رفع الدعم باليمين وتوزيع الريع بالشمال

رغم الغموض الذي يكتنف مبادرة “لم الشمل” المعلن عنها من طرف الرئيس عبدالمجيد تبون، إلا أن ما تسرب من مشاورات الرجل مع بعض القادة السياسيين، هو البحث عن تزكية شاملة من طرف الطبقة السياسية لمشروع رفع الدفع الشامل. لكن، فيما تبحث السلطة عن التكيف مع المعطيات الاقتصادية الطبيعية واكتناز مليارات لصالح قطاعات أخرى، لا زالت تصرفاتها لا تستقيم مع الخطاب المتداول، بسبب استمرار سلوكيات التبرع بأموال الشعب دون حسيب ولا رقيب، بغية اكتساب نقاط جديدة في سلم الشرعية الشعبية.
بعد إعلان الحكومة عن رفع سقف نفقات الحج إلى أكثر من خمسة آلاف يورو، وما أثير حولها من انتقادات، قرر مجلس الوزراء برئاسة تبون التبرع بما مقداره 700 يورو من أجل التخفيف عن كاهل الحجاج، ولم يتم تقديم تفسيرات مفصلة حول مصدر تلك الأموال، لتضاف بذلك إلى التبرعات التي تجيد بها الحكومة دون مبررات أو عودة إلى تزكية البرلمان.
◙ رغم أن اقتصاد السوق لا يستقيم تماما مع توزيع الريع، إلا أن السلطة لا زالت مستمرة في نمط نزع الدعم باليمين والتبرع الاجتماعي باليسار
ويبدو أن السلطة التي تخشى من قنبلة رفع الدعم الشامل، وتريد توزيع المسؤولية على القوى السياسية في إطار مبادرة لم الشمل ورص صفوف الجبهة الداخلية، لا زالت هي نفسها ضحية الذهنية الاجتماعية الموروثة عن العقود الماضية، وحتى صرف الحكومة للمال لا يزال غير خاضع للرقابة والمساءلة، فقد سُيّرت منذ أسابيع عشر طائرات إلى الكاميرون لنقل أنصار منتخب كرة القدم بأسعار رمزية، ولم تسأل أي جهة في أجهزة الرقابة عن مصدر تلك الأموال التي أكملت فارق كلفة الرحلات، أم أن الشركة نفذت الأوامر عنوة ولا رأي لها في الخسائر، ما دامت هي أصلا مفلسة وتعيش على تحويلات الخزينة العمومية.
الحكومة الجزائرية، وربما رغبة منها لربح “دعاء” الحجاج في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ذهبت إلى أبعد الحدود في تسهيل المسألة على المعنيين، حيث تقرر فتح البنوك في توقيت قياسي لتنفيذ قروض خاصة بالحج، رغم أن الركن فرض على المسلم الذي استطاع إليه سبيلا، إلا إذا كان القرض البنكي هو السبيل المتوارث بشأن هذا الركن الديني.
وكالعادة خرج أحد فقهاء السلطة ليزكي المسألة، فقد أفتى علي عية “بجواز اللجوء إلى القرض لإتمام ركن الحج، ولم يشترط في ذلك إلا القدرة على إعادة القرض وعدم القيام ببند تأمين الحياة”، ليتكرس بذلك خطاب توظيف الدين في الترويج للقروض البنكية وقبلها للانتخابات، وقريبا للم الشمل ورص الجبهة الداخلية.
هكذا تدار الشؤون الاقتصادية في البلاد، الخطاب السياسي يتبنى شيئا، والممارسات الميدانية تكرس ثقافة الريع وتبذير المال العام ذات اليمين وذات الشمال، ثم بعد ذلك البحث عن المبرر ومن يزكيه، حتى ولو كان رجل دين لم ينتقد يوما مظاهر الفساد في مفاصل الدولة.
في أبجديات الاقتصاد يرتبط رفع الأجور بخلق الثروة والقيمة المضافة، وتستحدث المنح والعلاوات بنفس الشروط، لكن في الجزائر الباحثة عن رفع الدعم الشامل عن المواد ذات الاستهلاك الواسع، لا يزال الأمر يخضع إلى الريع وإلى ما تجود به براميل النفط، فمجرد ارتفاع أسعار النفط إلى ما فوق المئة دولار منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، تقرر استحداث منحة بطالة بنحو 80 دولارا، ورفع الرواتب بنسب متفاوتة، وكالعادة لا أحد يعلم كيف ستتم تغطية النفقات الجديدة في الموازنة العامة، رغم أن المسألة تتعلق بملياري دولار يتم توجيهها لأكثر من مليون عاطل عن العمل.
ورغم أن اقتصاد السوق لا يستقيم تماما مع توزيع الريع، إلا أن السلطة لا زالت مستمرة في نمط نزع الدعم باليمين والتبرع الاجتماعي باليسار، وفي الحالتين تشتم رائحة التوظيف السياسي، فإذا كانت في الأولى تريد عزل الفئات الميسورة وتوجيه الدعم للفئات الهشة من أجل ربح صمتها وصوتها، فإنها في الثانية تريد ارتداء ثوب الأب الحنون على أطفاله، حتى ولو كان الأمر يتعلق بمباراة كرة قدم.
في الأصل يجمع الجزائريون على أن سياسة الدعم الاجتماعي هي سبب جزء كبير من الفساد السائد في مفاصل الدولة، لكن المخاوف في المقابل قائمة بشأن شرعية السلطة التي يساندها الشارع في خياراتها المؤلمة، ومدى قدرتها على رسم خارطة اجتماعية حقيقية تحمي وتنصف الأفراد والعائلات الهشة.
◙ يبدو أن السلطة التي تخشى من قنبلة رفع الدعم الشامل، وتريد توزيع المسؤولية على القوى السياسية في إطار مبادرة لم الشمل ورص صفوف الجبهة الداخلية
ولعل أكثر ما يثير الشك بين السلطة والشارع، يعرفه الناس جيدا، خاصة المخضرمون، فقد كان خطاب الاشتراكية يتم بواسطة نخب معينة، ونفس النخب هي التي روجت للانفتاح واقتصاد السوق في الثمانينات، وهي التي رافعت دفاعا عن الخيار الاجتماعي لثورة التحرير، وهي التي تدعم مشروع الجزائر الجديدة للرئيس تبون اليوم، ولو كان ذلك دون دعم اجتماعي شامل.
ولأن المثل الصيني يقول “لا يمكن بناء سفينة جديدة بخشب قديم”، فإن تناسل نفس النخب والمدارس السياسية في البلاد، هو ما أبعد الشارع عن خيارات السلطة حتى ولو كان إقامة الجنة فوق الأرض. ولذلك فإن المسألة في حاجة إلى تغيير سياسي مقنع وجاد يقلص فجوة الثقة بين الطرفين، قبل اتخاذ أي قرارات اقتصادية أو اجتماعية يراد توريط أكبر عدد من الفواعل الداعمة للسلطة فيها بهدف توزيع المسؤولية. لكن ما غاب عن ذهن السلطة أنها بإمكانياتها وأذرعها لم تستطع إقناع الجزائريين بأي استحقاق نفذته، فكيف يمكنها أن تقنعهم برفع الدعم الشامل من جهة والإبقاء على توزيع الريع من جهة ثانية، وأي من الأحزاب سيملك الجرأة للنزول إلى شارع أنهكته الطوابير ليخطب فيهم مدافعا عن خيارات الحكومة.