سهير برهوم: المسرح تراجع لكنه يملك ما تملكه الفنون الأخرى

في يوم المسرح العالمي لهذا العام استعاد المسرح عروضه وجماهيره في مختلف أنحاء العالم العربي على غرار بقية بلدان العالم. وفي دمشق، المدينة التي عرفت فن المسرح منذ ما يقارب المئة وخمسين عاما، كانت هنالك احتفالية خاصة بالمسرح كفن رافق الإنسان منذ فجر الوعي في رسم مسارات تاريخه.
كتب بيتر سيلرز المخرج المسرحي الأميركي في احتفالية يوم المسرح العالمي في السابع والعشرين من مارس الماضي “أين هي اللغة، وما هي الحركات والصور التي قد تسمح لنا بفهم التحولات والتمزقات العميقة التي نمر بها؟ وكيف يمكننا أن ننقل مضمون حياتنا الآن ليس كريبورتاج صحافي بل كتجربة؟ المسرح هو الشكل الفني للتجربة. المسرح هو خلق تلك المساحة على الأرض التي يكون فيها الكل متساويا، سواء البشر أو الآلهة أو النباتات أو الحيوانات أو قطرات المطر أو الدموع أو عملية التجديد”.
منذ عقود، يحتفل العالم بيوم المسرح العالمي، حيث تقام فعاليات مسرحية تغطي العالم كله، فعروض وندوات ومحاضرات وغيرها من الأنشطة المسرحية.
وضمن احتفاليات يوم المسرح العالمي لهذا العام قدمت وزارة الثقافة السورية وضمن نشاطات مديرية المسارح والموسيقى مجموعة من الفعاليات شملت العديد من المحافظات السورية، إذ بلغ عدد المسرحيات المقدمة خمس عشرة مسرحية. كما قدم المعهد العالي للفنون المسرحية عرضا حمل عنوان “الدرس الأول” من إنجاز طلاب الصف الثاني وبإشراف الفنان وسيم قزق والفرزدق ديوب.
إضافة إلى العروض أقيم في تلك المناسبة معرض للكتاب احتوى على ما يقارب الثلاثمئة كتاب وأعدادا من مجلة الحياة المسرحية التي صدرت عن الهيئة العامة السورية للكتاب عن فنون المسرح وتم تكريم عدد من خريجي المعهد المسرحي (سلوى حنا وتاج الدين ضيف الله ووضاح حلوم ومحمد مصطفى وسوزان الصالح وموفق الأحمد وسهيل جباعي).
مكان آخر

سهير برهوم: العرض المسرحي ينافس نفسه أولا فكل عرض حالة
في دمشق قدم أخيرا عرض مسرحي من إعداد يوسف الشرقاوي وإخراج مديرة المسرح القومي في دمشق المخرجة سهير برهوم بمشاركة فرقة ميرال للرقص، حمل عنوان “مكان آخر”، المكان الذي يحمل الناس إلى المزيد من الهدوء والسلام، بحيث يمكنهم أن يعيشوا فيه بعيدا عن صخب العالم وشروره.
وعبر رحلة في تاريخ المسرح وشخصيات شهيرة فيه، رحل العرض في أجواء مسرحية امتدت الآلاف من السنين، بدءا من العصر الإغريقي حيث قدم مشهد من مسرحية “المستجيرات” لأسخيلوس، ثم تتالت مشاهد مسرحية منتقاة من مسرح شكسبير في “هاملت” وكذلك “هاملت يستيقظ متأخرا” لممدوح عدوان و”تشيخوف في مضار التبغ” و”دون جوان” لموليير، كما مر العرض على مشاهد من مسرح العبث لبيكيت وهنريك أبسن في بيت الدمية وحكاية جيسون وميديا وصولا إلى حكاية مؤسس المسرح السوري أحمد أبوخليل القباني وحرق مسرحه، لتنتهي رحلة العرض المسرحي بمونولوج الكناس في المسرح الذي ظهر في مسرحية خارج السرب لمحمد الماغوط وصيحته في بقاء الحياة والمسرح.
وتناغمت في العرض المسرحي فنون المسرح، من تمثيل ورقص بتكامل مع عناصر الحالة البصرية التي وظفت ستائر متحركة على المنصة كانت تفصل بين الأحداث من حين لآخر. كما كانت بديلا عن شاشة سينمائية وقعت عليها صور بعض مشاهير الفن المسرحي السوري، بحيث أسقطت صورهم عليها، كجزء بصري في العرض. أما الرقص فكان متداخلا مع العرض المسرحي، إذ يكمل ما يبدأه المشهد ويقدم حالة راقصة في مشهدية بصرية مكملة للفكرة التي يقدمها العرض وحواراته.
وقدم العرض على امتداد أربعة أيام على خشبة مسرح الحمراء وشارك فيه تمثيلا علي القاسم ووليد الدبس ورباب مرهج وسليمان قطان وروجينا رحمون وسليمان رزق وزهير البقاعي وعبير بيطار وفراس السلوم ويحيى دراوشة.
وترى برهوم مخرجة العرض أن مناسبة يوم المسرح العالمي تحتاج إلى عرض خاص يحمل دلالة ورمزية هذا الاحتفال السنوي الذي يقام على مستوى عالمي. وهو اليوم الذي يعيد كل مسرحي إليه.
وتضيف “يوم المسرح العالمي والاحتفال به له أهمية كبرى، لأن العاملين فيه يجدون أنفسهم مدعوين للتجمع والتوجه إلى المسرح الذي هو مكانهم الطبيعي ولأنها مناسبة تخصهم أولا. هي احتفالية تقام في كل دول العالم وعلى مسارحها، وتكون الفعاليات مشتركة في عدة تقاطعات، أهمها كلمة المسرح العالمي التي تقرأ في كل المسارح في هذه الاحتفالية وتعدها شخصية مسرحية عالمية”.
وترى المخرجة أن هذا الحدث يحتم علينا أن نهتم به ونصنع له شيئا خاصا، قائلة “معروف أن العروض المسرحية تقدم على مدار العام بشكل مبرمج، وتقديم عرض مبرمج في هكذا حدث لا يحمل برأيي دلالة الاحتفال، أنا أرى أن احتفالية يوم المسرح العالمي يجب أن تحمل شيئا خاصا بها، وأن يركز فيه على خصوصية يوم المسرح العالمي من حيث هويته وجمالياته ودوره في ثقافة المجتمع وعبر تاريخ المسرح والإنسان”.
وتقر آسفة بأن هناك تراجعا في متابعة المسرح عالميا، والسبب هو عزوف أهل هذا الفن عنه إلى فنون أخرى. وهذا ما يترك المجال لشريحة أخرى تحب المسرح، لكنها تقدم مستوى أقل. كما أن هنالك استسهالا في تقديم المسرح الحقيقي. كل هذا يوجد مسرحا لا يلبي طموح المسرحيين ولا الجمهور الذي يتكبد جهدا حتى يشاهد عرضا لائقا. الأسباب المادية في الفنون الأخرى سحبت خريجي المسرح منه وتركت المجال للبعض من المستسهلين وأحيانا الطفيليين لكي يقدموا في المسرح أعمالا لا تليق به. فهنالك، كما تقول، عروض تشوه فن المسرح، وهنالك تراجع ثقافي بشكل عام عند المجتمعات لصالح هيمنة ثقافة مواقع التواصل الإجتماعي التي تقدم السريع والسطحي.
وتتابع برهوم “المسرح لم يكن يوما ترفا، بل كان مقصدا للناس كي يشاهدوا فيه همومهم وثقافتهم، وليس هدف المسرح وجود شريحة تتباهى به، المسرح ولد للناس في حياتهم الطبيعية. الوضع المالي للناس ليس هو العائق لغياب الجمهور عن المسرح وخاصة عندنا في سوريا حيث تحتضن الدولة المسرح وتقدمه بشكل شبه مجاني وهو شيء مقصود لكي يتابع الجمهور المسرح. فالسبب برأيي يكمن في نوعية العروض وعزوف أهل المسرح عنه. الاحتفالية برمزيتها تعيد الضوء للمسرح كفن راق له جذور وألق، وتوجه رسالة لأهل المسرح لأن يقدموا جهدا لتدارك وضع المسرح الحالي”.
دمج العناصر المسرحية

عن منافسة فن المسرح لبقية الفنون في عصر طغى فيه عنصر التقنيات ومواقع التواصل ودراما التلفزيون تقول برهوم لـ”العرب” “المسرح يملك أداة قوية ومؤثرة لا يملكها فن آخر من الفنون ولا حتى مواقع التواصل الاجتماعي. هي خصوصية العلاقة المباشرة بين الممثل والجمهور.
والمسرح بها يملك أداة المنافسة الأقوى. ويجب علينا كمسرحيين أن نضع أنفسنا في مكان المنافس. إذ يجب أن نسخر كل ثقافتنا وطاقتنا المعرفية والمادية لكي نقدم الأفضل عنئذ يكون المسرح بحالة متفوقة”.
وتضيف “العرض المسرحي ينافس نفسه أولا، فكل عرض حالة، والعروض منافسة لأي عمل إبداعي آخر عبر العديد من الفنون. الأعمال الجيدة تفرض نفسها وتحفز من يعمل بالفن على تقديم الأفضل. الاستسهال يؤدي إلى التراجع الذي يجر تراجعا والجيد يأتي بالجيد. في رصيدي خمسة أعمال في الإخراج المسرحي، لدي شعور دائم أنني أنافس نفسي. فأنا أراهن في كل عمل على تقديم الجديد والأفضل الذي هو أكثر تطورا. المسرح يمتلك قوة المنافسة عندما نؤمن به ونعمل بإخلاص ونفتح له الباب لكي يقدم نفسه كما يجب، لأنه يمتلك أدواته وإمكانات لا يمتلكها سواه، المسرح هو العلاقة المباشرة بين المبدع والمتلقي، في العصر الحالي رغم وجود جهاز المحمول القريب جدا من الشخص فإن الثقافة الحقيقية مازالت بعيدة وتزداد بعدا”.
مسرحية "مكان آخر" تقدم رحلة في تاريخ المسرح وشخصيات شهيرة فيه عبر دمج كل الفنون والعناصر المسرحية
ولم تقدم برهوم عرضها المسرحي بأسلوب كلاسيكي عادي، بل قدمت فيه تنويعات فنية بصرية وراقصة أحدثت تغيرا ما لجهة تقديم العرض. وتبين في ذلك ” قدمنا ذلك منطلقين من عبارة المسرح أبو الفنون. وهو الإطار الأعم الذي يضم فنونا عديدة كان أولها الرقص الذي وجد قبل المسرح، فأنا لم أتعامل معه كعنصر ترفيهي أو جمالي ولا باعتباره فواصل، بل هو رقصة مطوعة لمصلحة المشهد التمثيلي، فالرقص جزء من المشهد وهو مكمل له. البداية التي جمعت الناس كانت لراقصين وممثلين وفي نهاية الرقصة الأولى يبدأ مشهد مسرحية المستجيرات لأسخيلوس وجاءت الرقصة بجزئها الثاني متناغمة مع فكرة المشهد وتوابعه الدرامية حتى نصل لقول الكلام الذي توجهوا به للإله زيوس”.
وذات الشيء على مشهد مسرحية بلاد أضيق من الحب لسعدالله ونوس، حيث كان المشهد متداخلا مع الرقص بطريقة تكاملية. وجسد المشهد راقصان لأن برهوم ترى أن الرقص هو أهم أداة للتعبير عن الحب، مبينة أن جمال تركماني ومحمد طرابلسي المشرفان على الرقص كانا متعاونين جدا، إذ كانت تشرح وجهة نظرها ثم يقدم كلاهما جهد الرقص بفهموم عميق.
وتتابع المخرجة “في مشهد حرق مسرح أبوخليل القباني أوجدنا الرقص. بمعنى أنه حتى بعد إحراق المسرح فإن فنه قد استمر، وهو الفنان الذي أوجد الموشح والميلوية التي استمرت بالحياة والفن. أما العنصر البصري فكان موجودا بزخم لأنني أميل إلى إشراك كل عناصر الحالة البصرية في صياغة المشهد بالتعاون مع الممثل ومصمم الديكور الذي كان متحركا في العرض وصممه بشكل مبدع كنان جود”.
وتقول “كنا نسدل الستار في العرض للفصل بين المراحل، وفي مشهد حرق مسرح القباني تعاونت إضاءة بسام حميدي لتروي الحدث عبر حركة الشاشات بطريقة مدروسة وجميلة. حتى المادة الفيلمية فضلت ألا أعرضها على شاشة بيضاء، فأسقطناها على الستائر التي هي عنصر ديكور، فصنعت أجواء جديدة. يجب توظيف كل عناصر المسرح لخدمة المشهد التمثيلي وحتى الموسيقى التي ألفها المايسترو نزيه أسعد تم دمجها مع العرض بروح التشارك لكي نخرج بنتيجة عرض مسرحي يليق بالمسرح في الاحتفال به”.