السوري أسامة الروماني: يجب النظر بالكثير من الثقة إلى دور المخرج

منظرو الفنون دائما ما يؤكدون أن الممثل هو العنصر الأهم في صنع المشهد الفني وتأتي بقية العناصر مكملة وداعمة له. فالممثل، خاصة في المسرح، صاحب الجهد الأهم في المشهدية الدرامية التي تتجمع فيها رؤى وهواجس عدد من المبدعين الآخرين. وتقديرا لأهمية مهنة التمثيل استضاف ملتقى الإبداع الذي يقيمه المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق الممثل والمخرج المسرحي أسامة الروماني الذي يمتلك معرفة مسرحية كبرى.
كتب ستانسلافسكي في منهجه عن إعداد الممثل “يجب على الممثل تحليل ودراسة شخصيته وإيجاد أبعادها الثلاثة”. فأي ممثل لا بد أن يقوم بالتعرف على الشخصية من خلال طبيعتها وحالتها النفسية ثم الاجتماعية.
وبعيدا عن منهاج ستانسلافسكي في التنظير لفن الممثل، تبدو هنالك نظريات مسرحية موازية ما زالت تحتل مساحة من الفكر المسرحي في أداء الممثل. ومعروف أن سوريا قد عرفت الفن المسرحي قبل أن تعرف التعليم المسرحي، مما أوجد فيها مسرحيين ألموا به وبنظرياته من خلال الخبرة والممارسة والتعليم الذاتي، ومن هؤلاء الفنان أسامة الروماني، الذي تشكل استضافته في ملتقى الإبداع الذي يقيمه المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق خطوة مختلفة في حضور الشخصيات التي شاركت فيه سابقا.
ساهم المسرحي أسامة الروماني في ولادة هذا الفن بشكله الرسمي في آوائل ستينيات القرن العشرين مع مجموعة من المسرحيين الذين جمعتهم حالة الشغف به، وسار فيه مشوارا قبل أن يعمل في التلفزيون. لكنه غاب طويلا عن منصات الفن السوري بحالاته كلها، فعاش في دولة الكويت مدة تقارب الأربعين عاما عمل خلالها مشرفا فنيا وإداريا في مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي، التي أنتجت الكثير من الأعمال الفنية والتربوية الهادفة أهمها المسلسل الشهير “افتح يا سمسم”.
وعاد الفنان عام 2021 ليقدم مساهمات فنية في المشهد الفني السوري، فشارك في ثلاثة أعمال هي “على قيد الحب” و”وثيقة شرف” ومسلسل “حوازيق”، وكانت آخر مشاركة له في عام 1996 من خلال مسلسل “حمام القيشاني” حيث لعب فيه دور الرئيس السوري الأسبق “أديب الشيشكلي”، وهو من تأليف دياب عيد وإخراج شقيقه الراحل هاني الروماني ومشاركة نخبة من فناني سوريا.
ضد ستانسلافسكي
في بداية اللقاء مع الروماني قدم تامر العربيد، عميد المعهد العالي للفنون المسرحية، الضيف من حيث كونه فنانا لم يغب عن مساحة الحضور في أذهان الناس رغم انقطاع مشاركاته المسرحية منذ زمن بعيد، من خلال مشاركته بمسرحيتي “ضيعة تشرين” و”غربة”. وكان وجود أسامة الروماني خيارا موظفا من القائمين على ملتقى الإبداع لما يحمله الروماني من تجربة فنية غنية في تفاصيل الحياة المسرحية السورية والعالمية كونه أحد الناشطين في بداياتها ومن ثم العاملين فيها ولديه الكثير مما يمكن أن يقدمه لطلاب المسرح.
وتحدث الروماني في مستهل لقائه بالطلاب عن البدايات التي سأله عنها مدير الندوة سعد القاسم وهي التي لم تكن مختلفة عن بدايات غيره من هواة فن المسرح، فرغم كونه موظفا في شركة المياه بدمشق، كان شغوفا بفن المسرح وعمل فيه مع مجموعة من الفنانين. قال “اجتمعت مع عدد من هواة المسرح الآخرين، مثل سليم كلاس وشفيق المنفلوطي ويوسف حنا ورياض نحاس لنقدم مسرحيات عالمية تقبلها الجمهور بالكثير من الاهتمام”.
ويضيف “كنا في تلك المرحلة نفتقد إلى التأهيل العلمي الأكاديمي، وكنا نستعيض عن ذلك بالتعلم من أخطائنا ومناقشة بعضنا بعضا، وكنا نلجأ لاستئجار صالات السينما بعد إنهاء برامجها بعد الساعة الثانية عشرة ليلا لكي نشاهد أفلاما عالمية لا تعرض في الصالات كونها لا تجذب الجمهور، لكن قيمتها الفنية عالية وقيمة، ليتم عرضها أمام هواة المسرح وغيره من الفنون، ثم تتم المناقشة وتحليل العروض للاستفادة منها”.
ويتابع “كنا نعرض أفلاما لأنطونيوني وكازان وغيرهما من أفلام الموجة الفرنسية الجديدة مثلا، ويحضر العرض من يرغب من محبي الفنون، ثم نحللها ونقدم فيها آراءنا تجاه بعضنا، كانت الحالة غنية بالنسبة إلينا، ولاحقا أسسنا النادي السينمائي، الذي قدم عروضا دورية بالغة الأهمية وتدور بعده نقاشات وتحليلات، شكلت لنا ذخيرة كبرى في التزود بمعرفة الفنون جميعها”.
يمكن للفنان المسرحي العمل في التلفزيون ليحقق شرطه الحياتي لكنه مطالب بألا ينسى في الوقت ذاته المسرح
كان مباغتا أن يجهر فنان مسرحي مرموق بأنه ليس مع مذهب ستانسلافسكي في التمثيل، وأن يعبر عن موقفه ذاك من قلب مؤسسة أكاديمية، تعلم هذا المنهج لطلابها، فأسامة الروماني ينتمي إلى جيل مسرحي تعلم الفن بالخبرة والممارسة الدؤوبة والاحتكاك المباشر بالمسرحيات متنوعة الطيف والتوجه.
وفي حديثه للطلاب يبين أنه “يميل إلى الفكرة التي تنهج أن فن التمثيل هو الوهم، فالفنان لا يمكن أن يخرج من ذاته، بل هو شخص واع لمحيطه وواقعه، يعرف أنه يلعب دور ممثل لمدة محددة ستنتهي بعد زمن محدد، فالعرض المسرحي هو عقد اتفاق بين الممثل وبين الجمهور. بحيث يلتزم بأن يقدم للجمهور جهدا فنيا يخرج به من حالته التي هو عليها ويدخله في عالم آخر مبني على الوهم. والممثل حتى يصل إلى أفضل حالاته في تقديم العرض المسرحي، عليه أن يقوم بالكثير من التدريبات التي تمتد لفترة أشهر، وحين يصل إلى أفضل حالة في التدريب (البروفة) يكون قد وصل لمهمته، ويكون العرض الحقيقي هو تقليد لهذه البروفة”.
وفي جواب له على موضوع إمكانية تحقيق المسرح السوري لنهضة مسرحية كالتي كانت قبل عقود طويلة، يقول الروماني “لفن المسرح مقومات عديدة خاصة به كأي فن آخر، من أهمها وجود مسارح مؤهلة تقدم عليها هذه الإبداعات المسرحية، وهنا لا يمكن إلا أن نسجل إشارة استفهام كبرى على واقع عدم وجود مسارح كافية في سوريا. فهل يعقل أن عاصمة سوريا دمشق، المدينة العريقة صاحبة التاريخ والفنون ليس فيها إلا صالتا مسرح. في دول العالم تدعم الدولة المسرح بجهد فعال يضمن وجود حالة فنية حقيقية”.
ويضيف “حضرت مرة مسرحية في باريس وكان عدد مقاعد المسرح ستة عشر. وبديهي أن صالة فيها هذا العدد القليل من الكراسي وبالتالي المردود المالي لا تعول على بيع التذاكر للجمهور لتحقيق مردود مالي يغطي كلف الإنتاج، وأكيد أن العرض كان قائما على صيغة الدعم الحكومي للمسرح الذي يقدم شرطا مريحا للإنتاج. كذلك يجب الاهتمام بإيجاد حالات مسرحية متعددة. لكي يكون هنالك جو من التنافس في ما بينها، كالذي كان في أواسط القرن العشرين في سوريا، فكانت هنالك فرقة المسرح القومي التي كانت برئاسة نجاة قصاب حسن وهنالك دوحة الفكر والفن التي أسسها ورأسها رفيق الصبان وكانتا تتنافسان في تقديم العروض المسرحية المختلفة، وكانت كل فرقة تحضر عروض الفرقة الأخرى وتقدم لها الورد في الافتتاح. ولاحقا وجد المسرح الجامعي الذي قدم توهجات مسرحية سواء على صعيد الكتاب أو الممثلين الذين صاروا نجوما لاحقا منهم عباس النوري ورشيد عساف وسلوم حداد وغيرهم”.
توجهات مسرحية
في توجه له في تبني أسلوب مسرحي محدد، يرى الروماني أنه “من واجب الممثل ألا يكون مقولبا في شكل مسرحي محدد، بل أن يقدم كل التجارب التي تتيح له المزيد من العمل والاحتكاك مع أكبر طيف ممكن من المدارس المسرحية في العالم، حتى في حالة المسرح العالمي أو المحلي. ففي المسرح العالمي الكثير من التجارب التي قدمت مساهمة قيمة للجمهور، وهذا ما يوجب تقديمها بشكل أو بآخر في عروضنا المسرحية المحلية بعد القيام بعملية التحضير المناسبة، لكي يكون العرض منسجما مع البيئة المحلية. في مسرحنا السوري قدم المؤلف أحمد قنوع العديد من المسرحيات المحلية في الشكل الشعبي التجاري وكانت مستقاة من المسرح العالمي التي أطلع عليها بحكم دراسته للأدب الإنجليزي، وقد تقبل الجمهور هذه العروض بعد إعدادها بما يلائم البيئة المحلية”.
يسأله طالب عن وضع الممثل المسرحي من حيث الوضع المالي والفقر الذي يمكن أن يحوط به، فأجابه “الواقع المسرحي لن يقدم للممثل شرطا ماليا مريحا، كون العروض قليلة والمردود شحيح، لذلك على الممثل أن يتوجه إلى فنون أخرى مثل السينما والتلفزيون، وهنالك العديد من الفنانين الذين حققوا نجاحات فنية كبيرة ومن خلالها شرطا ماليا مريحا. الفقر المالي وضع غير صحيح ولا يجب على الفنان المسرحي أن يبقى أسير هذه الحالة، فليعمل الفنان المسرحي في التلفزيون ويحقق شرطه الحياتي المريح، لكنه مطالب بألا ينسى في الوقت ذاته فن المسرح الذي ولد فيه”.
العلاقة الأهم والتي تحدد مدى النجاح في العرض المسرحي بعد انتهاء مرحلة التحضيرات هي بين الممثل والجمهور
يرى الروماني أنه يجب النظر بالكثير من الثقة إلى دور المخرج في العرض المسرحي، كونه الذي يقوم بتحليل وتفكيك النص الذي يكون جامدا على الورق ويحوله إلى روح وحياة من خلال العرض المسرحي المتكامل، بعد دمجه بفنون الضوء والديكور والتمثيل. يقول “كنا نقدم مسرحية يوليوس قيصر بدمشق، وكان هنالك مشهد ما بعد لقاء القادة مع بروتوس، والمفروض أن اللقاء استمر حتى الصباح، فتأتي جملة حوارية فيه وهي: من أين تشرق الشمس في روما؟ فيكون الجواب من هنا تشرق الشمس ثم يجيب آخر من هنا تشرق الشمس، وكنا نستغرب عن سبب وجود جوابين على هذا السؤال، وما زاد مكمن الاستغراب أن شكسبير لا يقدم إيضاحات في ذلك على هامش الصفحة”.
ويتابع “أمام عجزنا عن إيجاد جواب على السؤال قمنا بحذف واحد منهما واكتفينا بواحد. وبعد سنوات تسنت لي مشاهدة العرض عالميا وكنت تواقا للوصول إلى النقطة التي يطرح فيها الجوابين وكيفية معالجة الموضوع من قبل المخرج، الذي أوصله إبداعه إلى أن يجعل الشخص الأول يجيب بشكل طبيعي أن الشمس تشرق من هنا بينما يجيب الآخر بذات الجواب وهو ممسك بسيفه وموجها إياه صوب بروتوس الأمر الذي يحمل دلالة تملق له، كون وجوده في عملية قتل قيصر سينفي عنها صفة الجريمة لأنه ربيبه والأقرب إليه. فذلك المخرج فكك النص المسرحي وحلل رموزه ووصل إلى أن الجواب الثاني متعلق بنوازع إنسانية امتلكها هؤلاء تجاه شخص ما هو قيصر مستعينين بشخص آخر لتحقيق هدفهم هو بروتوس”.
يرى أسامة الروماني، أن العلاقة الأهم في العرض المسرحي بعد انتهاء مرحلة التحضيرات هي بين الممثل والجمهور فهو الذي يحدد مدى نجاح العرض المسرحي وتقبل الجمهور له. فعند الممثل تلتقي أفكار الكاتب ورؤى المخرج وتصميم الضوء والديكور وكل عناصر المسرحية التي تكثف في حضوره على منصة العرض. وهو لا يجد في المسرح مساحة لتقديم عرض مسرحي عربي موحد، ويتعبره حالة غير سوية، فالمسرحية كلها يجب أن يقوم بها فريق مسرحي واحد متجانس، ويمكن أن تتحقق حالة التواصل مع الفن العربي من خلال زيارة هذا العرض للبلدان العربية كعرض واحد متكامل يعبر عن بيئة محددة. يمكن من خلاله أن يتعرف الجمهور العربي الآخر على خصائص الحياة والمجتمع للدولة صاحبة العرض.