"إنعاش".. فيلم سوري يبحث في أعماق الروح

عمرو علي يصوغ سينما جوانية تخاطب أعماق الإنسان.
الأربعاء 2022/06/08
مكان واحد ونفوس متقلبة

"إنعاش" فيلم يقدمه سينمائي سوري شاب يطمح إلى أن يحقق به منجزا يسبر أعماق النفس البشرية راسما من خلال علاقة أمّ بولديها وما تحمله النفوس البشرية أحيانا مما هو مختلف ومفاجئ. وتجري أحداث العمل في مستشفى وخلال فترة زمنية قصيرة يحاول أن يقدم بوحا سينمائيا حتى ولو كان مؤلما.

في بحث سينمائي عميق يقود إلى بواطن النفس الإنسانية وما يمكن أن تكون عليه، والتجاوزات التي تفعلها في سبيل الوصول لأهدافها، حتى لو كانت على حساب الآخرين، يقدم عمرو علي فيلمه متوسط الطول “إنعاش”، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا.

بطلا الفيلم شقيقان، لكن العلاقة بينهما لا تحمل طبيعة هذه الأخوة، بل ترتسم فيها الكثير من التفاصيل والذرى الدرامية التي تحمل مضامين إنسانية عميقة مختلفة ومفاجئة. ولا يبحث الفيلم عن حدث درامي يتفاعل معه ويتابع سيرورته وصولا إلى نهايات متوقعة أو غير متوقعة، ويهتم أكثر بنبش حيثيات طبائع إنسانية تكتنفها العديد من الطباع الخاصة التي تصل بها إلى نهايات مأساوية.

تجري كل أحداث الفيلم في مكان واحد هو المستشفى، وهو ما يمثل تحديا صعبا، كونه لا يحمل منطق السينما المعتمدة على تنفيذ مشاهد خارجية تخلق مساحات محددة من التكوينات البصرية والجمالية والتي يستخدمها المخرج عادة جماليا ودلاليا.

فمعظم لقطات الفيلم هنا داخلية، في المستشفى، وبشخصيات قليلة، وهذا يعني مجالا أقل في خلق الحالة المشهدية السينمائية، وهو التحدي الذي سيواجه المخرج في إنجاز فيلم يقدم حالة من التشويق والفرجة مع تحقيق مشهدية بصرية عالية. وهذا ما دفع المخرج الشاب علي ومدير الإضاءة باسل سراولجي لتقديم حلول بصرية تغني إلى حد بعيد جمود المكان وطبيعته التي توحي بالكآبة.

المكان والشخصيات

معظم لقطات الفيلم داخلية، في المستشفى وبشخصيات قليلة، ما يعني خلق حالة مشهدية سينمائية أقل
معظم لقطات الفيلم داخلية، في المستشفى وبشخصيات قليلة، ما يعني خلق حالة مشهدية سينمائية أقل 

يقدم علي في فيلمه “إنعاش” مجموعة من الممثلين الذين يحتلون مكانة هامة في المشهد الفني السوري. فشخصية البطل يقدمها يزن الخليل، وهو أحد الممثلين الذين يحققون صعودا سريعا وقويا في الدراما السورية، وقدم في الموسم الماضي عملين دراميين كانا في صدارة المتابعة سوريا هما "على قيد الحب" و"مع وقف التنفيذ".

كما شارك قبل ذلك في العديد من الأعمال السينمائية سواء في سينما الشباب أو الأفلام الاحترافية منها فيلم “يحدث في غيابك” مع المخرج سيف الدين سبيعي وهو أول فيلم روائي طويل يعمل فيه، وشارك أيضا مع المخرج الليث حجو في فيلم روائي قصير هو “الحبل السري” كما تشارك في الفيلم مع ربا الحلبي التي تقدم أعمالا هامة في السينما والتلفزيون في سوريا، وظهرت ببعض الأعمال التلفزيونية السورية وحققت حضورا لافتا كما في مسلسل “الخربة”.

ونجد من الممثلين البارزين في الفيلم حسن عويتي، وهو ممثل وأستاذ مسرحي، قارب الثمانين عاما من العمر، لكنه مازال في عطائه مدرسا وممثلا، وهو حتى فترة قريبة كان أحد أساتذة المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق وتخرج على يديه العشرات من الفنانين السوريين، منهم والد عمرو علي المخرج حاتم علي.

كل أحداث الفيلم تجري في مكان واحد هو المستشفى، وهو ما يمثل تحديا صعبا أمام المخرج لخلق حركية مشهدية

وشخصية عويتي في الفيلم لا تقدم بعدا روائيا واضحا، فهي لا تؤثر في منطق الأحداث بشكل مباشر، ولا تتحكم في مصائر الشخصيات، لكنها تشكل نقطة تتراءى فيها عوالم النفس البشرية وكوامنها وهي تتقاطع بشكل موظف مع شخصية بطل الفيلم، لتعبر له عن مقولات فكرية تحمل معاني وقيما إنسانية كبرى تكاد تختفي تحت سطوة الطمع والرغبة في اغتنام أهداف الآخرين بكل السبل. فالرجل المسن الذي يكون في المستشفى ويتقاطع مصيره مع العديد من الشخصيات هو أكثر من رجل عادي وجد صدفة في هذا المكان، بل هو حاضن قيمي لمجموعة من الأفكار التي ترجمتها أفعاله وأقواله في نسيج الفيلم بشكل موظف ومكثف.

يبدو علي شغوفا بصياغة سينما جوانية، تخاطب داخل الإنسان وتعنى بالعميق والبعيد، فمن خلال رصد لعدد من الأفلام القصيرة التي نفذها نجده قد توجه لتحقيق تلك السمة، فقبل فترة تخصصه في دراسة السينما في القاهرة، قدم أفلام “8 مم ديجيتال” عام 2008 وهو فيلم تسجيلي قصير وبعده فيلم “عيد ميلاد” 2009 وفي العام 2011 قدم فيلم “وحوش العاطفة”، وفي سنته الدراسية الثالثة قدم فيلم “ومضة” ونال من خلاله جائزة يوسف شاهين التي تقدمها شركة أفلام مصر العالمية.

ويمكن اعتبار فيلم “الغيبوبة” نقلة نوعية في تاريخ علي المهني، فالفيلم نفذه كمشروع تخرج في معهد السينما وشارك به في العديد من المهرجانات السينمائية وحقق جوائز في مهرجان روتردام ومالمو.

يقدم الفيلم حكاية الرجل المسن الذي يكابد وابنه ويلات المرض والوحدة والفقر، ويحكي عن المصير المأساوي الذي ينتظر الابن وهو يزداد يوما بعد آخر فقرا وعوزا، والصراع الذي يحمله في داخله بين أن يرحل لملاحقة أحلامه خارج بيئته وبين أن يبقى في بيئته محافظا على والده رغم قسوة الثمن.

بين الأبوة والتعليم

العلاقات بين شخصيات الفيلم ترتسم فيها تفاصيل وذرى درامية تحمل مضامين إنسانية عميقة
العلاقات بين شخصيات الفيلم ترتسم فيها تفاصيل وذرى درامية تحمل مضامين إنسانية عميقة 

وقدم بعده فيلم “الزيارة” في سوريا، وهو فيلم اجتماعي روائي قصير يقدم حكاية أسرة يعيش فيها أبوان هاجر ابنهما ويعيشان حياة رتيبة إلى أن يدخل شاب متهور حياتهما بشكل مفاجئ هربا من الشرطة التي تلاحقه بسبب حادث سيارة. فيختبئ عندهما ويغير إلى حد ما من رتابة حياتهما باتجاه المزيد من الأمل والحياة. كما قدم علي من خلال مشروع موله الاتحاد الأوروبي فيلم “يقظة” وكان نتاج ورشة سينمائية نظمت في بيروت كان هدفها تمكين المرأة السورية عبر الدراما.

وعلى امتداد تجربته كرس المخرج نفسه بوصفه أحد أهم الأسماء الشابة التي درست السينما أكاديميا في سوريا، ويشكل مع مجموعة من الأسماء مثل خالد عثمان وحازم زيدان ورامي نضال وطارق عدوان وميار النوري وغيرهم طاقات شابة موازية من دبلوم سينما الشباب الذين أثبتوا مكانتهم في المشهد السينمائي السوري منهم أسامة عبيد الناصر وأنس زواهري ويزن آنزور، مقدمين نبضا جديدا في المشهد السينمائي السوري، والذي يراهن عليهم في تقديم سينما سورية شابة جديدة تحقق زخما جديدا فيها.

الفيلم لا يبحث عن حدث درامي يتفاعل معه ويتابع سيرورته وصولا إلى نهايات متوقعة أو غير متوقعة

وما يربط بين علي ووالده حاتم أبعد من العاطفة والنسب. فهو إضافة إلى كونه ابن المخرج الراحل كان أحد تلامذته. فحاتم علي هو الحاضن الفني والفكري لعمرو وهو أول وأكثر من شجعه على دخول الفن وتحديدا الإخراج، ودائما ما يؤكد أن روح والده الإبداعية ساكنة في خياله وهي التي يتحاور معها فيما يكتب أو يرسم في خياله من مشاهد.

ويراهن عمرو على فيلمه في تحقيق حلم فني حاكي فيه أفكارا سينمائية قديمة ربطته بواقع سينمائي محدد، كثيرا ما تحدث بها مع أستاذه ووالده حاتم، ويطمح إلى تحقيق فيلم يجعله فخورا به. وشارك معه في تنفيذ الفيلم تمثيلا ربا الحلبي ويزن الخليل وحسن عويتي ومصطفى المصطفى وجولييت خوري وأحمد عيد وصفاء سليمان وضياء العيسمي.

13