموسيقيين على تكريسه، كان أبرزهم رياض السنباطي الذي قدم بصوت أم كلثوم مجموعة من القصائد الدينية الشهيرة منها: “نهج البردة” و”سلوا قلبي” و”حديث الروح” و”ولد الهدى” وغيرها.

تاريخ ومنافسة 

الإنشاد الديني.. أفكارا وقيم سامية تورث جيل من بعد جيل
الإنشاد الديني.. أفكارا وقيم سامية تورث جيل من بعد جيل

تقدم فرقة رباعي دمشق للنشيد، أعمالها الغنائية في الإنشاد الديني وهي تعي تاريخ هذا الفن وعراقته وقدرته على المنافسة في حياتنا المعاصرة.

ويقول محمود الصياد وهو أحد أعضاء الفرقة لصحيفة “العرب”: “ما قبل 1900 لم يكن هنالك غناء ديني أو عاطفي، بل كانا معا، ففي عصر المشايخ في مصر، كانوا يغنون التواشيح الدينية والعاطفية الطربية معا. بعد ذلك تغير الغناء العاطفي، ورأى البعض أنه ابتعد أحيانا عن السمو الروحي للغناء الديني فانفصلا عن بعضهما”.

ويتابع “الغناء الديني ما زال محافظا على رونقه، فهو يستعمل الموسيقى بشكل أقل من الغناء العاطفي، وهذا ما يتطلب وجود منشدين لديهم أصوات قوية وقادرة ومثقفة فنيا، وقادرة على تأدية أنواع الغناء المختلفة، فبسبب عدم وجود آلات موسيقية يكون المنشد ملزما بحفظ الكثير من الموشحات والأدوار والأندلسيات، لتنمية ثقافته الفنية والموسيقية، ولكي يحقق النجاح المطلوب. وعلى العكس يمكن أن يكون أحد المغنين شهيرا وموجودا على الساحة بقوة رغم أنه لا يحفظ إلا جزءا مما يحفظه المنشد”.

ويضيف: “الإنشاد الديني موجود في كل الوطن العربي وهو في سوريا يحمل طابعا ثقافيا وله جمهور ومتابعون يستمعون إليه حتى من الشرائح غير المتدينة، لما يجدون فيه من راحة نفسية تزيح عنهم هموم الحياة، خاصة عندما يحمل أفكارا وقيما سامية”.

وأوضح الصياد في تصريحه لـ”العرب” أن “الفكرة في حفلنا، هي إيجاد كلام ديني جديد على لحن موجود ومألوف للناس، مع التأكيد على أننا لسنا من وضع هذه الألحان فنحن ننسب الألحان إلى أصحابها. وهنا تباينت الآراء. منهم من وجد أنها سرقة للألحان المعروفة والرائجة، وفريق آخر وجد أنها إثراء للفن والثقافة، وبالتالي فإن هذه الطريقة ستعيد هذا اللحن إلى ذاكرة الناس ويمكن أن يعيش من خلالها فترات زمنية طويلة”.

الإنشاد الديني موجود في كل الوطن العربي وهو في سوريا يحمل طابعا ثقافيا وله جمهور حتى من الشرائح غير المتدينة

أما عن كيفية وجود القد وتطوره يقول الصياد: “أقدم مصدر للقد عن طريق مار أفرام في حلب، عندما حاول جذب الناس إلى الكنيسة من خلال بعض الألحان الجميلة والرشيقة التي يحبونها ويرددونها، فقدم أغانيه الدينية على هذه الألحان. ووجد أن الناس تقبلت هذا الغناء وصار يغني خارج الكنيسة في البيوت والأسواق وغيرها. نحن تناولنا ذات الشيء، أتينا بألحان معروفة ومشهورة ووضعنا لها كلاما جديدا يخدم أهدافنا في الإنشاد الديني ولم نأخذ القد بصيغته التقليدية. هناك مثلا أغنية “الحب كله” للمؤلف بليغ حمدي معروفة ومحبوبة لدى الجمهور، صغنا لها كلاما جديدا وقدمناها في العرض، ونحن عموما وضعنا أكثر من قد لأغاني السيدة أم كلثوم”.

ويوضح “أؤكد أننا لا نقوم بنسبة الألحان إلينا ونحن نسمي صاحب اللحن. في حفلنا الأحدث صنعنا قدا على لحن “الحب كله” و”يا مال الشام” وغيرها. هنالك شريحة أحبت هذه التجربة وصار لها مستمعون ومتابعون. وذهبنا في تصوّر جديد حيث وضعنا قدا لموال والذي هو أساسا شكل غنائي ارتجالي. فقدمنا موال “حبيبي إذا غبت” للفنان صباح فخري ضمن شكل غنائي محدد الدرجات الموسيقية والقفلات والعرب. هو حافظ على وحدة غنائه دون ارتجالات رغم تمكنه من هذا الفن. ونحن قدمنا هذا الموال مستخدمين نفس الأعاريض الشعرية والمد الصوتي والقفلات فاستمتع الناس بالتجربة والسبب أن اللحن معروف عندهم ويسكن وجدانهم”.

ويرى محمود الصياد أن الإنشاد الديني منافس قوي للغناء العاطفي ويمكنه أن يحقق مراتب متقدمة. ويقول: “نحاول تقديم فن هادف ونبيل يحمل قيما جيدة. في رباعي دمشق للنشيد لسنا ضد الغناء العاطفي، بل معه، خاصة عندما يحتوي على الكلام اللطيف واللحن الجميل، ونتمنى أن يتطور الغناء العاطفي والإنشاد معا وأن يكونا مرتبطين. اليوم هنالك غناء يهيج الغرائز أكثر ما يهيج العاطفة أو يبني فكرة. كان هنالك غناء يسمع من كل العائلة في زمن الكبار مثل أم كلثوم وصباح فخري وفريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب وغيرهم. لكن هذا الغناء انحدر، الآن يكون المستمع مضطرا إلى أن يلغي المتابعة من سوء ما يقدم أحيانا، نحن نقدم إنشادا دينيا، لا نقدم أنفسنا على أننا البديل، بل مشروعا موازيا”.

ويختتم الصياد تصريحه لـ”العرب” بالقول إن “الإنشاد الديني ما زال يحتاج إلى المزيد من الاهتمام والدعم الحكومي الرسمي، شعبيا هنالك حاضن كبير له وله متابعون كثر. أي فن في العالم يرتكز على أربعة أسس لابد منها جميعا لكي يزدهر، وهي الفنان أولا ثم المادة الفنية ثانيا والجمهور ثالثا والجهة الداعمة رابعا هذه هي باختصار الأسس للتطور”.

15