أوبرا دمشق منارة ثقافية وسفيرة الفن السوري إلى العالم

رؤية تراهن على الأطفال لحمل مشعل الفنون في سوريا.
الاثنين 2022/05/16
حفل يختصر مسيرة الأوبرا منذ تأسيسها

يعتبر امتلاك دار للأوبرا في بلد ما أحد عناوين مسايرته للعصر والقيمة الحضارية فيه. وقد أنشئت دور الأوبرا في العالم منذ مئات السنين وكان لها أثر هام في صناعة الحضارة الأوروبية. وسعت البلدان العربية ضمن بناء دولها الحديثة لتشييد دور للأوبرا. فكانت البداية مع القاهرة التي بنيت فيها أول دار أوبرا عربية عام 1869، ثم تلتها العديد من دور الأوبرا على مدار ما يقارب المئة عام.

شهد عام 2004 وجود ثالث دار أوبرا عربية، وكانت في دمشق. فبعد طول انتظار وتعثر وحريق عام 1999 الذي عطل انطلاق الصرح الثقافي، وجدت دار الأسد للثقافة والفنون “أوبرا دمشق” وسبقتها في ذلك أوبرا القاهرة التي بنيت عام 1869 وكان اسمها الأوبرا الخديوية، وهي التي ألّف لافتتاحها الموسيقار الإيطالي الشهير فيردي “أوبرا عايدة”. لكنها احترقت عام 1971 وأعيد بناؤها عام 1988 وسمّيت المركز الثقافي القومي.

وفي عام 1921 بنيت في الإسكندرية ثاني دار أوبرا عربية وكانت تحمل اسم تياترو محمد علي ثم حملت اسم الموسيقار سيد درويش منذ العام 1961. ثم كانت الأوبرا الثالثة في دمشق عام 2004. وبعدها أوبرا عمان السلطانية عام 2011 ثم دبي والكويت عام 2016 وتبعتها الجزائر وتونس والسودان.

موسيقى عالمية بنكهة محلية

وحفل برنامج افتتاح الدار عام 2004 بالعديد من المساهمات الفنية، فقدم في المساحات الخارجية العرض المسرحي الراقص “ليلة مرصعة بالنجوم” لفرقة “إنانا”، بينما تم تقديم برنامج موسيقي متعدد داخل القاعة الكبيرة، وقدمته الفرقة الوطنية السيمفونية السورية مع الكورال الكبير بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان والفرقة الوطنية للموسيقى العربية مع جوقة الغناء العربي بقيادة المايسترو عصام رافع وقدم عرض “دبلوماسيون” للكاتب تشيخوف وكان من إخراج غسان مسعود. كما قدمت فعاليات فنية مختلفة.

الأطفال هم المستقبل

بعد انطلاق دار الأسد للثقافة والفنون في العمل وخلال مسيرتها قدمت المئات من العروض والندوات والمسرحيات والأفلام والمعارض. واستقبلت شخصيات فنية كبيرة، ففيها قدمت فيروز عرضا مسرحيا غنائيا بعد غياب طويل عن دمشق حمل عنوان “صح النوم”، كذلك قدم عادل إمام عرضه المسرحي “البودي غارد”. وغنت فيها ماجدة الرومي ومارسيل خليفة وميادة بسيليس وشادي جميل وكرّم فيها صباح فخري وزارها محمود دوريش. وفيها قدم مهرجان دمشق السينمائي ضيوفه العرب والعالميين مثل أمير كوستاريستيا وكاترين دونوف ونادية الجندي ونيللي، وقدمت فيها عروض موسيقية وغنائية لكبار المطربين العرب منهم صفوان بهلوان وعفاف راضي، وقدمت مؤلفات نوري رحيباني ونوري إسكندر وعزف فيها غزوان زركلي.

كما قدمت فيها “أوبرا كارمن” واستضافت فرقا موسيقية من لبنان وأوروبا، وقدمت عروضا للمسرحي السوري غسان مسعود وبيتر بروك وجواد الأسدي والتونسي الفاضل الجعايبي. وعرضت فيها أعمال فنية في الرسم لأهم فناني الثقافة السورية والعربية منهم أسعد عرابي وحمود شنتوت وأحمد معلا وموفق مخول وسعد يكن وحسان أبوعياش وأسماء فيومي ومحمد غنوم ونزار صابور وباسم دحدوح وعصام درويش.

وبمناسبة مرور ثمانية عشرة عاما على وجود أوبرا دمشق نظمت وزارة الثقافة السورية احتفالية خاصة في التاسع من شهر مايو الجاري، قدمت فيها الفرقة الوطنية السيمفونية السورية بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان حفلا موسيقيا تضمن معزوفات موسيقية عالمية وعربية، بمشاركة مغنية الأوبرا سوزان حداد وعازف الأرغن أغيد منصور.

وفي حديثها عن أهمية وجود دار للأوبرا بدمشق بيّنت وزيرة الثقافة لبانة مشوح أن سوريا كانت حريصة على أن يكون لديها هذا المنبر الحضاري الهام رغم شح الموارد المالية التي كانت موجودة والأيام أثبتت أن هذا التوجه كان صحيحا، لما يقدمه هذا الصرح الحضاري من فائدة في تكوين الفكر الإنساني وبنائه.

ويرى مدير عام دار الأسد للثقافة والفنون المايسترو أندريه معلولي أن الأوبرا منبر لتحقيق الأحلام وصناعة المستقبل، ويقول لـ”العرب” إن “دار الأسد للثقافة والفنون كانت منذ تأسيسها المكان الذي تبنى عليه الآمال والأحلام، عندما كنا طلبة صغارا نأتي ونشاهد هذا الصرح الضخم، كان أستاذنا وقدوتنا صلحي الوادي يقول لنا إن مستقبلكم سيكون هنا، ويشير بيده إلى الأوبرا، هنا الأمل والمستقبل، هنا ستقدمون الثقافة السورية لتكون منارة للعالم، وهذا ما كان فعلا، حيث وجد فيها المبدعون الذين حضروا وقدموا فنهم للجمهور السوري منارة فنية كبرى لتقديم إبداعهم للجمهور السوري، وهو جمهور مثقف ولديه ذائقة فنية كبيرة، والدليل أن كبار فناني الوطن العربي قدموا فنونهم في دمشق ومن إذاعتها الشهيرة”.

ويتابع “كان وقوفي على مسارح هذه الدار هاجسا كبيرا كما حال كل الموسيقيين السوريين. الأوبرا صرح فني كبير ومميز على مستوى الوطن العربي وأصبحت منارة للفن السوري تقدم من خلالها النشاطات التي تمثل حضارة هذا البلد، وهي نشاطات تهدف إلى المحافظة على التراث وتطويره”.

وعن مكانة أوبرا دمشق في المشهد العالمي يقول معلولي “أصبحت دار الأوبرا السورية على خارطة دور الأوبرا العالمية وأصبحت سفيرة سوريا إلى العالم من خلال ما تقدمه والرسائل التي تبث عن طريق الموسيقيين السوريين وما يقدمونه من إبداع وأحاسيس. فدار الأسد للثقافة والفنون عملت طوال الأعوام الثمانية عشر على استقطاب كل العاملين بالشأن الثقافي والفني بغية المحافظة على هذا الفن والمكان. وهي مسؤولية الجميع من الجمهور والمعنيين في الدار إلى الموسيقيين ووزارة الثقافة”.

ويرى معلولي أن المستقبل يحمل المزيد من التألق والعمل الجدي الذي سيحقق رسالة سوريا الحضارية من خلال نشاط الدار، فيقول “ما نقدمه جزء من آمالنا وليس كلها، نقوم حديثا بإيجاد أساليب جديدة لنواكب لغة العصر. وهذا ما لمسه الجمهور من خلال إغناء العنصر البصري في العروض الموسيقية. ولهذا الشكل الفني دور كبير وأساسي في لغة العصر الحديثة. ونحن نجتهد دائما على تطوير وسائل العمل لدينا لنستطيع المنافسة عالميا ولكي تكون الدار مكانا لكل الموسيقيين والمبدعين في العالم”.

وعن الفنانين الذين قدموا إبداعاتهم في أوبرا دمشق يبيّن معلولي “استقطبت دار الأوبرا موسيقيي العالم لكي يقدموا إبداعاتهم فيها لما يعنيه ذلك من إغناء تجربتهم الشخصية والمهنية كونهم يقدمون فنهم في أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، ولدت فيها أول أبجدية وأول نوتة موسيقية في التاريخ. فسوريا تملك الكثير من الحضارة والمغريات الفنية الجاذبة، وطموحنا أن نقدم ما هو جديد وجدير بهذا المكان والمدينة”.

الأوبرا منبر لتحقيق الأحلام وصناعة المستقبل

وعن الجديد الذي تتوجه الدار إلى تحقيقه يقول الموسيقي معلولي “نقوم بدارسة مشاريع خاصة بالأطفال لأننا نؤمن بأنهم مستقبل الوطن وتجب تنشئتهم بطريقة صحيحة تقوم على أن يعوا أهمية هذا المكان ليكملوا المسيرة التي بدأها أساتذتنا ونحن نكملها الآن”.

ويضيف “هذا الصرح الحضاري يجب أن يكون مصدر فخر لكل سوري لما يحمله من معان ثقافية قيمة، ولما يحمله من إمكانيات في العمل الثقافي لإيصال رسالة سوريا إلى العالم بأسره، ومشروعنا الكبير الذي نعمل عليه يكمن في احتضان إبداع الأطفال. وهنالك مشاريع كثيرة وأسماء كبيرة قادمة، رغم كل الظروف الصعبة التي مرت على بلدنا، ما زالت دار الأسد تقدم أعمالها بحرفية كاملة وبأعلى درجات التفاني في العمل، لأننا نعتبر أن هذا المكان هو بيتنا ونحن نؤمن بالعمل الجماعي ونساند المشاريع الحديثة لنقوم بتطويرها، كما نقوم باحتضان المشاريع الإبداعية للشباب السوريين ليكونوا قادرين على تقديم رؤاهم الفنية”.

ويوضح “نحن نعمل على استقطاب أسماء عالمية كبيرة، لما لها من تأثير على تطوير العمل الثقافي، لأن العمل الثقافي متعدد المدارس ويجب علينا أن نستعرض هذه المدارس ونقدمها للجمهور حتى يصقل العازف السوري تجربته، وليصبح الجمهور قادرا على تفهم الأنواع العديدة من الثقافة من مسرح وموسيقى وسينما وغيرها، وغاية عمل الأوبرا هي حماية الإرث الثقافي والحضاري لسوريا وتطويره وعرضه واستقطاب المدارس المختلفة في العالم لنستطيع الاستفادة منها وتطوير أدوات عملنا من خلالها”.

مراوحة زمانية

في الحفل الذي أقيم منذ أيام، قدمت الفرقة الوطنية السيمفونية السورية مجموعة من الأعمال الموسيقية بدأتها بمؤلف للآرغن والأوركسترا للمؤلف ألكسندر غيلمان بمشاركة عازف الآرغن السوري أغيد منصور، ثم قدمت عزفا لأغنية من “أوبرا شمشون ودليلة” للمؤلف كامي سان صانز بأداء المغنية الأوبرالية سوزان حداد. كما قدمت رقصة باكاناليه من “أوبرا شمشون ودليلة” ومن “أوبرا كارمن” الشهيرة لجورج بيزيه وقدمت أغنية “السيكيديا”. وكان للموسيقار الشهير آرام خاتشادوريان نصيب من موسيقاه حيث قدمت له من باليه غايانيه “رقصة البنات الورديات” و”رقصة سكان الجبل”، وكانت النهاية مع مقطوعة من موسيقى تشايكوفسكي سبق وقدمت في حفل افتتاح الدار.

وكانت مقطوعة “تأملات على لحن حياتي أنت” التي وضعها المايسترو صلحي الوادي على لحن الموسيقار محمد عبدالوهاب نجمة الحفل. حيث استعاد الجمهور هذه المقطوعة التي وضعها الوادي متماهيا فيها مع فن عبدالوهاب، والتي مزج فيها بين الموسيقى الشرقية والغربية بأسلوب فريد. وهذه هي المقطوعة التي كان صلحي الوادي قد صرح أنه يدخل بها لغة العصر، وهي المقطوعة التي قدمت مرات كثيرة في سوريا وخارجها.

15