فرصة استثنائية لتونس للتخلص من النقابية العميقة

الاتحاد العام التونسي للشغل تحول إلى خصم سياسي وليس إلى شريك مفاوض في علاقته بالدولة، ومن حق هذه الدولة أن تغير أسلوبها في التعامل معه لإعادته إلى مربع الشراكة والتفاوض والتوافق، مثلما بنيت على ذلك العلاقة تاريخيا.. فهل يقبل نورالدين الطبوبي بذلك وهو الذي يرى أنه “لا يمكن إصلاح الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس دون استقرار سياسي”، وكيف سيرد الرئيس قيس سعيد؟
مثلما أن ثمة دولة عميقة تمسك بأوراق كثيرة لمعارضة أي تغيير يمس من مصالح مكوناتها الرئيسية، فإن هناك قوى أخرى يفترض أنها موضوعيا في مواجهة الدولة العميقة لكنها تشترك معها في مراكمة عناصر النفوذ ومعارضة التغيير خاصة حين تمتلك هذه القوى تاريخا طويلا أسس لعلاقات تقوم على المحسوبية والزبونية التي تحافظ على نفس العناصر لعقود.
داخل الأحزاب هناك دوائر عميقة تكون عادة محيطة برئيس الحزب، وأغلب رؤساء الأحزاب لا يتنحون إلا بالموت، ويحيطون أنفسهم بالأبناء والأصهار وأصحاب المال والنفوذ في تقليد للدولة العميقة التي يفترض أن أي حزب يتأسس أساسا لمحاربتها وتفكيكها وبناء منظومة قيم وعلاقات جديدة، يعارض الدولة العميقة بدولة حزبية عميقة لا تختلف عنها سوى في الأشخاص وفي النقابات، وأساسا الاتحاد العام التونسي للشغل، فهناك نقابة عميقة تزاحم الدولة العميقة على النفوذ وإعادة إنتاج نفس القيم، خاصة أن الاتحاد قد تأسس مع تشكل الدولة الوطنية واقترب منها وابتعد، وصارعها وتآلف معها، حتى اكتسب منها صفات كثيرة لعل أبرزها معارضة التغيير واعتباره مغامرة مثلما حصل من خلال إضافة الفصل عشرين الذي يتيح التجديد لعدد من عناصر المكتب التنفيذي، المؤسسة القيادية في المنظمة.
والهدف من الخطوة التي أثارت جدلا كبيرا، ليس التحسب من الفراغ الذي يتركه انسحاب وجوه بارزة في النقابة دفعة واحدة وأثره على أدائها وخاصة حوارها مع الحكومة، ولكن قطع الطريق على التغيير وصعود أسماء جديدة من القيادات الوسطى التي وإن كانت تنتمي موضوعيا إلى نفس القوى المتمكنة من المنظمة، إلا أن وجودها يهدد مصالح بعض القيادات والتكتلات المصلحية المحيطة بهم.
وباستثناء فترة حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي (نوفمبر 1987 إلى يناير 2011) التي تراجع فيها نفوذ النقابة وسعت للاستظلال بقوة الدولة في وجود رئيس قوي كان يعرف تفاصيل كثيرة عن دواليب الاتحاد، وخاصة ملف الأموال التي يحصلها الاتحاد من اقتطاعات مساهمة المنتسبين وكيفية صرفها، وملف “استثمارات” الاتحاد وممتلكات بعض القياديين المؤثرين، فإن النقابة عاشت صراعا مع الدولة بدءا من فترة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وصولا إلى مرحلة ما بعد الثورة.
في عهد بورقيبة كان الصراع في ظاهره للحفاظ على مكاسب العمال والموظفين، لكن في حقيقته كان صراعا على الزعامة بين بورقيبة والأمين العام الأسبق الحبيب عاشور، صراع داخل الحزب الحاكم (الحزب الاشتراكي الدستوري) تم فيه توظيف ورقة اتحاد الشغل والنقابات. وكان ذلك الصراع يقوى ويضعف بحسب العلاقة بين عاشور وبورقيبة والاتحاد كان مجرد ورقة ولم يكن يتحرك كمؤسسة أو “دولة عميقة” مضادة.
في ما بعد الثورة، وفي ظل الضعف الذي اعترى الدولة والتفكيك الذي استهدف مؤسساتها الصلبة، تحرك الاتحاد كواجهة سياسية وخاصة بعد انتخابات أكتوبر 2011 التي صعد فيها الإسلاميون إلى البرلمان. ويعزو مراقبون هذا “التسييس” إلى كون الاتحاد واجهة لتحالف مجموعات سياسية صغيرة لا تقدر على الحصول على مكاسب بالانتخابات. لكن الذي حدث بعد ذلك أن الاتحاد تحول إلى حزب سياسي معلن، لا يخفي الرغبة في التأثير السياسي النوعي ويتحدى الدولة ورموزها خاصة في الفترة الحالية مع الرئيس قيس سعيد.
ويطلق الأمين العام نورالدين الطبوبي، الذي استفاد من تعديل الفصل 20 من القانون الداخلي ليمدد لنفسه لدورة جديدة، شعارات قوية لتحدي قيس سعيد وحكومته وانضم موضوعيا إلى المعارضة التي تقودها حركة النهضة الإسلامية لعرقلة المسار الانتقالي الذي أسست له إجراءات 25 يوليو من العام الماضي.
وتقول أوساط سياسية تونسية إن الأنظار تتجه إلى الرئيس سعيد وطريقة رده على تحدي الطبوبي وزعامته لموجة المعارضين للحوار الذي يدعو إليه قيس سعيد. هل سيستمر بالصمت على تحدي الاتحاد، وهو الذي عرف بأنه شخصية صريحة ومتحدية ولا تقبل الابتزاز والإيحاء بالتعالي من أي شخصية كانت، وأن هذا ما يبرر قراره بتجميد البرلمان ثم حله لاحقا ورفع الحصانة عن النواب. كان ذلك رسالة قوية على أنه لن يقبل باستفزازات رئيس البرلمان المنحل راشد الغنوشي ولا شعبوية بعض النواب الذين توهموا أن “الحصانة” تتيح لهم المس من رمزية رئيس الجمهورية والاستهانة به وتحديه.
وتشير هذه الأوساط إلى أن قيس سعيد لن يسكت على تحدي الطبوبي، وأن الصمت الحالي قد يكون بسبب انشغاله بإحداث التغييرات الكبرى التي ستقود البلاد في المرحلة القادمة، خاصة الانشغال بتركيبة اللجان التي ستعمل على إعداد المقاربات الجديدة للدولة.
كما أن الصمت قد يكون طريقة هادفة إلى إقامة الحجة على قيادة الاتحاد وتركها تراكم الأخطاء وتظهر أنها خصم للتغييرات التي يطلبها الشارع الداعم لقيس سعيد بنسب عالية. وليس هناك شك في أن قيس سعيد لن يسكت ولن يتراجع أمام مثل هذه الضغوط، وهو أمر اعترف به الطبوبي حين قال في حوار سابق إن قيس سعيد واضح ولا يسمع رأي أحد.
وليس مستبعدا أن خطة قيس سعيد تقوم على فكرة الاستفادة من عامل الوقت لتغيير صورة الاتحاد لدى الناس، ولدى فئات وشرائح اجتماعية كانت ساندت قيس سعيد ودعمت مساره حين أطاح بالبرلمان والحكومة وقطع الطريق على استمرار لعبة حركة النهضة الإسلامية في إدارة الحكومات من وراء الستار.
الفرصة مواتية أمام قيس سعيد لتوسيع دائرة إجراءاته لتطول اتحاد الشغل نفسه. وبالتأكيد لن يكون ذلك عبر المواجهة المباشرة، ولكن تحويل الملف إلى القضاء في ما يتعلق بملفات الاتحاد، وخاصة ما تعلق بعائدات الاتحاد من الاقتطاع الذي يحصل من رواتب العمال والموظفين. الكثير من القضايا المرفوعة ضد الاتحاد، ربما يكون البعض منها مفبركا ويتنزل ضمن الاستهداف السياسي لكن هناك اتهامات تتعلق بالفساد وتوظيف العلاقات لتحصيل مكاسب للنفس أو للأبناء أو المحيطين ببضع القيادات، هذه إذا تم تحريكها فستكون ضربة قوية لصورة النقابة الأكثر تمثيلية في تونس.
وهناك إجراءات أخرى كثيرة من بينها تلك التي ذكرها رابح الخرايفي الباحث في القانون الدستوري من بينها دفع الاتحاد لديونه لفائدة صندوق الضمان الاجتماعي، وهي بالمليارات، وإنهاء جميع التفرغات واستعادة الدولة لموظفيها من الاتحاد، فهناك قيادات عليا ووسطى في الاتحاد متفرغة تماما للعمل النقابي، وتحصل على رواتبها كاملة من الدولة.
كما تساءل الخرايفي “إذا كانت الدولة ستمتنع عن الاقتطاع لفائدة الاتحاد على اعتبار أن الدولة لا تشتغل لفائدة أي جهة نقابية فإن في ذلك تكريسا لمبدأ الاستقلال واحترام مبدأ المساواة مع التشكيلات النقابية الأخرى”.
ومن الثابت أن الفرصة مواتية الآن ليس لضرب الاتحاد، فهذا أمر مستبعد وغير ممكن، ولكن لإعادته إلى دوره الحقيقي، وهو العمل النقابي ذو البعد الاجتماعي، أي التفاوض لتحصيل مكاسب للعمال والموظفين ضمن مسار تشاركي وتوافقي مع الحكومة، وليس من خلال الابتزاز والتلويح بالإضرابات، والقطع مع فكرة لعب الدور السياسي الذي حرف المنظمة عن دورها، وفي نفس الوقت عمق الأزمة في البلاد، وأعاق مسار الإصلاحات العاجلة المطلوبة محليا وخارجيا لوقف تدهور الاقتصاد ومنع انزلاق تونس لأن تكون دولة فاشلة.
هل يقابل قيس سعيد التصعيد بتصعيد مضاد، أم سيكتفي بالتركيز على ملفات أخرى، وهو عارف أن تصعيد الاتحاد ليس أكثر من سعي إلى لفت النظر والبحث عن دور أكبر ولو قليلا تحت مظلة الحوار الذي يقترحه قيس سعيد؟
الإجابة تكشفها الأيام القريبة القادمة..