معركة ملفات بين الرئيس التونسي والقضاة: من ينتصر أخيرا

معركة مفتوحة الآن بين الرئيس قيس سعيد والقضاة المعزولين. وفيما سحبوا هم كل ما يمتلكون من ملفات وقصص وحكايات، يلازم الرئيس سعيد الصمت، وهو أمر سيكون في صالحهم، فالناس يحتاجون أن يعرفوا ما جرى بالضبط ويريدون أن يسمعوا من الجهتين ولا يكتفون برواية واحدة.. فلماذا تسكت وزارة العدل، والمجلس الأعلى للقضاء المؤقت؟
حين أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد عن عزل قائمة تضم 57 قاضيا اكتفى بسرد بعض التهم الموجهة إليهم، والتي كان أبرزها “شبهات الضلوع في الفساد والتستر على فاسدين، وتعطيل تتبع ذوي الشبهة في قضايا إرهابية، والتواطؤ مع جهات سياسية أو مالية نافذة”.. كان كلاما عاما رغم أن بعض العارفين عرفوا المقصود بهذه التهم وبعضهم ثار حوله جدل خاصة بعد معركة الملفات بين قطبي القضاء خلال الأشهر الماضية.
وفيما توقفت السلطة السياسية عند هذه التهم العامة، ولم تحول الأمر إلى فتح ملفات قضائية ضد القضاة المعزولين، فإن هؤلاء القضاة فتحوا معركة علنية على قيس سعيد للتشكيك في ما أورده، مركزين على أن العزل كان لأسباب تتعلق برفض المعزولين تنفيذ أوامر بـ”تسييس القضاء” من ذلك الحديث عن التدخل في القضية المرفوعة ضد المؤتمر الاستثنائي لاتحاد الشغل وشرعية القيادة، وحديث آخر عن رفض القضاة توقيف نواب من البرلمان المنحل ومحاولة “توريط” سياسيين في الجهاز السري.
من الضروري أن يطلع الناس على حيثيات استبعاد كل قاض من السلك، ما هي طبيعة الاتهامات التي وجهت إليهم، هذا حقهم، ولكن الأهم أن هذا حق العدالة وحق الناس في أن يفهموا حقيقة ما جرى
صحيح أن الماكينة الإعلامية للقضاة المعزولين كانت أقوى، حيث عقدوا مؤتمرا صحافيا وتحركوا في الفضائيات والإذاعات والصحف المحلية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي للإقناع بأن السلطة طلبت توظيف القضاء، والقضاة رفضوا. لكن المطلوب الآن أن نسمع الطرف المقابل، وخاصة وزيرة العدل التي هي في الأصل قاضية ويمكنها أن تعقد مؤتمرا صحافيا وترد فيه على الحملة المضادة.
من الضروري أن يطلع الناس على حيثيات استبعاد كل قاض من السلك، ما هي طبيعة الاتهامات التي وجهت إليهم، هذا حقهم، ولكن الأهم أن هذا حق العدالة وحق الناس في أن يفهموا حقيقة ما جرى. الناس أميل إلى رواية السلطة ليس فقط بسبب انحياز غالبية الشارع لقيس سعيد في صراعه مع المنظومة القديمة، ولكن لوجود قناعة راسخة في الأذهان منذ ما قبل الثورة أن في قطاع القضاء فسادا كبيرا، وراجت الكثير من القصص والروايات.
لكن ترك الأمر على قائمة أسماء سيترك الأمر في إطار التكهنات والكيديات، ولن يقف عند الحد الذي تريده السلطة بل سيرتد عليها.
أين المجلس الأعلى للقضاء المؤقت الذي عينه قيس سعيد كخطوة أولى في مسار إصلاح القضاء، لماذا هو صامت، لم لا يعقد مؤتمرا صحافيا يعرض فيه ما لديه من حقائق ومعطيات عن المعزولين، هل اختار مراقبة المعركة فإن انتصر القضاة عاد إلى الصف موحيا بأنه لم يختر طريقه ولأنه كان مجبرا، وإذا انتصرت إرادة قيس سعيد ظهر ليقول إنه كان على حق حين قبل بالمهمة.
منزلة بين المنزلتين توحي بشكل واضح بأن السلطة راهنت على طرف ضعيف، وهذا ما يفسر اضطرار الرئيس سعيد للدخول بنفسه في المعركة باستصدار مرسوم العزل، ومواجهة حملة سياسية كان يمكن ألا تجد لها أي مشروعية لو قام المجلس المؤقت بدوره وبدأ بتنفيذ رؤيته لإصلاح القضاء وفتح ملفات الفساد التي تقول السلطة إنها تملك أدلة عليها.
ليس المطلوب أن تعرض السلطة الملفات على قارعة الطريق أو أن تعقد محاكمات علنية، لكن الواجب أن ترد على الحملة المضادة بحملة مدروسة تبين مصداقيتها أولا، وتظهر أن الحملة المضادة هي حملة سياسية ضمن تحرك أشمل وأوسع لاستهداف الرئيس سعيد.
كما أن عليها أن تنجح في طمأنة غالبية القضاة الذين هم قضاة غير مسيسين وهمهم الوحيد ضمان مناخ ملائم للقيام بعملهم، ومن ضمن شروط هذا المناخ عدم تدخل السلطة بنفسها في الضغوط، وفي نفس الوقت تدخلها لمنع أطراف أخرى من الضغط على القضاة وتحويلهم إلى واجهة لتصفية الحساب السياسي.
المعادلة صعبة، لكن واجب السلطة يحتم عليها أن تحمي القضاة ممن لا شائبة على سجلهم، وأن تجعلهم يحسون بالأمان، وتخلق مناخا إيجابيا للعمل سواء بتحسين وضعهم المادي، والحفاظ على استقلاليتهم، ومنع تدخل أي أجهزة أخرى في صلاحياتهم، وبالذات جهاز الداخلية.
وفي كل الأحوال، فإن الاستمرار في الصمت ليس في صالح السلطة، وهو ما بدا واضحا من خلال توظيف “معركة القضاء” كقضية سياسية ليس فقط من بعض القضاة، ولكن من الطبقة السياسية المحلية، ومن أطراف خارجية لا تفوت الفرصة للتدخل سريعا في مثل هذه المعارك لتأكيد وصايتها على بلد يفترض أنه مستقل ويقدر على إدارة أزماته بنفسه.
من المهم أن تضع السلطة في قراراتها أن مواجهة الجميع في نفس الوقت أمر صعب، أيا كانت المصداقية والشعبية ونظافة اليد.. الناس يتأثرون بكل ما يسمعون ويرون ويقرأون، وحين يجتمع الخصوم، فلا شك أن التأثير لن يكون بنفس درجة مواجهة خصم واحد.
ليس بمقدور قيس سعيد أن يضع الناس كلهم في سلة واحدة، وإلا ربحوه. في السياسة هناك شيء اسمه تكتيك ومرحلية ومناورة. فحين قام الرئيس سعيد بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب حصل على دعم كبير من الشارع لأن الناس ملوا من البرلمان ومن شطحات النواب، لكن حين يضع قيس سعيد البرلمان واتحاد الشغل والقضاة والجمعيات النسائية في سلة واحدة فسيجد نفسه في الزاوية خاصة أن أداء أنصاره وبعض الخبرات التي تحيط به محدود وتشوبه هنات كثيرة، من ذلك تسريب وثائق عن الحياة الخاصة لقاضية أو اثنتين.
هذا أسلوب غير لائق أخلاقيا لسلطة تقوم على النزاهة وتريد التأسيس لجمهورية جديدة مناقضة لمرحلة سيطر عليها الفساد والمحسوبية ونزل فيها الخطاب السياسي إلى الحضيض. المس من الحياة الخاصة للخصوم أسلوب يضر بالرئيس سعيد قبل غيره ويغير وجهة المعركة، فضلا عن أنه أثار غضب المنظمات والجمعيات النسوية والمجتمع المدني، وهي مكونات كانت إلى جانب الرئيس سعيد ودعمت مسار 25 يوليو.
كما أن عدم حساب النتائج التي يمكن أن تنجر عن مواجهة الجميع في نفس الوقت سيفتح الباب أمام التدخلات الخارجية، من السفارات، وخاصة من الجمعيات المشبوهة المتخصصة في تقصي أخبار العرب وتضخيمها وتوظيفها للضغط.
صحيح أن الشارع التونسي مع قيس سعيد ضد نشاط هذه المجموعات، ويدعمه من أجل التصدي لها، مثلما حصل في الجدل حول “لجنة البندقية”، لكن من المهم وضع هذا المعطى في الاعتبار، فما تقوله هذه الجمعيات وما تصدره من بيانات لديه تأثير مباشر وجلي على القرارات الخاصة بالمساعدات والقروض التي تحصل عليها تونس من الاتحاد الأوروبي والصناديق المالية الدولية والولايات المتحدة.
لو كانت لتونس بدائل من مناطق أخرى، وخاصة من المحيط العربي، كان يمكن أن تدخل في معركة لي ذراع مع هذه الجمعيات والمنظمات التي يعرف القاصي والداني أن الغرب ينشها لمصلحته الخاصة ولاعتبارات لا يفصح عنها، وأنها واجهة ضغط بالدرجة الأولى، وأنها تخترق بالتمويل والإغراءات الساحة التونسية، طبقة سياسية ومجتمعا مدنيا، وإعلاما، وأنشطة ثقافة، وأنها تشكل طبقة تابعة تكون جاهزة لإطلاقها في أي لحظة للضغط على أي سلطة تختلف معها بقطع النظر عن جدية شعارات تلك السلطة واستعدادها لشق عصا الطاعة.
وفي هذا السياق يمكن ملاحظة التدخل السريع لعشر منظمات حقوقية من بينها “هيومن رايتس ووتش” و”مراسلون بلا حدود”، في أزمة القضاء، وقبلها في أزمة البرلمان وأزمة اتحاد الشغل، وستظل دائما على استعداد للتدخل.
وأصدرت المنظمات العشر بيانا مشتركا طالبت فيه الرئيس سعيد بإلغاء مرسوم يتيح له سلطة إعفاء القضاة خارج أي رقابة قانونية معتمدا على تقارير غير محددة المصدر.
وقالت المنظمات إن “تحركات الرئيس ضربة موجعة لاستقلالية القضاة” و”اعتداء على سيادة القانون”.