العقل مكيال

كلُّ الحقّ مع هذه المقولة العربية القديمة؛ ”العقلُ مكيالٌ ثلثُه فطنةٌ وثلثاهُ تغافل“، فالتغافل في العلوم الحديثة، جزء أساسي من مهارات التفاعل الاجتماعي والتربية، وليس التغافل هو الغفلة، إنما ادعاؤها وإراحة الآخر بها، بدلا من جعله مستنفرا طيلة الوقت.
وعن العقل وقصصه حدّث ولا حرج. الكثير مما ينقصنا كزاد يومي لعلنا نبقى على صلة بعقولنا فهي الباقية.
في سنّي المراهقة وربيع العمر، يحرص المرء على القول إنه يعرف، وتجدون هذا جليا صارخا مع أبنائكم وبناتكم، حين يدخلون معكم في نقاش لا ضرورة له، ولا جدوى منه إلا الجدل والقول في النهاية: أنا أعرف حتى لو كانت معرفتي خاطئة.
ماذا عليك أن تفعل حينها؟ تجادله كما لو كان ناضجا وتحاججه؟ أم تتغافل عن شيء وتستوقفه عند آخر؟
علينا أن نعترف كآباء وأمهات، وحتى كوحدات اجتماعية صغيرة (أفراد) أننا نهمل مهارة التغافل ومفعولها السحري.
في كل مرة ستشعر بالندم، بعد أن تقهر حوارا جرى بينك وبين ابنك، خرجتما بنتيجة تشير إلى أنه ليس مؤهلا بعد للحياة وتعقيداتها.
أبسط قواعد الحكمة تنص على أن تعفّ عن تلقّط هفوات من تحرص على إقناعه، سواء كان فردا في أسرة أو فريق عمل أو جمهورا عاما، لا أن تُجهز عليه وكأنك في مبارزة. فالانتصار عليه سيخلّف لديه الكثير من الإحباط.
وقديما قالوا إن التغافل سلاح الدهاة والأذكياء، قال الحسن البصري “مازال التغافل من فعل الكرام“، ومن منا لا يخطئ؟ ومن منّا لا يختار قرارا غير مناسب في بعض الأحيان أو كثيرها؟ فتغافل عن نفسك ولا تتربّص بها، وتغافل عمّن تحب ودلّه على ما تريد بأذكى الطرق لا بأشدّها قسوة.
آلة التفاعل الأكثر ذكاء على الأرض في عصرنا الحالي هي العقل البشري، عرف ألبيرت آينشتاين ذلك بيوم سيأتي تتجاوز فيه التكنولوجيا تفاعلنا البشري، وعبّر عن قلقه من أن “العالم سيكون يومئذ جيلا من البلهاء“.
بالمقابل تسري موضة رجم التكنولوجيا كالنار في الهشيم، يلعنها من يلتصقون بها طيلة الأربع والعشرين ساعة اليومية، ولا يكفون عن الشكوى منها، ودون أن يقوموا بثورتهم الموعودة ضد التكنولوجيا.
فقط في أفلام السينما تجدهم يسردون لنا قصصا عن صراعات المستقبل مع الذكاء الاصطناعي، وعن أبطال الغد المختبئين تحت الأرض هربا من ملاحقة الآلات لهم.
وحدها الآلات لا تستطيع التغافل، مبرمجة على ذلك ولا رحمة في قلوبها الإلكترونية، والرحمة أعلى درجات الحكمة لأنها الأكثر بُعدا عن الهمجية.