الخبز.. قطعة العجين التي ترتفع مثل جبل وتصبح حكايات لا تنسى

الباحث الكرواتي بريدراج ماتفليجيتفيتش: المجاعات القديمة قد تحدث مجددا.
الأحد 2022/05/08
الخبز ليس أكبر من مجرد رغيف (لوحة للفنان رفيق السركي)

يشهد التاريخ قديما وحديثا على أن الحروب تؤثر تأثيرا مباشرا على رغيف الخبز، خاصة عندما تكون الدول المتحاربة مصدرا أساسيا في توفير إمدادات القمح، الأمر الذي نشهد اليوم بعد شهرين من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تصاعدت التحذيرات غربا وشرقا من أزمة في توفير رغيف الخبز بدأت مؤشراتها في العديد من الدول التي تعتمد على القمح الأوكراني والروسي.

رغم أن كتاب الباحث الكرواتي بريدراج ماتفليجيتفيتش “الخبز.. الأهمية الثقافية والرمزية لدى حضارات العالم”، يتتبع الأهمية الثقافية والخصوصية الرمزية للخبز في حضارات الشرق والغرب القديمة والحديثة، فإن الأهم فيه أنه يكشف المعاناة التي يتكبدها الأسرى والسجناء الشعوب جراء نقصه سواء نتيجة عوامل طبيعية أو بسبب الحروب والنزاعات المسلحة.

يؤكد بريدراج في كتابه، الصادر عن دار العربي بترجمة ندى نادر، أن الخُبز هو نتاج الطبيعة والثقافة، كان بمنزلة شرط للسلام، وسببا للحرب، ووعدا بالأمل، وسببا لليأس. وباركته الأديان، وأقسم الناس به. البلدان التي ليس لديها ما يكفي من الخُبز تعاني تمرد سكانها. لكن هذا لا يمنع أن البلدان التي ليس لديها شيء سوى الخُبز تُعاني هي الأخرى، وهذا ما يستحضر إلى الأذهان القول المأثور “لا يُمكن للمرء أن يعيش على الخُبز وحده”. وهي عبارة تردَّد صداها عبر القرون.

الخبز والامبراطوريات

بريدراج ماتفليجيتفيتش: منذ زمن سحيق، كان الشعراء والفلاسفة والعلماء كذلك يكتبون عن ملحمة الخبز كل واحد منهم يلهم الآخر

لطالما ارتبطت مشكلة الأمن الغذائي دائما بالخُبز. فاستمرت المجاعة قرنا بعد قرن في مناطق مختلفة حول العالم، وهذا ما أدى إلى اضطراب الاتصال الطبيعي بين الجسد والخُبز. وتذكُر “ملحمة جلجامش” مجيء “سبع سنوات من الجفاف” في مدينة “أوروك” عندما لم يجد أهلها حبة قمح واحدة. كما يتناول كل من التلمود والكتاب المُقدّس “البقر السبع العِجاف” و”السبع سنوات العِجاف”.

ويضيف بريدراج في مطلع العصور الوسطى، “وصف المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس القيسراني المجاعة قائلا إنه رأى حشودا من الناس تتجوَّل، هزيلة وشاحبة الوجوه، وجائعة جدّا إلى درجة أنهم أحيانا يأكلون بعضهم بعضا. وأُعلِن في آخر عام 17 هجريّا، إلى أول عام 18 هجريّا (640 ميلاديّا) عاما للجفاف في المدينة المُنوَّرة، وأُطلِق عليه ‘عام الرمادة’. وخلال حُكم الدولة الإخشيدية، شهدت مصر الإسلامية أزمنة من المجاعة والبؤس، كانت كل منها أسوأ من الأخرى. وجاء ضعف المحاصيل نتيجة عدَّة عوامل منها: انخفاض منسوب مياه النيل، والصراعات بين المُلَّاك والعبيد، وفساد الكتبة والموظفين، وإفقار القرويين والفلاحين، وتمرُّد البدو، وانتشار العدوى في المُدن والقُرى. وأشار أحد السجلات العربية إلى أنه يوجد عدد كبير من الجُثث التي لم يتمكَّنوا من دفنها. ووفقا لكتابات ابن سعيد، خلط سُكَّان الصحراء العظام المُحطَّمة بدقيق الخُبز. وفي عهد المستنصر بالله في الحقبة من عام 1029 إلى عام 1094، استمرَّت المجاعة سبع سنوات كاملة”.

ويتابع بريدراج “استمرَّت المجاعة في القضاء على السُّكان تحت حكم السلطان الناصر محمد بن قلاوون في القرن الـ8 هـ (13، 14م). وقد سجَّل المؤرخون أن كل مخبز تسلَّح بأربعة حراس لحماية المطاحن والخبَّازين. فحملوا المضارب، وكانوا على استعداد لمنع أي شخص من سرقة الحبوب والطحين. وازدادت الأمور سوءا في عهد السلطان المؤيد شيخ في الحقبة من عام 1412 إلى 1421 ميلاديّا، عندما مات نصف السُّكان تقريبا من الجوع. وخلال ذلك الوقت، أُطلِق على الخُبز أسماء تُنذر بالشؤم مثل ‘خُبز القرد’ و’خُبز الكلب’ و’خُبز الدُّب’. وكما قال راغيف إيماني عن تلك الحقبة: إذا كنت ترغب في مُساعدة أو إنقاذ حياة صديق أو ضيف لك، فامنحه رغيفا من الخُبز. وفي مصر، تجد أن كلمة عَيش في اللغة العربية والقبطية تُستخدم لوصف الخُبز وكذلك لوصف الحياة”.

ويشير إلى أن نقص الخُبز أدى إلى التشكيك في كفاءة الحاكم وسمعته. ففي روما كان الأباطرة يرتدون تاجا مصنوعا من حزم القمح، مثل الإلهة “ديميتر” أو “سيريس”. وفي ذروة الامبراطورية الرومانية، بدا أخيرا أن آفات الماضي من الممكن التغلِّب عليها، ويمكن للمرء أن يعتقد أن المجاعات القديمة لن تحدث مرة أخرى أبدا. ومن سوء الحظ، لم يكن الأمر كذلك. فبينما كانت المسيحية تكتسب قوتها، كان قيصر يفقد سلطته. وأخيرا، انفصلت الامبراطورية الرومانية الشرقية والامبراطورية الرومانية الغربية في عام 395 قبل الميلاد وتواجها ضد بعضهما.

اكتسبت بيزنطة حريتها وصقلت قوتها، وسيطرت على الطرق المؤدية إلى المناطق الغنية بالحبوب في الجزر وفي الأناضول. وبمرور الوقت، أصبح الإبحار إلى شواطئ أفريقيا وأسواق برقة وقرطاج، مع الحقول الغنية بالحبوب المحيطة بها، أمرا خطيرا بشكل متزايد. وبحلول منتصف القرن الخامس الميلادي، ركب “أتيلا” على رأس جحافل الهون، وأخذت ضربات سوطه تغرس الخوف. فالبرابرة، الذين كانوا يأكلون اللحوم النيئة، هدموا أسوار المدينة واستولوا على الحقول المحيطة. وعندما حاصر “ألاريك”، ملك القوط الغربيين، العاصمة، كان عدد سكانها نصف ما كان عليه في أيام “أغسطس”.

نقصت شفقة المسيحيين على الفقراء. ولم يكن أي من تلاميذ القديس “بولس” ثريّا. وتبع ذلك سنوات عجاف، وسرعان ما عادت جميع أنواع الأمراض للظهور. وفي أيام الغسق، لم تعد الامبراطورية قوية بما يكفي لضمان حصول كل مواطن من مواطنيها على حصته من الخُبز. فشلت الأحكام، وتعثرت روما، من بين أسباب أخرى، بسبب نقص الحبوب. وكانت العصور الوسطى بخُبزها الأسود ومجاعتها على وشك التكرار.

مآسي العائلة والحرب

بريدراج يتوقف مع العديد من الكتب التي ساعدته على إنجاز كتابه

يحكي بريدراج “عندما كنت طفلا، عانيت الجوع، ولقرابة الأربع سنوات لم أجد سوى الخُبز ليُبقيني على قيد الحياة. كانت الحرب مشتعلة، حرب عالمية، ثانية من نوعها في القرن نفسه. اعتُقل والدي في المعسكر لأنه جاء من بلاد اشتركت في حرب ضد أخرى. كان قد فرَّ من روسيا قبل عشرين عاما من حربها مع ألمانيا. وسُجِنَ كجندي عادي في يوغوسلافيا التي هاجر إليها كل هذه السنوات، والتي تنهار الآن أول مرة. وعلى الرغم من أن معظم الأشخاص الذين اصطُحِبوا معه لم يعودوا أبدا، إلا أنه، بمعجزة ما، نجا”.

ويتابع “لقد شهدت نهاية عام 1942 وبداية عام 1943 أحد أقسى فصول الشتاء في القرن. في شمال ألمانيا، بالقرب من أوسنابروك، وجد والدي نفسه مع مجموعة مُرسلة لأعمال السخرة. لقد قطعوا الأشجار وقصوا الفلنكات من أجل خطوط سكك حديدية جديدة أوسع وأكثر ملاءمة لتزويد القوات الألمانية لغزو الأراضي. وفي إحدى الأمسيات، كانت توجد مجموعة من السجناء الجائعين والمتجمدين يرتدون ملابس ممزقة وقباقيب خشبية في طريقهم إلى الثكنات. يحكي والدي: لم نعد بشرا. أصبح الأمر كما لو أننا تحولنا إلى مجرد ظلال لأنفسنا. واعتُرِضنا على الطريق الضيق من قبل شخص غريب دعانا إلى منزله. فدخلنا إلى المنزل برفقة حارسنا. كانت ليلة عيد الميلاد. ووجدنا المنزل دافئا”.

ويواصل حكايته “استطرد والدي: كان الرجل قسّا برستانتيّا. واقتداء بالنبي إبراهيم، قدَّم لضيوفه المجهولين من أصول الضيافة. أولا، منحنا التدفئة وعرض علينا الاستحمام والحلاقة. وعلى المائدة وضع شريحة من الخُبز وكأسا من النبيذ لكل منا، تلتها وجبة بسيطة تماشيا مع التقاليد المسيحية عشية عيد الميلاد. وعند انتهاء الإقامة، احتضن القس والضيوف بعضهم بعضا. ولم يُبلغ الحارس عن أي منهم. وبعد ذلك اليوم، لم يفعل ذلك مجددا، بل ساوى آسريه بالأمة التي أتوا منها. فكان يقول عليك أن تفصل الحنطة عن القشر. فكر في كل ما حدث في روسيا وأوكرانيا، وفي مدينتي أوديسا”.

ويوضح “بعد الحرب والمخيم، عاد والدي إلى منزله في البلدة الصغيرة حيث لجأنا إلى بعض الأقارب الفقراء. ذلك الوقت الذي أصبح فيه الجنود أسرى. لقد عوملوا بطريقة انتقامية، بلا رحمة، وأجبروا على أسوأ الأعمال. يمكنك أن ترى من وجوههم أنهم جائعون ومرهقون. أتذكر كيف برزت ضلوعهم من خلال ملابسهم الممزقة. امتلكنا القليل من أنفسنا في تلك الأيام، فسلبت الحرب كل شيء منا تقريبا، ومع ذلك سيطر علينا أمل متجدد في أن الأمور ستتغير إلى الأفضل. وفي أحد الأيام، قطع والدي نصف رغيف الخُبز الذي نحصل عليه مرتين في الأسبوع كحصة لجميع أفراد الأسرة وقال: خذ هذا إلى السجناء الألمان. وتأكد من أن لا أحد يراك، وإلا سيتهموننا بالتعاون. انزلقت بين الموتى السائرين، حاملا الخُبز تحت قميصي، وقشرته تخدش صدري. ثم أعطيته لجندي ألماني طويل، نحيف، أشقر، فاغرورقت عيناه بالدموع، وشاركه مع سجينين آخرين”.

ويقول إنه “في أوائل السبعينات من القرن الماضي، أتيحت لي الفرصة لرؤية البحر الأحمر وزيارة أوديسا أول مرة، حيث وُلد والدي وهاجر منها عام 1920 في العشرين من عمره. ومن خلال الصليب الأحمر، حصلنا على عنوان إحدى بنات عمومته التي وجدتها مسنة ومريضة عندما قابلتها. كانت العمة ناتاليا، المعروفة باسم توسيا، ابنة ميخائيل جريجوراشينكو، بطل ثورة أكتوبر والطبيب الذي اشتهر بإنقاذ العديد من المقاطعات والمدن من الأوبئة التي اندلعت بعد انتهاء القتال. ومع ذلك، فقد أمضت خمس سنوات في جولاج لتعبيرها عن رأيها حول المجاعة الرهيبة التي أودت بحياة الكثيرين في أوكرانيا في بداية الثلاثينات”.

ويتابع “لم تكن توجد حبوب في مخازن الحبوب الأكثر خصوبة في أوروبا، وتسبب ذلك في موت ما يقرب من 3 ملايين شخص من الجوع. وحكت لي واحدة من أتعس القصص التي سمعتها عن الخُبز: على ما يبدو أن فلاديمير شقيق والدي، قد اختفى في واحدة من معسكرات ستالين، لاتهامه بالتواصل مع الأقارب الذين هاجروا إلى الخارج، وبنشر دعاية معادية، وأيضا لـ’التعاون مع التروتسكيين’ الذين لم يكن بإمكانه التواصل معهم حتى لو أراد ذلك. ومع ذلك، فقد نجا الجد نيكولاي من حزنه، رغم أنه لم يدم طويلا. كانت جدتي محطمة وجابت الشوارع بحثا عن أبنائها وزوجها. وماتت على مقعد في الحديقة، بعد أن فقدت عقلها. وفي عام 1941، في أثناء الحصار الألماني لأوديسا، استخدم الجد نيكولاي آخر ما يمتلك من قوة لنقل حصص متواضعة من الخُبز إلى كبار السن والعجزة”.

كتابات وحكايات

Thumbnail

يتوقف بريدراج مع العديد من الكتب التي ساعدته على إنجاز كتابه هذا، يقول “قرأت أعمال أوسيب ماندلستام والمذكرات المأسوية لزوجته ناديجدا ‘الأمل ضد الأمل’. ففي السنوات الأولى بعد ثورة أكتوبر، تحدث العديد من الكتاب الروس عن ‘قهر الخبز للجميع’، دون الخضوع للضغوط المتزايدة للقوى. ‘ماندلستام’ هو مؤلف المقال شبه المنسي ‘قمح الإنسانية’، وقد أراد فيه التوفيق بين ‘القربان المقدس’، الديني واللاأدري. احتفل بالخبز المخمر، وتساءل كيف يمكن لقطعة من تلك العجين أن ترتفع مثل الجبل”.

وفي معسكرات السخرة في “سيبيريا”، أطلق السجناء اسم “تريا” على الخُبز القاسي الذي لا معنى له والذي يصبح “صالحا للأكل” عند غمسه في ماء مالح دافئ. وفي إشارة إلى هذه الصورة، حذَّر “ماندلستام” من المشكلة التي تنشأ عند إخراج الخُبز من الفرن في وقت مبكر جدا. وعشية اعتقاله، في منتصف الثلاثينات، كان لا يزال يحلم بـ”خميرة العالم العزيزة”، التي يمكن أن تساعد العالم نفسه في التغيير. وقد وُصِفَ موته عن طريق “فارلام شلاموف”، الكاتب الذي قضى ما يقرب من عقدين في معسكرات العمل. ففي أحد الأيام، سرق أحد السجناء حصص الخُبز اليومية لـ”ماندلستام”، وعندها صرخ الشاعر”خبز! أخذوا خبزي!” لقد مات جائعا من أجل قطعة خُبز.

وكتب شلاموف في كتابه الرابع من “فولوغدا” قصة إغراء خُبز شخص آخر له “كان خبز شخص آخر، خبز رفيقي… كان يزن ثلاثمئة جرام، وباردا مثل قطعة من الخشب. رفعته إلى أنفي وامتطت أنفي برائحة الخبز الغامضة التي بالكاد تكون مدركة لها… قلبت العلبة رأسا على عقب وأفرغت بعض الفتات في راحة يدي. لحسته بلساني. امتلأ فمي على الفور باللعاب وذاب الفتات بعيدا… قطعت ثلاث قطع صغيرة، صغيرة، بحجم أظافري الصغيرة، ووضعت الخبز في العلبة واستلقيت. ثم قضمت القليل من الفتات وامتصصتها. ونمت، وأنا فخور بأنني لم أسرق خبز رفيقي”.

ويذكر بريدراج كيف قابل ألكسندر سولجينتسين بعد أن هاجر من الاتحاد السوفييتي عام 1974. أخبره أنه ظل عدَّة سنوات بعد مغادرة الـ”جولاج”، يضع قطعة خبز تحت وسادته كل ليلة.

كما يكتب عن الشاعر الأرميني دانيال فاروجان الذي قُتِلَ عام 1905 في أثناء الإبادة الجماعية، وهي واحدة من مذابح أوائل القرن العشرين. في سن الحادية والثلاثين، أُنزِل من قافلة نقلها الجيش التركي إلى معسكر الموت وطعن حتى الموت بالقرب من جبل “أرارات” الذي يُحتفَل به في الأساطير والتقاليد التوراتية. وعُثِرَ في جيب معطفه على مخطوطة بعنوان “نشيد الخُبز”. كُتِبَ على إحدى صفحاته الملطخة بالدماء ما يلي:

“يتأرجح في الريح/ تحت القشرة، حيث ترتفع الحبوب،/قد سكب القمر إبريقه من الحليب./ دراس إلى قرية، وإلى الطاحونة،/ موجة تجتاح البحار…/ وعندما تخبز العرائس الخبز المبارك/دع صوت الأغنية يرتفع وينتشر”.

الخُبز هو نتاج الطبيعة والثقافة وكان ولا يزال إلى اليوم شرطا للسلام، وسببا للحرب واليأس، ووعدا بالأمل وباركته الأديان

وفي كتابه “إذا كان هذا رجل”، شهد الكاتب الإيطالي بريمو ليفي على المعاناة في معسكرات الاعتقال النازية. “وهناك في الثكنات، نلتقي أولئك الذين يسرقون الخبز من بعضهم بعضا والذين يموتون من الجوع ولا يمكنهم أداء الأعمال الموكلة إليهم. إنهم يُصفعون من الصباح إلى المساء. ويسميهم الألمان  ‘zweilinkeHände’ يُسر الأيدي قبل قتلهم في النهاية”.

أما الكتاب الأكثر شمولا الذي كتبَ عن الخبز حتى الآن فهو “ستة آلاف عام من الخبز” من تأليف هنريش إدوارد يعقوب، وهو يهودي ألماني. في نهاية الكتاب، يكتب عن اعتقاله في محتشد اعتقال “بوخينفالد”، حيث حصل على الخُبز المصنوع من “خليط من البطاطس ونشارة الخشب”. ومن يدري كيف كان ليعقوب أن يكتب مثل هذا الكتاب المهم لو لم يكن في معسكر اعتقال وأكل هذا النوع من الخُبز.

ويرى بريدراج أنه “منذ زمن سحيق، كان الشعراء والفلاسفة والعلماء كذلك يكتبون عن ملحمة الخبز العظيمة، كل واحد منهم يلهم الآخر ويسهم الجميع بإسهاماته الخاصة. في فجر الألفية الثالثة، لا يزال عدد كبير من الناس يموتون من الجوع، لاسيما في ما يسمى بـ’العالم الثالث’، في آسيا وأفريقيا، الأماكن التي نشأت فيها الحبوب أول مرة، تغير المناخ والتلوث البيئي هما من العوامل التي تسببت اليوم إلى حدوث ذلك، البدو الرحل، الذين تطلق عليهم تسمية اللاجئين أو المهاجرين لأسباب اقتصادية، ليبحثوا، أحيانا في حالة يأس، عن حياة في مناطق لا يوجد فيها خبز”.

 ويهدد الاستهلاك غير المنضبط للطاقة بعواقب وخيمة ويعاني كوكبنا تأثير مختلف الظواهر المدمرة، فمن ناحية، ذوبان القمم الجليدية القطبية، وارتفاع مستويات البحر، والأمواج التي تغمر الأرخبيلات، وقارات يغمرها المحيط، ومن ناحية أخرى، مناطق شاسعة من العالم تفتقر إلى المياه الكافية، والصحارى تزحف على المزيد والمزيد من الأراضي، والجفاف يدمر المحاصيل والمجاعة تصيب الناس.

ويختم “بينما أكتب هذه الصفحات، أصبح العالم مرة أخرى يعاني أزمة. أزمة اجتاحت العالم بسرعة لا توصف، وواجهت البشرية تهديدات غير معلنة. فقريبا سيصل عدد سكان كوكبنا 8 مليارات شخص وفقا للخبراء، يمكن ترك ربعهم من دون خُبز. التقيت المهندس الزراعي الأميركي البارز نورمان بورلوج بعد أن طوَّر أصنافا عالية من الغلة ومقاومة للأمراض من القمح. لقد أنقذت جهوده أرواح الملايين من الجياع في ما يسمى البلدان النامية. وحتى يوم وفاته ظل يحذر من أن الجوع ما زال أمرا شائعا. الجوع متكرر للغاية“.

13