"قبس من نار" رواية التحولات بين ريف العراق وبغداد

حسين عبدالخضر يكتب روايته بلغة مشهدية مليئة بالإيحاءات.
الاثنين 2022/07/18
بطل روائي تائه في الماضي (لوحة للفنانة فيفيان الصايغ)

المكان بطل روائي هام في العديد من الأعمال الروائية العربية، ويبقى تصنيف المكان من الريف إلى المدينة غاية في الأهمية، حيث غالبا ما يرتبط الأول بالعوالم البكر والطهارة والثاني بعوالم الضياع والتمزق، وهو ما تحول إلى فكرة نمطية تجاوزها حسين عبدالخضر في روايته “قبس من نار”.

“أهل القرية يتمتعون بذكاء فطري، لا يفوتهم أمر دون أن يعرفوا حقيقته، لكنهم يبدون مستسلمين، ضعفاء، لأنهم يبحثون دائما عن الشخص الذي يحرك فيهم روح الانتفاضة، حتى إذا ما وجدوه تبعوه إلى حيث ينجح، أما إذا لمحوا شبح الفشل فإنهم لا يبالون كثيرا في أن يتركوه وحيدا يواجه قدره، ينسحبون دون أن يعترفوا بأنهم اقترفوا عارا”.

هذا ما نجد أنفسنا بصدده في رواية “قبس من نار” للروائي حسين عبدالخضر، التي نقر بأنه اختار بدقة وتأمل العنوان والتوطئة والغلاف، ليتمكن من جذب المتلقي إلى عالم روايته، ووضعه في دوامة جريمة الحدث السياسي المسترجع والمتخيل سرديا بكل أسئلته.

بين الريف والمدينة

◙ ما يميز أعمال الكاتب الموهوب حسين عبدالخضر هو الرهافة والشاعرية

 بنى عبدالخضر الرواية على حدث غير عادي أواخر التسعينيات يتمثل في استشهاد الولي المقدس، وما تبع ذلك من انتكاسات نفسية على مريديه وعشاقه. ويسرد الكاتب الأحداث بتقنية تسعى إلى جذب القارئ وتشويقه، حيث بدت لغة الكاتب لماحة تومض دون أن تصرح، حين يتحدث عن مفهوم ودلالة النور في حياة الأشخاص حينما يشتد الظلام ويصفه بـ”المشكاة” ودوره في نفس البطل الرئيسي، الذي بدأ منذ صغره يتلمس التحولات الفكرية تنضج فيه.

في هذه الرواية تدهشنا لغة التصوير التي تماثل بين الإنسان وضوء المشكاة، إذ قدم الكاتب المشكاة كمعادل موضوعي للشخصية المحورية ومعادلا فنيا للإنسان عن طريق تصوير مصير هذا الصبي.

ما يميز أعمال هذا الكاتب الموهوب هو الرهافة والشاعرية، وما ينفرد به أسلوبه المراوغ من خصائص سردية يبدو معها وكأنه يحكي لنا شيئا غيبيا أحدث زلزالا أدار حركة المجتمع فكريا من حيث انتقاله من الظلمة إلى النور، بعد صراع نفسي مع السلطة الغاشمة، ومن يتأمل تفاصيل هذه الحكاية، ويتعرف على مفاتيح السرد الخاصة لدى الكاتب، يكتشف أن وراء هذه البساطة المتناهية عوالم متشابكة من الرؤى والدلالات، مترعة بالمعاني والإحالات، متراكبة الرموز والإيحاءات.

فالقصة البسيطة يبدو أنها تحكي لنا ما دار في إحدى بيوت تلك القرية النائية. فنجد وعيا حادا في التعاطي مع المكان الروائي حيث مسيرة الانتقال من القرية إلى المدينة، وما تبع ذلك من إشكالات، إذ يتقاطع هذا التحول مع العالم الخارجي في كونه فاضحا للأقنعة، وكاشفا للزيف والتسلط، أهل القرية يختلفون كليا عن أهل المدينة، ويأتي ذكر التفصيلات الخاصة بهم، حتى على مستوى الخطاب والزي الذي يرتدونه.

مثلت “القرية – المدينة” المفردة المركزية داخل الرواية، وبما يشير إليها من فضاءات مغلقة تتواشج مع العنوان الدال الذي يصرح به الكاتب في روايته، غير أن انفتاح السرد جعل المفردة تغادر فضاءها الدلالي المادي، ليقودنا في مسار مثير داخل النفس، وتحولاتها من القتامة إلى فضاء آخر أكثر وعورة، بينما يتجلى النور في التفكير والتأمل – الروح والعقل –  والذي تكشف عنه الفصول المتعاقبة للرواية.

نجد أيضا أن ثمة وعيا عميقا بآليات تشكيل النص، إذ يبدأ من العودة إلى جذور الحكاية، إلى اللحظات الأولى التي يتفتح فيها وعي بطل الرواية على المكان (القرية) حين كان طفلا صغيرا. وقد حاول الكاتب من خلال سرد الاسترجاع أن يصل بقارئه إلى الإدهاش، متجاوزا المألوف من الحكايات.

◙ رواية تكشف أن وراء البساطة المتناهية عوالم متشابكة من الرؤى والدلالات

الحوار هنا يمثل أحد أبعاد الرؤية السردية بداخل الرواية، واللافت أن ثمة تواؤما بين وعي الشخوص واللغة التي يتحدثون بها، ومن ثم جاءت الحوارات السردية طبيعية وبلا افتعال، ويلاحظ أنه قد يلتحم أحيانا خط القص الرئيسي مع الحوار السردي، بما يسهم في تعميق الرؤية داخل الرواية، فالجزئيات التي اختار النص إيرادها لما جرى في حياة البطل كانت تساهم في تصاعد أحداثه وأصبحت محفورة في ذاكرة القارئ ولاوعيه لتحدد هذه الجزئيات مسار القراءة وعلامات التأويل، لأنها تتطلب وضعها في مواجهة جزئيات أخرى منتقاة بعناية.

الحياة الاجتماعية الهادئة التي عاشها البطل في القرية تقابلها الحياة الفردية الخاوية التي عاشها في المدينة، وكأن الرواية تطرح جدلا بين الاجتماعي مقابل الفردي في بنية كل شيء فيها يخضع لعملية تعارض وتقابل تنهض عليها آليات توليد المعنى في الرواية.

وتتحكم في مسار تأويل أحداثها المتناهية فنيا وهذا المحور هو محور السرد الاسترجاعي الذي يوشك السرد فيه أن يكون نوعا من المنولوجات الداخلية الموشحة برداء السرد الموضوعي بضمير الغائب، وإن كان منظور السرد فيه هو منظور الشخصية التي تقوم باسترجاع البعض من ماضيها.

إن الرواية في جوهرها هي رواية العلاقة المعقدة بين “النور والظلام” والقصة لا زالت ماثلة في حياة البطل في رؤيته وتصوره للعالم، وإن فهم هذه العلاقة لابد أن يتم في سياقها الاجتماعي والتاريخي. لأن الرواية تعكس في هذا المجال المقولة السائدة بأن القرية هي مستودع التماسك الاجتماعي والمدينة هي ساحة التفكك والتحلل القيمي والأخلاقي، فتقدم عالما قيميا متماسكا بالمدينة، تنهض العلاقات فيه على أصول راسخة، يقابلها آخر متهرئ في القرية تنهار فيه أبسط القيم وهي قيمة الوعي الفردي، وكأن النسق المضمر في الرواية يريد أن يلفت نظر القارئ إلى هذا الوضع المقلوب وتؤكد تاريخيته.

فالتقابل هنا ليس تقابلا بين واقعين وفضاءين جغرافيين فحسب، ولكنه تقابل بين مرحلتين مهمتين في تاريخ العراق الحديث والذي تحضر فيه كل عوامل الانكسار والدمار، وكل صراعات المدينة والقرية، وتنصب فيها كل صبوات الوعي الزائف دون أن يستطيع أحد منا أن يغير حال الآخرين.

واقع عراقي مفتت

◙ في الرواية تدهشنا لغة التصوير التي تماثل بين الإنسان وضوء المشكاة إذ قدمت المشكاة كمعادل للبطل
في الرواية تدهشنا لغة التصوير التي تماثل بين الإنسان وضوء المشكاة إذ قدمت المشكاة كمعادل للبطل

حاول البطل أن يستحوذ على ما يريد بعد أن انتقل إلى العاصمة بغداد للدراسة، حيث تعرف إلى فتاة جميلة أخرى غير زوجته بنت عمه، ليعترف أمام نفسه بأنه قادر على التغير ولو بالأماني.

نحن إزاء رواية لا تقيم يوتوبيا خاصة عن تحولات الأفراد أو مصائرهم، وإنما تعرف جيدا آليات حركة هذا الواقع الموازي، إنها تصف الأشياء كما هي، لتوقف متلقيها على حافة المراجعة لواقع غاصب لا يرحم بعد أن فقدنا البوصلة.

وبدا كل شيء فيه خانقا. وقد استطاعت هذه الرواية الحزينة أن تتناول كل هذا الوجع الفردي دون أن تبارح منهجها التعبيري الجمعي أو تتخلى عن أسلوبها السردي الهادئ المتجرد من كل انفعال، أو عن لجوئها إلى السرد المباشر وربط الدلالة بين الذات والموضوع وبين الموضوع والقارئ دون تهويمات أو تكهنات بما لا يظهر على السطح وما لا تلتقطه العين. فالكاتب مشغول أساسا برواية قصة واقعية حدثت بالفعل ولا زالت آثارها باقية.

الرواية تقدم عالما قيميا متماسكا بالمدينة تنهض العلاقات فيه على أصول راسخة يقابلها آخر متهرئ في القرية

هي سجل من الإخفاق في عالم مضطرب وكيف أن كل شخصية من شخصياتها تنازلت عن شيء أساسي فيها من أجل تحقيق هذا الأمل المفقود أو التواؤم مع المتغيرات الجديدة بغية رؤية ضوء في آخر النفق. لكن هذا التنازل نفسه، والذي ينطوي بطبيعته على تخلي الشخصية عن أهدافها بعد موت والهدية والانتقال إلى المدينة، ما يلبث أن يساهم هذا اليتم في إعاقة الأحلام، ومن هنا يظل الجميع جزرا معزولة تدمر نفسها بنفسها دون أن تستطيع الفكاك من لعنة هذا الدمار الذاتي الجهنمي.

وأخيرا أقول إنها رواية بالغة الأهمية، لأنها تكشف لنا عن سر الداء الذي أخذ يفتت روح الواقع العراقي برمته بعد سقوط النظام، حيث تم نخر النفس البشرية من خلال الصراع الطائفي. نفوس عقيمة لم يدخلها نور المشاة الحقيقي، ولم تعد لها القدرة على الحفاظ على القيم الأصيلة، وعلى سلامة الأخلاق فيصبح الانهيار تحصيل حاصل وقد كشفت الرواية عن حقيقة هذا الانهيار.

13