غني هناك فقير هنا!

أن تكون غنيا وفق المقياس السائد للثراء في مصر مثلا، فهذا لا يعني أن تكون كذلك وفق نفس مفهوم الثراء في بريطانيا.
فمن يملك مليون جنيه مصري يعد من المرتاحين ماليا في بلاده، لكن من يمتلك مائة ألف جنيه إسترليني “باوند” في بريطانيا، لن يكون مرتاحا ماليا على الدوام.
ستكون مفارقة الثراء مبعثا على التساؤل عند تصريف العملتين واحدة بالأخرى!
المبلغ الذي يكتنزه المصري يبدو مفيدا جدا وبإمكانه إدارة مشروع وإن كان صغيرا يجلب له أرباحا شهرية. لكن ماذا يفعل البريطاني وهو يضع في حسابه المصرفي مائة ألف جنيه، لا يحصل مقابلها على أكثر من عشرة جنيهات شهريا وفق أفضل معدلات الفائدة. وهذا المبلغ الذي يعد ضخما بالنسبة إلى الخيال المالي المصري، لا يمكن للبريطاني فيه من إدارة مشروع صغير كمقهى من عشرة كراس مع عامليْ خدمة.
أثارتني تلك المعادلة وأنا أجالس في مقهى مصادفة، مجموعة من البريطانيين في مدينة أليكانتي الإسبانية. هؤلاء ببساطة فعلوا ما اعتقدوه صحيحا لصحتهم النفسية في منتصف العمر. باعوا منازلهم في بريطانيا، أو أجّروها واشتروا بمدخراتهم منزلا صغيرا في تلك المدينة الإسبانية التي لا تنام مطلقا على ضفاف المتوسط. يعيشون هناك إما بأعمال بسيطة توفر لهم حاجة العيش أو يعتمدون على مدخرات أو رواتب تقاعدية أو من إيجار منزل آخر لازالوا يمتلكونه في بلدهم.
هؤلاء ليسوا أغنياء لكنهم مرفّهون وفق معادلة من يلهثون أكثر من عشر ساعات يوميا للمحافظة على أعمالهم في بريطانيا.
والحق، لا يتسنّى لكل شخص تجريب تلك المتراجحة في الاعتماد على ما ادّخر من مال. لأنها تعتمد على قيمة المال أولا وعلى الاستعداد النفسي ثانيا عندما يقرر القطيعة مع الأمكنة التي عاش عقودا فيها.
في أغلب القنوات التلفزيونية البريطانية يوجد برنامج عقاري بنفس الثيمة، يساعد الجمهور على ترك بلادهم والعيش في بلدان الشمس الساطعة من اليونان إلى إيطاليا وإسبانيا حتى البرتغال، واقتناء المنازل على ضفاف البحر بمبالغ لا تجلب لأصحابها في بريطانيا شقة صغيرة من غرفة واحدة.
ليست المشكلة هنا في صعوبة اتخاذ قرار تغيير الحياة الجذري، لكن في إدارة مثل هذه الأموال التي يفتح لها المصرفي فمه، ويحتار بها البريطاني عندما يكتفي بوضعها في حسابه المصرفي.
فما علاقة هذا البريطاني الذي عاش ثلاثين عاما يعمل في وظيفة مكتبية، عندما يتعلق الأمر باستثمار ما ادّخر من مبلغ كل تلك السنين.
ومن يعطيه النصيحة أصلا، إذا كان البنك نفسه لا يمنحه فوائد شهرية على هذا المبلغ الكبير نسبيا، تكفي لوجبة واحدة؟
هناك محنة مشتركة للبريطاني الذي يريد إدارة أصول مدخرات ليست كبيرة جدا، مع نفس مشاعر المصري الذي يرى أن امتلاك نفس المبلغ الحائر به ابن لندن، يعني أن السماء أنزلت عليه رغيفا محشوّا، وفق المثل الصيني. فلا الأول قادر على الرفاهية بمدخراته في نهاية عمره، ولا بإمكان المصري الحصول على هذا المال وفق عطايا السماء في المثل الصيني.
لا أحد في بريطانيا من كل فطاحل البنوك يستطيع أن يقدم لك نصيحة مربحة عندما تقول له لديّ مئة ألف باوند ماذا أفعل بها؟