الكاتبة والرسامة المصرية منال السيد: هناك قارئ بعيد لا نراه وحكمه نهائي اسمه الزمن

يمكن الترويج لكاتب سيء ولا يمكن الترويج لفنان سيء.
الخميس 2022/06/09
أنا لا حكاية لي.. أنا كل هؤلاء

تشكل أعمال الروائية والقاصة والفنانة التشكيلية منال السيّد رؤية عميقة وكاشفة للمهمّش والمسكوت عنه من قضايا وأحداث تعترك في حركة الحياة داخل الواقع الاجتماعي المصري، لتنسج عالما شديد الخصوصية يبحث بشغف عن طاقات نور بين أسئلته وشخصياته وأفكاره وأحداث واقعه المعيش. وفي هذا الحوار مع “العرب” نتعرّف على العوالم الأدبية والفنية لها وعلى مراحل تكوينها والأفكار والرؤى التي ارتكزت عليها منذ انطلاق مسيرتها الإبداعية.

لم تنعكس رؤية منال السيّد التي تنتصر للهامش فقط على أعمالها القصصية والروائية، بل انعكست أيضا على تجلياتها الفنية؛ فتكوينات لوحاتها الهندسية واللونية والمكانية ترمي دوما إلى تأمل الحياة داخل تركيبة البيئة المصرية.

وتجمع  السيّد بسلاسة بين عالمي الكتابة الأدبية والفن التشكيلي، فهي حاصلة على بكالوريوس الفنون الجميلة قسم التصوير الزيتي بجامعة حلوان في 1994، كما أنها عضو نقابة الفنانين التشكيليين وعضو جمعية اتحاد الكتاب والفنانين، وقد أقامت معارض فردية وجماعية عدة، بينما صدرت لها ثلاث مجموعات قصصية “الذي فوق”، “أحلى البنات تقريبا”، “درقة البلاد” ورواية “غنا المجاذيب”.

رغبة الكتابة

تقول السيد “البدايات لم تكن الأمور واضحة ولا مُؤطرة بحدود وردية تشير إلى ظهور ما، طفلة مكتوب عليها التواجد في المنطقة الرمادية حيث المولود الثالث ليس أول الفرحة وليس آخر العنقود وليس ذكرا كي يرحب بقدومه، فلا شيء سوى الصمت، كومبارس تتفرج على المشاهد حيث الأشقاء الأبطال من ذوي الحظوة، فيما أنا أمرّ فقط أمام الكاميرا. كانت صورة مؤلمة لكنها جيدة للتأمل وخلق عوالم رحبة أحلق فيها وأعطي لنفسي دورا طالما حلمت به، دور البطلة”.

◙ منال السيد حاولت التخلص في مجموعتها القصصية من توتر المراهقة

وتضيف “الرسم بدأ أولا طباشير وجدران، أصلح الأقدام المعوجة في الرسوم وأعمل للفتيات فساتين وشعر له صغائر طويلة. والكتابة في ما بعد؛ عند سن الثامنة. وقتها كان التعليم الحكومي قريبا جدا من أفضل تعليم خاص الآن، طلبت منا المعلمة قراءة قصة وإعادة كتابتها من الذاكرة، بأسلوبنا الخاص، حين فعلت ذلك أتذكر سعادة خفية كانت غريبة لأني ما أحببت يوما طلبات وفروض المدرسين، لكني أحببت ذلك ونفذته بانسيابية حين قدمته للمعلمة احتفت بي وأعطتني الدرجة كاملة. بدايات عادية لكن الحقيقة لم تكن محاولات أو خطوات الإبداع بقدر ما هو تعامل مع ألم الوحدة رغم وجودي في الزحام”.

تقول السيد “حين اكتملت قدرتي على القراءة كنت أقرأ أي شيء تقع عليه عيني بدءا من الصحيفة اليومية التي كان ممنوعا عليّ لمسها قبل أبي لأنني على حد قوله ‘كنت انكش أوراقها بعنف، فكان يكره أن يقرأها بعدي‘، كنت انتظر فروغه اليومي منها ثم أقرأ كل ما فيها بدقة غريبة حتى أني كنت أقرأ الإعلانات والوظائف الخالية وصفحة الوفيات. ثم تبدلت الحياة تماما بقراءة أول نص أدبي في مكتبة المدرسة للقاص والروائي محمد عبدالحليم عبدالله. فتح الباب على عالم من السحر، وصارت القراءة بعدها في اتجاه آخر. الرواية والقصة القصيرة. لم يكن لدي ترف الاختيار وقتها. أعمال لكتاب ربما لا يشبعون ذائقتي الآن لكن كانت أعمال كافية لاكتمال الانجذاب”.

تشير الكاتبة “طوال الوقت أرسم وأقرأ وأصمت، هكذا مرت الأعوام حتى كان علي أن أختار أي دراسة سأدرس، أردت دراسة الصحافة، كي أكتب ويكون الرسم على الهامش، فأراد الله أن يدخلني التنسيق لكلية الفنون الجميلة وهو أفضل شيء حدث لي تقريبا. حقا كنت محظوظة لدراسة وممارسة الفن التشكيلي لأنه أفادني جدا في الكتابة الأدبية؛ في رسم اللحظات، انتقاء الزوايا، تجسيد المشاهد واختزال وتلخيص العالم، إضافة الروح الحية، اللون والضوء والصورة الواضحة أحيانا أو الخافتة حسب ما يتراءى لي”.

تؤكد السيد أنها في كلية الفنون الجميلة ولدت من جديد “تجربة حياتية أكثر من كونها دراسة، علاوة على الجانب الأكاديمي من تعلم فن التصوير الزيتي الذي تخرجت وتخصصت فيه، كانت هناك تجربة تعلم الحرية للروح والعين وتقبل الآخر ومحبة الاختلاف. مرّ عامي الأول بالكلية وقد ملئت بالحيرة وبرغبة يصعب وصفها في أن أكتب وأحتك بهذا العالم السحري، بدأت أتجرأ وأعرض قصصي الأولى على زملاء الكلية. أذكر أن منهم الفنان عماد رزق الفنان التشكيلي وعميد كلية الفنون الجميلة السابق، كان وقتها زميلا لي يسبقني بأكثر من دفعة، وبالمصادفة كان شقيقا للشاعر الراحل شريف رزق رحمه الله. بدأ يعطيني قصائده المنشورة في الصحف، كنت ألمسها وأقرأها كمن لمس جزءا من الجنة. كان عالم الكتاب بعيدا ومقدّسا ولم أكن أتخيل أن يكون لي أي معرفة شخصية بكاتب حقيقي، وكنت أتخيل أن أمامي عشرات السنين قبل أن أنشر نصي الأول”.

◙ المشهد الثقافي الآن غير جيّد، ضجيج من الإصدارات والنجاحات المهولة والجوائز وحين تقترب من كل ذلك لا تجد شيئا

وتوضح الكاتبة والفنانة المصرية “الحقيقة إن دخولي هذا العالم كان أسرع وأيسر بكثير مما تخيلت حين ذهبت بحيرتي إلى ‘جريدة المساء’ دون أن أعلم بوجود ندوة أدبية بها يديرها القاص والروائي محمد جبريل. ذهبت للقاء سيدة صحفية تهتم بقضايا الشباب وأردت منها مساعدتي وتوجيهي، فأخذتني من يدي ودخلت بي مكتب الأديب محمد جبريل، الذي لم يكلمني كثيرا فقط طلب أن يقرأ لي شيئا، فأخرجت قصتي وأنا مرتعشة؛ كانت بخط اليد مررها إلى الشاعر يسري حسان وقال له اقرأ وقل لي رأيك. كنت أشعر أني في حلم، وأن كل ذلك ليس حقيقيا، وكان قلبي ينتفض. حين انتهى يسري حسان من القراءة سأله جبريل: ها كويس؟ رد يسري دون أن بنظر لي: أيوه كويس. أخذ منه القصة وأعاد قراءتها. وحين انتهى منها قال سوف أنشرها. اشتري الصحيفة السبت المقبل، وستجدينها منشورة. قال ذلك بينما أنا كنت فوق السحاب. لن أنسى هذه اللحظة أبدا”.

وتضيف “في أروقة الكلية كتبت قصصي الأولى، كانت مجموعة ‘الذي فوق’ والتي حققت صدى جيدا حين صدورها. كان ذلك في عام 1995 بعد تخرجي بشهور. كان المناخ الثقافي جيدا حيث يسمح بتواجد طالبة مازالت تدرس، وتنشر قصصها في كبرى الإصدارات وقتها مثل إبداع والقاهرة والثقافة الجديدة والحياة اللندنية، ثم تصدر كتابها الأول في إصدار تابع للدولة وهي لم تتسلم شهادتها الجامعية بعدُ. مناخ أفخر بمعايشتي إياه والوقت النظيف الذي كان ينتقي المواهب ويقدمها بإخلاص ومحبة”.

أما عن مجموعتها “الذي فوق” فقد كتبت قصصها بروح طفلة ومراهقة تكتب فقط عما تعرف، تكتب ألغاز العالم بالنسبة إليها، أسئلتها الحقيقية والتي تدور في ذهن طفلة صامته ثم مراهقة، بعضها كتبتها من أجواء الكلية وما شاهدت عيناها. بعدها كتبت مجموعتها الثانية “أحلى البنات تقريبا” فكانت البنت تكبر، تحب، تطير بفرحة الحب الأول ولقطات عن ما تشاهد، الأسرة، الأخوات، الشقيق العنيد، الأب.

وتقول “حقيقي أنا أحب هذه المجموعة وأعتقد أنها من أجمل مجموعاتي القصصية، حاولت أن أتخلص فيها من توتر المراهقة. حاولت أن أبني بناء أكثر حبكة، كنت أحب التكوين الجيد في شغل التأثير بين العظماء أمثال سيزان وجوجان. تكوين رصين وجاد وألوان مجنونة خصوصا لدى جوجان. هذه المجموعة مقسمة لثلاثة أجزاء أهمها ما كان عن العائلة. المشاحنات والمخاصمات التي تهز الروح رغم الحب العميق. لكن هناك ألم عميق أيضا وكيف نكون نحن أحيانا ماسكي الأسواط لمن نعشق”.

◙ نحت في الفراغ وموزاييك؛ قطع صغيرة غاية في الصغر، مشاهد تظهر وتختفي سريعا لتبدو من جديد في آخر الورقات

وتتابع “في المجموعة الثالثة ‘دوقة البلاد’ كنت أنمو وأبحر للأمام. الأنثى تكبر. تسبح في قصة حب وحيدة. كانت التجارب التي تعصر الروح زواج، توتر عميق ومشاحنات؛ مشاحنات المحبين التي تترك القلب ينزف لكن لا يموت. وكانت تجربة الوحدة الكاملة بعد ضجيج دامٍ كل العمر الذي يسبق التجربة. صمت البيوت على الوحيد. أشباحه وعوالمه ومخاوفه وتفاصيل بيته التي تصير كل العالم ولا شيء بالخارج”.

مشهد متداخل

تؤكد السيد أن كتابة رواية “غنا المجاذيب” كانت طيفا تهرب منه، سنوات تفكر فيها وتهرب، إذ تشعر بثقل الأمر وتشعر بالخوف.

تقول “كتبتها في سبع سنوات، وظللت أنقح فيها حتى وصلت للمطبعة ولم أقرأها بعدها أبدا. وحين فازت بجائزة ساويرس، كانت الإضافة الوحيدة هي بعض النقود، أما أنا فقد شعرت أصلا بالإنجاز من قبلها فور انتهائي منها، بقدر ألمي في كتابتها بقدر فخري بها؛ فخر يتجاوز أي جائزة. الرواية هي نحت في الفراغ وموزاييك؛ قطع صغيرة غاية في الصغر، مشاهد تظهر وتختفي سريعا لتبدو من جديد في آخر الورقات، تظهر الصورة كاملة في رسم الحي الذي عشقته وقررت رسمه بالقص، حدائق القبة، تدور فيه الأحداث من الماضي والحاضر. ليست سيرة ذاتية، فلا حكاية للراوية الطفلة، فقط عيناها تحكي عما شاهدت هي دون أن تحكي عن نفسها، تقول: أنا لا حكاية لي أنا كل هؤلاء”.

وتلفت السيد إلى أنها انتهت منذ سنوات من كتابة روايتها “بنات الملح” ورغم ذلك لم تطبعها حتى الآن، وتقول “ربما لست مستعدة للنشر أو لست جادة في ذلك، ربما خائفة وأنشد الكمال، ومرعوبة من قارئ بعيد لا أعرفه، كل فترة أعيد العمل عليها أغيّر أشياء طفيفة كلمة أو فقرة ثم أغلقها وانتظر قدرا غامضا ينهي مخاوفي ويشجعني على النشر. الرواية تتحدث عن المشاعر المختفية تحت جلود النساء وتحت صمتهن والابتسامات. شيء ساحر ومؤلم”.

وحول علاقتها بالرسم تقول الكاتبة “الرسم مجهد ويخلخل الروح؛ بعد تخرجي كنت مجهدة من الرسم، توقفت بضع سنوات واستغرقت في التواجد الأدبي، لكني لم أستطع الاستمرار في ذلك، وسرعان ما عدت وبدأت أرسم ثانية وأنجزت معرضي الأول، رسمت مجموعة لوحات لمنطقة مارجرجس، الكنائس القديمة والفخارات، واشتركت بصالون الشباب، وهذا يعتبر إنجازا جيّدا وقتها. بعدها عملت مدربة على التصوير الزيتي في إحدى الجامعات للطلاب الهواة غير المتخصصين وذلك أخذ طاقتي اليومية في الرسم. لكني لم أتوقف، كنت أرسم من حين إلى آخر، واشتركت في أكثر من معرض في السنوات الأخيرة بمركز سعد زغلول وفي قاعة اللوتس بالأوبرا” .

بوكس

وتؤكد السيد أن المشهد الثقافي الآن ليس سرّا أنه غير جيد، ضجيج من الإصدارات، والنجاحات المهولة والجوائز وحين اقترب من كل ذاك، لا أجد شيئا، لم تعد هناك ذات المبدع الحريص على إنتاج عمل أصيل ودقيق يقدمه لقارئ يحترمه ويخاف منه، يخاف من نقده ومن تقييمه؛ قارئ بعيد لا نعرفه، ولا نراه، لكنه موجود وحكمه نهائي وبات، اسمه الزمن.

وتضيف “أما المشهد النقدي فهو مريض نوعا ما بداء المصالح والمواءمات سواء في الأدب أو في الفن التشكيلي لكن الآليات مختلفة. في الفن التشكيلي ليست الكلمات مهمة، هو فن بصري، يصعب خداع المتلقي فيه، لأنه في العادة يكون دارسا أو مهتما أو متذوقا مدرك، يصعب الترويج لفنان تشكيلي ضعيف، سيكون مجهودا لا طائل منه، عكس الأدب. قيمة الفنان التشكيلي تتكون من اسمه وتاريخه ونقلاته ومقدار محافظته على عالمه الخاص، فلا خوف على البنيان التشكيلي في حال جنح النقد أو فشل. لكن الوضع مختلف في مجال الأدب يمكن للنقد الأدبي في حالة الإلحاح أن يوحي بوجود أدب جيد أو العكس. لكن أعتقد أنه محض إيحاء يذوب تماما بمجرد تعرفنا المباشر علي المنتج الأدبي”.

14