أدونيس: الجيل الشعري الراهن أفضل بكثير من جيلنا

يطرح اليوم على الساحة الثقافية العربية موضوع الشعر بين راهنه ومستقبله، في ظل انتشار أجناس أدبية أخرى كالرواية وتراجع مقروئية الشعر، ما جعل بعضهم يتنبأ حتى بموته، وهذا ما ينفيه الشاعر السوري أدونيس بشكل قاطع في جلسة حوارية معه حول راهن الشعر ضمن فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب.
ما هو راهن الشعر العربي؟ ما هو واقع القصيدة العربية في ضوء علاقتها بالقصيدة في العالم؟ وما التحديات التي تواجهها هذه القصيدة وما هي الفرص التي يمكن أن تكون أمامها لكي تبني عالما شعريا جديدا؟ هذه التساؤلات كانت محور حديث الشاعر العربي أدونيس في ندوته التي أقيمت ضمن فعاليات معرض أبوظبي للكتاب في دورته الـ31، وأدارها الأكاديمي خليل الشيخ.
واعترف أدونيس خلال الندوة بأن الأجيال الشعرية الراهنة في عالمنا العربي تجاوزت ما أنجزه جيله، كما أكد أن المزاعم التي يرددها البعض عن انقراض الشعر أو موته مجرد هراء لا علاقة له بواقع القصيدة وواقع النصوص التي يقدمها الشعراء من الأجيال الجديدة.
الأجيال الجديدة

أدونيس يؤكد خلال الندوة أن المزاعم التي يرددها البعض عن انقراض الشعر أو موته مجرد هراء لا علاقة له بواقع القصيدة وواقع النصوص التي يقدمها الشعراء
يقول أدونيس “الموضوع ليس سهلا، فالكلام عن الشعر كالكلام عن الحب نعيشه لكن لا نعرف كيف نحلله، لذا إذا أردنا الإجابة على سؤال راهن الشعر العربي وواقع القصيدة العربية والتحديات التي تواجهها، فلا بد أن نقول إن هناك نظرتين إلى الشعر والنصوص الراهنة في العالم كله، نظرة ترى الشعر بوصفه إعادة إنتاج لما هو قائم، أي بوصفه جزءا من الثقافة الراهنة أو السائدة، وهذا يجعل منه جزءا عضويا من الثقافة السائدة، وهو ما تبشر به الاتجاهات المحافظة أو التقليدية، والمستوى الثاني من النظر يؤمن بأن علاقة الكلمة بالأشياء هي علاقة تغييرية وليست علاقة وصفية أو فردية”.
ويضيف “شخصيا أميل إلى النظرة الثانية مع احترامي للنظرة الأولى، لكن ما هو سائد في المؤسسات العامة وفي الذوق العام لا يزال ينتمي إلى النظرة الأولى، وهي النظرة التي ترى أن الشعر جزء من الثقافة يجب أن يقول ويعالج مشكلات المجتمع.. إلى آخر هذه الأطروحة التي تعرفونها، إذا أردنا أن نصل إلى نتائج سريعة فإن الأمر يحتاج إلى مناقشة طويلة”.
ويتابع “إن جيلنا الذي بدأ في خمسينات القرن الماضي أي منذ سبعين سنة، إذا حصرنا راهنه الشعري في هذه السبعين سنة يمكن أن نقول رأيا، أعتقد أنه إذا نظرنا بموضوعية إليه الآن سنرى أنه صمد مما قدمه بعض الأفكار، بعض القصائد، وبعض الشعراء، استطاعت أن تتخطى الراهن إلى المستقبل، لكننا كجيل فشلنا في أشياء كثيرة ولم نستطع أن نحقق الاختراق الذي ينبغي في الشعر الذي يطمح إلى إعطاء صورة جديدة للعالم، أي إلى أن يغير العلاقة بين الكلمة والكلمة، والعلاقة بين الكلمة والشيء، والعلاقة بين الكلمة والقارئ، أن نخلق لغة شعرية جديدة، أن نخلق قارئا جديدا”.
ويشدد على أنه إذا كانت هناك أزمة حقيقية في الثقافة العربية إجمالا وفي الشعر خاصة، فهي أزمة لا ترتبط بالشعر وحده بل بالفكر أيضا، هي أزمة قراءة أكثر منها أزمة كتابة؛ القارئ العربي إجمالا لا يزال متعودا ألا يقرأ النص في ذاته وإنما يقرأ صاحب النص، من هذا الكاتب؟ ما هي انتماءاته؟ هل هو من هذا المذهب أم من ذلك المذهب؟ هل هو أيديولوجي؟ سياسي.. إلى آخره؟ القارئ يأتي إلى الشاعر ويقرأ بهذه الأفكار المسبقة ومعنى ذلك أنه يشوه النص تشويها كاملا ولا يرى فيه إلا ما يريده، هذه الأزمة لا تزال قائمة ولها أسباب يصعب الدخول فيها الآن.
شعراء الجيل الجديد أكثر ميلا إلى تغيير الأشياء وإلى خلق علاقات جديدة بين الإنسان والعالم وبين الشيء والكلمة
ويتابع أدونيس “أعتقد إذا قارنا جيلنا نحن من عام 1950 إلى 2022 أرى أن الجيل الراهن اليوم من الشباب هو أفضل منا بكثير، استفاد منا لكنه أكثر ميلا إلى تغيير الأشياء، أكثر ميلا إلى خلق علاقات جديدة بين الإنسان والعالم وبين الشيء والكلمة، وأميل أيضا إلى القول إن الصوت الأساسي بالنسبة إليّ في الكتابة الشعرية الحالية يتمثل في صوت المرأة؛ المرأة اليوم تقود الحساسية الشعرية الجديدة، لأنها بدأت تميز جسدها عن رأسها، بدأت تشعر بجسدها وحاجاته وأعماقه وفضاءاته أكثر مما تشعر بوضعها الإجتماعي أو السياسي أو الثقافي أو حتى الديني التابع لثقافتها أي لرأسها، وإذا صح الفصل بهذا الموضوع بين الرأس والجسد، فالمرأة تقود هذا الفصل، وهي بذلك تحقق اختراقا أساسيا لم يستطع الشعراء أن يخترقوه”.
يقول “وأنا أقرأ الآن نصوصا لشاعرات من كل البلدان العربية، وأعترف أن هذا الجيل النسائي هو أهم بكثير من جيلنا نحن، طبعا هناك نساء وأصوات لم يتح لهن حتى الآن أن ينشرن شعرهن، لكن سيأتي يوم وينشر هذا الشعر. هذا باختصار عما هو راهن، وأنا أراهن على هذا الراهن، إنما لي ملاحظة هي أن الشعر يحتاج إلى ثقافة وفضاء شخصي وعميق وحر، ولا أحد يستطيع أن يعطي الحرية لأي إنسان آخر، الإنسان هو وحده القادر على أن يعيش حريته، وبقدر ما يعيش حريته يقدر على تقديم إنتاج جيد، والأهم من هذا كله أنه لا أحد منا نحن، كلنا عندنا أخوة وأخوات، من نفس الأب والأم، ونعيش في بيت واحد، ومع ذلك لا أحد منهم يحلم الأحلام ذاتها التي يحلم بها الآخر، لكل جسد حياته الخاصة ولكل جسد عالمه الخاص، ولكل جسد فضاؤه الخاص، لكن على مستوى الثقافة كلنا نشترك في ثقافة واحدة وقيم واحدة، والشعر لا يجيء من هذا المشترك، وإنما يجيء من فضاء الجسد المفرد، ليس هناك جسد يشبه جسدا آخر، وهنا يكمن مكان الشعر، وهذا ما يغير الحياة الثقافية، ويغير حياة الإنسان ويبتكر لغة جديدة”.
ويتساءل أدونيس هل سيموت الشعر كما يقولون؟ متابعا “إذا مات الحب يموت الشعر، الشعر هو الطاقة الأولى الكيانية التي يستطيع الإنسان أن يعبر بها عما في أعماقه، لكن طبعا هناك عقبات تحول دون هذه القدرة على التعبير، وهذه العقبات تأتي من الثقافة. لا خوف على الشعر مادام الحب موجودا ومادام الموت موجودا، فالشعر حي كالإنسان الحي، لكن ليس هناك شعر في الفضاء، الشعر هو الشاعر، وبقدر ما يكون هذا الشاعر خلاقا وقادرا أن يخترق الحواجز والحجب والعقبات يستطيع أن يبدع عالما جديدا. وما أقوله هنا عن الشعر العربي ينطبق في رأيي على الشعر في العالم كله، وإذا كان هناك فرق بين وضعنا الشعري والوضع الشعري في فرنسا مثلا، فبحكم معرفتي بالشعر الفرنسي أكثر من غيره أستطيع أن أؤكد أن الفرق في الدرجة وليس في النوع، الإنسان ككينونة في أزمة كبرى في العالم كله، إذن لا يمكن إلا أن يكون شعره في أزمة، وهذه الأزمة أزمة حيوية وليست أزمة انقراض“.
الشعر والعرب
يرى أدونيس أن التنبؤ بمستقبل الشعر العربي صعب، ولكن يمكن أن نطرح بعض الأفكار وبعض التساؤلات استنادا إلى الحاضر: كيف سيكون المستقبل؟ ويظن أن الأمر ليس مستقبل الشعر وحده ولكن مستقبلنا كعرب أيضا، وهنا يطرح عددا من النقاط لها علاقة بهذا المستقبل، لكن قبل ذلك يشير إلى أن المواهب العربية موجودة، وبخبرته الشخصية يؤكد أنها نسبيا أكثر بكثير من المواهب الفرنسية مثلا، ويقول هذا جازما لأنه يعرف الوسط الذي يعيش فيه، لكن هذا لا يكفي.
ويضيف “إن مستقبل الشعر العربي ومستقبلنا كعرب مرتبطان، لأنه إذا مات الشعر عند العرب مات العرب أنفسهم. ماذا سيكون مستقبل العلاقة مع اللغة العربية الأم؟ كون وجود ظاهرة عند العرب ليس لها مثال في العالم؛ تتمثل في أنه ليس هناك شاعر في العالم يخطئ بلغته الأم إلا العرب، هذه كارثة يجب أن ننتبه إليها، وفي ضوء ذلك ماذا سيكون مستقبل اللغة العربية في المؤسسات التربوية والجامعية، أنا لدي خبرة جامعية وأعرف أشخاصا حصلوا على شهادة الليسانس من الجامعة وجاهزون نسبيا ليعملوا في المدارس، إذا أعطيناهم قصيدة لا يعرفون كيف يقرأونها قراءة صحيحة”.
لذا السؤال الأول كما يقول: ماذا سيكون مستقبل اللغة العربية؟ هذا عدا القول إن العربي صار في جميع المجالات يفتخر ويزدهي أنه يحكي باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، مع أنه متاح له أن يحكي باللغة العربية، لكنه يفضل الحكي بلغة أخرى تباهيا، ومن ثمة يخشى الشاعر على مستقبل هذه اللغة العظيمة التي لا مثيل لها.
ويتابع أدونيس “الأمر الثاني: ماذا ستكون علاقتنا بموروثنا العظيم؟ الشعر العربي بخبرتي المحدودة؛ يعني إذا ذكرت إمرؤ القيس وطرفة بن العبد وذا الرمة وأبا نواس وأبا تمام والمتنبي والمعري، لن تجد في العالم كله شعراء أعظم منهم أبدا، لكن هؤلاء الشعراء لا يقرأون في لغتهم، من منا كعرب قرأ المعري مثلا قراءة كاملة. أمس تحدثت مع شاعر فرنسي، وقلت له تعتبرون أو تعدون دانتي من مؤسسي الثقافة الأوروبية والنزعة الإنسانية الأوروبية، إذن لماذا لا تتحدثون عن عنصرية دانتي وعن لا إنسانيته، أنا لا أستطيع أن أؤكد إذا ما كان دانتي قد تأثر بالمعري في فكرة الجحيم، على افتراض أنه لم يتأثر، المهم أنه استخدم وسيلة استخدمها قبله المعري، إذا قارنا بين المعري ودانتي، سنرى أن المعري أعظم إنسانية وأوسع أفقا وأعمق رؤية للإنسان والعالم من دانتي مؤسس الحضارة والثقافة الأوروبية. من يعرف ذلك من العرب، لا أحد”.
هناك أزمة حقيقية في الثقافة العربية وهي أزمة لا ترتبط بالشعر وحده بل بالفكر أيضا، هي أزمة قراءة
ويواصل الشاعر “آسف أن أقول هذا، المعري لا يدرس حتى في الجامعات إلا كنموذج بسيط، مثله مثل أبي نواس، في حين أن بودلير كل عام أو عامين هناك إعادة طبع لأعماله وإعادة قراءة، من يقرأ اليوم أبا نواس بين العرب، خارج كونه شاعر مجون وخمرة، والمجون والخمرة من أسوأ ما عنده، أبونواس شاعر عظيم خلق للمرة الأولى لغة المدينة، وخلق تلك العلاقة العظيمة المأساوية بين ما هو زائل وما هو أبدي، وقال في قلب الحضارة الإسلامية لكم دينكم ولي دين ‘ما لي وللناس كم يلحونني سفها.. ديني لنفسي ودين الناس للناس’.. إذاً لا بد أن نعيد قراءة موروثنا الشعري بعين المستقبل، يعني بعين الانقلابات المعرفية والجمالية الكبرى في الوقت الراهن، ونحن للأسف لا نفعل ذلك”.
أما الأمر الثالث الذي يثيره أدونيس فهو علاقة الذات العربية بالآخر، علاقة العربي بالآخر الأجنبي، لماذا هذه التبعية شبه العمياء للآخر الأجنبي؟ لماذا ونحن لا نتابع إبداعاته وإنما نتابعه في نتاجه الاستهلاكي؟ يقول “نحن عندنا أعظم القصور وأعظم السيارات وأعظم المنتجات الاستهلاكية في العالم، لكن ليست لدينا مدرسة واحدة نموذجية أو جامعة واحدة نموذجية، ولا مستشفى واحد نموذجي، كل المسؤولين وتابعيهم حين يمرضون يذهبون للخارج للتداوي، يعني نحن نسينا التقدم وابتلعنا النمو، النمو ينقلنا من حالة إلى حالة بشكل أفقي لكن التقدم يعمق رؤيتنا ونظرتنا للعالم ويجعلنا بين المبدعين الذين يشاركون في بناء العالم وليس بين أعظم المستهلكين. وإذا كان العربي لا يستطيع أن يكون حرا في الأشياء التي تقرر مصيره وتقرر كينونته، فماذا يستطيع أن يفعل؟”.
ويشير أدونيس إلى أن الإبداع عبء هائل وعظيم على جميع المستويات، وعلى النقيض من السهولة على جميع أشكالها، لكن نحن مع الأسف أكثر ميلا إلى الكسل وأكثر ميلا إلى النوم لا إلى السهر، وأقل إلحاحا على طلب الحرية وممارستها، إن اضطهاد الكاتب لا يحدث هزة في الوسط الأدبي فقط، بل يحدث هزة في بنية المجتمع ذاتها، ويذكر بكلمة لديجول عام 1968 عندما جاءه المتأدلجون والسياسيون طالبين منه أن يعتقل جان بول سارتر، لأن هذا الأخير نزل إلى الشارع متظاهرا مع الشباب اليساريين وصار يبيع الصحيفة معهم، تطلع ديجول في هؤلاء المتأدلجين وقال “أنتم تطلبون مني أن أعتقل فولتير، لا يمكن.. هو حر يفعل ما يشاء”. ونحن نتمنى أن يقلد حكامنا في هذا المستوى ديجول.
وختم أدونيس “إن الشعر العربي اليوم بكل مشاكله، أعني الشعراء الحقيقيين، لا يقل شعرهم أهمية وجمالا عن أي شاعر فرنسي على الإطلاق، هذا أمر أعرفه وأستطيع أن أدافع عنه، لكن كما ذكرت هناك مشكلات كثيرة تواجه الشاعر العربي، لا يواجهها الشاعر الفرنسي”.