جحش العيد

"جحش العيد"، تسمية كانت ولا تزال، تطلقها العامة على ثالث أو رابع أيام العيد في بلدان عربية كثيرة، ذلك أن وهج الفرحة يبدأ بالانطفاء بعد اليوم الأول من الاحتفال، وتعود الأيام إلى مجاريها كما لم نكن ننتظر هذه المناسبة من قبل.
المراجيح تفقد بهجتها، الثياب تودع جدتها، والتهاني تغادر حرارتها، وحتى الحلويات تفقد شيئا من مذاقها.. إنه التكرار الذي يفسد كل شيء فيمسي الواحد منا كالسابح في نهر من العسل بعد يومه الثاني.
ينطبق الأمر على الأتراح مثلما الأفراح، إذ سرعان ما تضمحل وتتقلص الأحزان، بداية من ثاني أيام الفقد والفراق بل وعادة ما ترافق الضحكة وتطل برأسها عند رأس الميت قبل دفنه.
خُلقنا ملولين، وكذلك ألوفين - نحن معشر البشر - ولو عاد الواحد منّا إلى الصبا لغادر الشيب دامع القلب باكيا كما قال المتنبي.
ماذا يعني أن يسعد الواحد لأيام طويلة.. أليس هذا ضربا من ضروب الملل، لا بل التعذيب.. تخيل نفسك مسرورا طوال العام.
مرة حلمت بأني غني ومن أصحاب النعم التي لا تحصى ولا تعد فمللت عدّ النقود، ونهضت من هذا الكابوس مذعورا، حامدا ومستغفرا، مددت يدي إلى زجاجة الماء وعلبة السجائر فوجدتهما فارغتين ثم عدت إلى فراشي غير مأسوف على منامي ومقارعا قدري العاثر في ذاك الغنى الفاحش.
مرة رأيتني فيما يرى النائم، مضطرا إلى الركض هربا فوق الأشواك في كابوس مرعب ثم نهضت حامدا نعمة ربي أني أمتلك حذاءً وطريقا.. وقوما يركضون خلفي فيزيدونني حماسة وضحكا ورغبة في التهام الطريق.
ومرة لم أرني أبدا في منامي.. كل ما لمحته هو بضع همهمات وظلام يغرق في سبات، تماما مثل ما يفسره الفلاسفة ويصفه الوجوديون بـ"العدم".. نهضت فوجدت نفسي "موجودا".. ساعتها أدركت أني موجود غصبا عني.
وبالعودة إلى "جحش العيد" الذي وصفت به العامة شحوب احتفاليات العامة في آخر أيام العيد، على اعتبار أن الجحش هو أسهل ما يمكن امتطاؤه، فإن "حصان العيد" هو الأكثر وجاهة، ولكن ليوم واحد.
أمام هذه المعضلة الاحتفالية يصبح حصان العيد هو الاستثناء، والقاعدة هي الجحش بكل ما أوتي من بسطة وتواضع وقدرة على أن يكون في المتناول.
أما الضحك في المآتم والجنازات فأمر يحدث غالبا، لكنه لا يدوم، تماما مثل الأحصنة الشامخة في أول أيام العيد.
وجدت الأعياد كي نترحم عليها في ثالث أيامها، كما وجدت الأحزان كي تضحكنا عند أول وقوعها.. أمّا الذي بينهما فمجرد حالة دائمة كذاك الحيوان الذي يقع في مرتبة وسطى بين الجحش والحصان، وبين ضحكات الأتراح ودموع الأفراح.
ولأجل كل ذلك، ركب الكثير من النهيق على صهيلنا.