"عزيزي المندس" يوميات شباب يلاحقون حلم الوطن في الساحات

إن التأريخ للحظات المحورية في تاريخ شعب ما من خلال السرد الأدبي ليس بالأمر السهل، خاصة إذا كان التاريخ قريبا وكانت لحظة الكتابة تدوينا على مقربة مكانية وزمانية من الوقائع. صعوبة الكتابة لا تكمن فقط في التدوين وحياديته وقدرته على إمساك اللحظة، وإنما أيضا في الارتقاء بها فنيا لتكون نصوصا أدبية وافرة المتعة.
النصوص السردية هي أقدر الأجناس الأدبية على تصوير الذات والتعبير عن حالاتها، فضلًا عن مرونتها الفائقة التي تجعلها قادرة على استيعاب الأشكال والخطابات الأدبية كافة، فقد كانت ميدانًا فسيحًا لتطبيق نظريات سيمياء الأهواء. وهو ما نراه في هذه القصص -سلوكيات للذات الفاعلة من إنسان، جمادات، مشاعر وعواطف- هي مكونات الخطاب الاستهوائي تركيبا ودلالة.
مشاعر الأهواء والعواطف والتواصل لا يمكن الفصل بينها، وکلّ الأعمال التی تنجم عنها ترتبط ارتباطاً وثیقاً بإدراك الشخصية وتلقّیها اجتماعيا وبعلاقة الذات والآخر معا. ومجمل القصص كيف ینظّم الشباب تظاهرة، وهي مخاض أفكارهم وعقائدهم وصورهم الذهنیة، هي رصد لسوء الأحوال الاجتماعية لهم يظهرها الكاتب على هيئة حوارات وأفلام فيديوية وصور فوتوغرافية وغيرها كرسائل حجاجية.
يوميات صادقة

مشاهد وعناوين القصص تتنوع فنجد أنفسنا أمام مشاهد مكثّفة متعددة متفرعة تغري القارئ بالاستمرار في القراءة
تحفل المجموعة القصصية للروائي والقاص خضير فليح الزيدي بعنوان "عزيزي المندس" بالانفعالات المتناقضة، كالغضب والحب والحزن والشفقة، وهي تضطلع بدور أساس في بناء عوالم النصوص القصصية، إذ استطاع الكاتب أن يروض جموحها من خلال تعبير رائق ولغة شعرية جميلة وبناء متماسك.
تتحدث نصوص المجموعة عن ألم الوطن، وهذا ما تجلى في شجاعة الشباب بفئاتهم العمرية المختلفة، أمام صور أسراب قوة مكافحة الشغب المندحرين وهم يهيمون على وجوههم إلى السواتر الكونكريتية. يقول الزيدي “أسجل تلك القصص في لحظة تأمل. أكذب عندما أقول لحظات خالية من الانفعال. والانفعال هو لحظة صدق خام وفطري، هي قصص معتقة بالدخان السام عما جرى ويجري يوميا. أسجلها هنا لتذكير أولاد الضحايا. عفوا أقصد أولاد المقتولين غدرا في الشوارع بأن جيفارا يبعث من جديد تحت نفق التحرير والساحات الأخرى”.
كتب الزيدي قصصه بعدسة كاميرا خاصَّةٍ ترصدُ تلك التفاصيل التي كثيراً ما يخفيها إعلام السلطة وماكنته الإعلامية الفضائية والإيغال في التشكيك بقضيتهم، هي قضية وطنٍ مستلب وهناك شباب ينتفضون لاسترداده. يقودهم شعور بأن الوطن يتسرب من بين أيديهم ولا يترك إلا الألم في أرواحهم.
منذ الدخول الأول إلى عوالم المجموعة القصصية يكتشف القارئ حمولات فكرية وجمالية، واجتهادا مذهلا لخلق آلية سردية بتقنيات وثيمات تتميز بالابتكار، إضافة إلى الحدث الفكرة التي يريد الكاتب أن يوصلها إلينا من خلال الصدق الفني لمهارة الحكي المباشر، والحبكة القصصية من عناصر القصة التي تجلب الانتباه وترك النهايات مفتوحة لإثارة التساؤلات والاحتمالات في روح القارئ، فهذه العناصر هي التي تشكل مادة القصة.
وبغض النظر إن صنفت هذه النصوص قصصا أو مقاطع سردية، إلا أنها في غالبيتها احتوت على حكي من يوميات “تشرين”. وتحمل القصص أفكاراً تثير السؤال، لكنها تختلف شكلا وأسلوبا، فيما تمثل مراحل من أحداث عشناها بالفعل وأعادها لنا الكاتب فنيا، ممتلكا الجرأة للحديث عن مسائل تعتبر من المسكوت عنه، فهل كان الكاتب يبحث عن أمل في وسط الألم، أم وصل إلى قناعة أنه أدرك “عبثية الخلاص”؟
يكتب الزيدي “يسألني الصحافي عن عينات عشوائية من البشر في ساحة التحرير، عن هذا البلد المبكي كلما عزفت الكمنجة: ماذا يمثل لك العراق؟ لماذا كلكم تبكون في أثناء الإجابة عن هذا السؤال؟ هل يبكيكم السؤال أم العراق أم النشيد الوطني؟”.
وقبل التساؤلات التي يثيرها الكاتب سيقف القارئ في حضرة تلك القصص مطولا عند العنوان الذي جمعت تحته، “عزيزي المندس”، فالعنوان يعد هو الركيزة الأصيلة والأساسية التي تمثل النص المقابل للمتن. ولأن العنوان يعدُّ تلقائيا، سنجده يعتمد مفردة “عزيزي” الأبوية خطابا إنسانيا غاية في الحرص على أرواح هؤلاء الشباب وهم جاهزون وبلا عون للذهاب إلى السماء عراة فقراء وبدون أحلام تذكر.
الزيدي كتب قصصه بعدسة كاميرا خاصَّةٍ ترصدُ تلك التفاصيل التي كثيراً ما يخفيها إعلام السلطة وماكنته الإعلامية الفضائية والإيغال في التشكيك بقضيتهم
أما الكلمة الأخرى من العنوان “المندس” هذه مفردات وضع لها في الهامش شرح مفصل، وهو الشخص الذي يواظب على التظاهر بينما هو مندس في الجموع. ويعني كل هذا أن العنوان يتكون من كلمات محورية، وعليها مدار الدلالة والتوليد والتحول سطحا وعمقا. ويمكن القول إن العنوان هو ما يقدمه النص من معلومات يدركها السامع من مصدر ما في المحيط (أي المقام، أو النص الظل).
وقد استفاد الكاتب من “النص الظل” إذ يعضد النص الأصلي بعدة وصايا حول التظاهر، وتلك من التقنيات الجديدة في فن القصة القصيرة الحديثة توظيف الوثائق والوصايا والصور… وغيرها، إذ استطاع، بخيال خصب، ابتكار أفكار غير مسبوقة، أفكار شكَّلها في محاورة شيقة وبجمال وسلاسة لتشكيل روعة الحكي، بالإضافة إلى توظيفه اللُغة المكثفة وتشابكها مع العامية التي أعطت للقصص رحابة وجمالية ومضمون مؤثر.
لكني أغبط الكاتب على فيضه الفكري الجريء، وخزينته المعرفية الكبيرة التي وظفها، ونجاحه في صياغة قصص إبداعية عن “يوميات تشرينية” أو بشكل أدق عن “شباب المستقبل” من دون أن يقع المتلقي في الملل والكدر، وهذه أمور تحسب له.
ظل الحلم بوطن حر يحرك لواعج النفوس ليتحول إلى رغبة في اقتحام عالم الآخر، إنها الرغبة في الحصول على الحرية كاملة غير منقوصة، هذه القيمة الإنسانية النبيلة التي يفتقدها المجتمع في غفلة من الزمن، إذن هذه القصص هي انفعالات نفسية تسائل الأهواء في تشكيل لعوالم هي حكايات من فلسفة يوميات تشرين، غير أنها ضاجة بالعواطف والمشاعر الوطنية التي تتشكل في لحمة واحدة، فيما يمكننا تسميته كيمياء الحقيقية.
التنوع والتعدد

نجد أيضا من الانفعالات التي تشكل فسيفساء النص العاطفة المتجذرة في فطرة الإنسان والحيوان معا، يكتب الزيدي مثلا في قصة “الكلب الذي بكى”، “ففي صباح كراج السنك الحزين. ذهب الكلب إلى فراش هشام وتشمم رائحة الدماء المتيبسة على مخدته. غادر الكلب موقع الجسر مخذولا وحزينا نحو أماكن أخرى من دروب بغداد القديمة مداريا خيبته وهو يعوي من شدة الفقدان”.
إن القوة الفاعلة في هذه المجموعة قائمة على الشخصيات والجمادات والمشاعر، ومن ثم فإن الحدث والمشاعر تابعة للشخصية وليس العكس، كما كان سائدا في السردية التقليدية.
وتبقى هذه القصص محل اهتمام القراء لما تمثله من علامة مهمة من علامات الجهد السردي لكشف الذات ومكوناتها، ولاسيما قدرة الكاتب على الإمساك بالترسيمات، وتطويع إمكاناتها، وكذلك ما أمده خياله به من رصد وتوثيق انتفاضة تشرين الشبابية، لصالح سرد جميل مستعملا بلاغته العالية وتجربته الغنية في قصص تنتمي إلى السرد المعاصر.
تتنوع المشاهد والعناوين للقصص، فنجد أنفسنا أمام مشاهد مكثّفة متعددة متفرعة، تغري القارئ بالاستمرار في القراءة حتى النهاية، ترافقها أحاسيس كثيرة متنوعة، وتصب الحالة الشعورية في هذا التنوع، من الوصف إلى التفصيل وفنية التصوير، وإلى المزج بين الماضي والحاضر، وعلى هذه الوتيرة وداخل فسيفساء مُدهشة، استحضر الكاتب أيّامًا مضت، انتشلها من ذاكرته بأحداثها ومواقفها التي حدثت في “الحبوبي/ ساحة التحرير”.
رحلة ممتعة بين هذه الأمكنة خاضها الكاتب ويسردها دون تَكلُف، وجاء هذا عفويا في السياق مما أضفى حيوية واضحة بين ثنايا السطور، ما يجعل القارئ يشعر بأنه يقرأ في حالات موثقة وليست حكايات من الخيال عندما يطلع على يوميات الشباب “أبطال القصص” خاصة ما يتعلق بحالة التشابك النفسي والفكري في تشكيل الصورة في أدق التفاصيل من خلال ما يرشح عن يوميات هي من “المسكوت عنه” وهنا تمر كل الأحداث بذرواتها المختلفة، من خلال المحرك الرئيسي للأفعال.
تعتبر “عزيزي المندس” مجموعة قصصية متميزة وتجربة تحمل الكثير من الثراء؛ إذ تنفذ أهوالها بعمق إلى ذواتنا، فبداخل كل منا يقبع ذلك الجزء من الرغبات أو الأحلام باستعادة الحرية للوطن، وتداعب القصص أخيلتنا وتتقاسم معنا واقعا جميلا حرا. تلك صورة غير منقوصة رسمها الشباب الشهداء بدمائهم.