الوجه الآخر لتولستوي الباحث عن الله

يوميات تولستوي تقدم حالة الكاتب في صورته الطبيعية وممارساته اليومية.
الأحد 2022/03/27
اليوميات صورة عن الحياة الطبيعية للكتّاب

لا خلاف على أن الأهمية البالغة لفعل الترجمة، فهي القاطرة إلى التقدُّم، وقد شبّه الفرنسي موريس بلانشو (1907 - 2003) عملَ الترجمة، وهي تحاول التقريب بين لُغَتَيْن، بعمل هرقل وهو يحاول التقريب ما بين ضِفَّتَي البحر. وفي المقابل ثمة اتفاق على الصعوبة الواقعة على كاهل المترجم الذي ينقل من لغة إلى لغة، هذه الصعوبة جعلت الجاحظ قديما يجزم بأن “الترجمة مستحيلة، وأن ما يتمّ إنجازه منها ناقص لا محالة”، وهو ما يتطابق مع ما أقرته النظرية الحديثة للترجمة.

عن دار آفاق للنشر بالقاهرة، صدرت يوميات ليو تولستوي (1828 - 1910)، بترجمة يوسف نبيل، ستة مجلدات ضخمة، متوسط كل مجلد تقريبا 560 صفحة، وهو ما يعادل 3467  صفحة، وفي الحقيقة هذا عمل خارق. هذا العمل بهذه الضخامة في ظني يحتاج إلى مؤسسة تقوم به، أو فريق عمل، لا مجرد عمل فردي، على نحو ما يشير الغلاف الخارجي لليوميات، وإن كان في المقدمة، يتوجه بالشكر لبعض الأسماء التي قدمت له يد العون في ما استعصى عليه، مثل الدكاترة: أنور إبراهيم، ومحمد نصر الجبالي، ومنذر ملا كاظم.

يشير المترجم إلى أن هذا العمل الضخم، لم يترجم كاملا إلى أي لغة، بسبب الضخامة التي اتسمّ بها، وما صدر عنه في اللغة الإنجليزية، ليس إلا مختارات. ويبدو أن مترجم المختارات الإنجليزية، لم يكن بجسارة ولا قوة يوسف نبيل، فاكتفى بالمختارات، لأن ترجمة العمل بالنسبة إليه “مهمة مهولة تثير الذعر”، أما يوسف نبيل فقام منفردا بترجمة كاملة لليوميات وفي وقت قياسي؛ فالأجزاء الخمسة الأولى صدرت عام 2020، أما الجزء السادس فصدر في مطلع عام 2021، وهو ما يجعلنا نقف مبهورين أمام هذه الجسارة، خاصة إذا عرفنا أنه في هذه الفترة أنجز ترجمات أخرى، أدبيّة وفكرية لتولستوي وتشيخوف وآخرين.

تأمل عميق
تأمل عميق 

اليوميات بصفة عامة تندرج تحت كتابة الذات، وهي على خلاف السيرة الذاتية ورواية السيرة الذاتية، اللتين تخضعان إلى ميثاق سيري، أما اليوميات فشأنها شأن المذكرات والرسائل، حرّة تتحرّر فيها الذات من كل أشكال القيود التي تُلزم صاحبها بقول الصدق إنْ أمكن، وبذلك تكون اليوميات متحرّرة، وإن كانت لصيقة بذات الكاتب، إذْ تتسم بطابع الآنيّة في الكتابة، وهي ملاصقة لذات كاتبها، التي يعود إليها في أوقات مختلفة لتدوين ما ارتأى أنه مهم ولافت في مسيرته الحياتية واليومية.التعجب من هذه القدرة الفائقة ليس مبعثه محاسبة المترجم، أو حتى التشكيك في قدراته، هذا غير وارد أساسا، لكن الغرض منها محاولة التعرف على آليات الترجمة والوقت الذي يسمح بمثل ترجمة هذه الأعمال الضخمة، في هذا الوقت القياسي. أنا فقط أطرح تساؤلات خامرتني وأنا أتصفح الكتاب، آخذا في اعتباري الفخاخ التي يمتلأ بها النص، والصعوبات التي واجهته، حسب تأكيده في المقدمة! ما يهمني هنا والآن هو اليوميات التي كتبها ليو تولستوي، والتي ترصد فترة طويلة من عمره، وبمثابة مرآة تعكس حالاته المختلفة، أو من الممكن معرفة من هو ليو تولستوي؟

ويضفي الطابع التسجيلي المتتابع الذي تتسم به اليوميات، مهمة سوسيوثقافية تتمثل في رصد تطورات وعي الكاتب وتحولاته الفكرية، وفي ذات الوقت تعد رصدا دقيقا للمؤثرات الفكريّة والمظان التي شكّلت وعيه وأسهمتْ بشكل مباشر و/أو غير مباشر في كتاباته أيّا كانت انتماءاتها التصنيفيّة. كما تعكس الحالة النفسيّة التي كان يمرّ بها، وانعكاسات هذا على المنجز الإبداعي والفكري للمؤلف، فأحيانا نراه يشعر بتوقف عمله على هذه الحياة، فيطلب الدعم من الإله، بأن يعطيه القوة اللازمة للعمل.

تعد اليوميات ذات أهمية لمؤرخي الأدب ونقاده على حد سواء، فمن خلالها يتم التعرف على الكاتب بصورة دقيقة، خلافا للسيرة الذاتية التي تكون في مرحلة لاحقة ومتأخرة في مسيرة الكاتب، وتخضع لعوامل كثيرة تسهم في تعمية السيرة الذاتيّة على عكس ما هو سائد بأن السيرة هي الحقيقة الخالصة، فعوامل النسيان والخجل وغيرها تعوق أن تكون الذات حرة طليقة في البوح، على عكس ما هو واقع في الرسائل الشخصية واليوميات، والأخيرة تأتي تلقائية غير خاضعة لعنصر الحذف والتشذيب الذي يعد عنصرا أساسيّا في كتابة السيرة الذاتيّة.

تولستوي المتحرّر

ليو تولستوي.. أعلى درجات كمال
ليو تولستوي.. أعلى درجات كمال

يوميات تولستوي تمتد من عام 1847 إلى 1910، أي عام رحيله، كما يؤخذ في الحسبان أنها تسجل فترة طويلة منذ أن كان في التاسعة عشر من عمره، فكما هو معروف أنه ولد في التاسع من سبتمبر 1828، واليوميات بمثابة الوجه الآخر للروائي الذي أبدع الحرب والسلام وآنا كارنينا، وغيرهما من أعمال خلدته كواحد من أهم الروائيين في العالم؛ ففيها ملامح من شبابه، وعاداته، ومهامه الروتينية، علاوة على تفصيلات عن حياته الشخصية والاجتماعية، وما يتخللهما من علاقات متعدّدة بالنساء، وحبه للرجال الذي كان مثار غيرة من زوجته، والأهم أنها تلقي الضوء على العوامل أو المناخات التي كان يكتب فيها، وفي أي شيء كان يفكر أثناء كتابة أعماله.

يعترف تولستوي في الدفتر الثاني من الجزء الأول أنه لم يكتب يوميات من قبل، ولكنه يتخذ اليوميات آلية “لتطوير إمكانياتي” على حسب قوله. ينتهج نهجا غريبا وهو ما يعكس عدم معرفته بطبيعة اليوميات التي تأتي منسابة دون تخطيط مسبق، أما هو فيخطط ماذا سيفعل، وما ينوي عمله، الأهم من هذه الخطاطة أنها تكشف حرصه على التطوّر الفني، فهو سيواصل “دراسة الإنجليزية واللاتينية، والقانون والقواعد الرومانية”، كما سيعتني بدراسة المترادفات الجديدة وإتمام الجزء الأول من القواعد كاملا من أجل تحسين معرفته اللغوية.

يغطي الجزء الأول من اليوميات الفترة (1847-1857)، أي عشر سنوات من حياته الصاخبة والحافلة بالأعمال على الرغم من أنه في طور الشباب، ففيها نتعرف على تولستوي في طفولته وميله إلى التدمير، وكذلك تولستوي الشاب في ضيعته، ومراهقته ونزواته النسائية، وحياته العابثة، ثم التحاقه بالجيش وسعيه إلى الحصول على وظيفة بالدولة دون جدوى، فيقدم في يومياته تقريرا مفصلا عن الحياة العسكرية وسلوكيات رجال الجيش، كما يكشف هذا الجزء عن هوياته، وخاصة الموسيقى والقمار، وسفره إلى القوقاز وانبهاره بالطبيعة هناك، وهو ما شجعه على كتابة أعماله المبكرة مثل: الطفولة والصبا والشباب، وصباح صاحب الضيعة، إلى خروجه من الجيش وتنقله بين ياسنايا وغيرها من الأماكن.

ولئن كانت اليوميات المبكرة يُمرّر من خلالها نقاط ضعفه، إلا أنها في الوقت ذاته تكشف عن فلسفته الأخلاقيّة المبكرة، وتصوراته الموجزة عن الحياة والموت والدين، بل يطرح فيها فكرته عن تأسيس مسيحيّة جديدة خالية من الأسرار والطقوس والميتافيزيقيا؛ أي مسيحية عملية تُصلح لأبناء الأرض جميعا، وبالمثل مفهوم الإيمان الذي يرفض أن يكون مرتبطا بالتثليث أو خلق العالم والقيامة، الشيء الوحيد الذي يؤكد عليه هو أنه كامن في الإنسان. بعض اليوميات تتسم بطابع فلسفي، وهذا نابع من تأملات في ما حوله، كما هو ظاهر في بحثه عن الكمال، كما تظهر ملاحظاته النقدية على قراءاته المختلفة مثل: بوشكين وليرمنتوف وتورجينيف وأستروفسكي وروسو ومينسكي وبلزاك وجوته وشيلر وجورج دو مورييه وكورني، كما تظهر يومياته قناعته بفكرة الجانب الأخلاقي في الأدب.

شخصية تولستوي تتسم كما تجلت في اليوميات بأنها شخصية معقدة ومركبة إلى أقصى حدّ، والصراحة الشديدة في تسجيل يومياته
شخصية تولستوي تتسم كما تجلت في اليوميات بأنها شخصية معقدة ومركبة إلى أقصى حدّ، والصراحة الشديدة في تسجيل يومياته

تنشغل اليوميات في أحد أهم أهدافها على تطوير تولستوي لذاته، وهذا التطوير الذي يسعى إليه بالدراسة والتحصيل، يتابعه، ويرى أنه غير مرض، فحسب قاعدته “كلما تطوّر من نفسك، ترى المزيد من العيوب فيها”، وفي هذا يستعين بمقولة لسقراط “إن أعلى درجات كمال الإنسان هي أن يعرف أنه لا يعرف شيئا”. التطوير الذي ينشده يشمل الإرادة الجسدية والذهنية، ولئن رضى على إرادته الجسدية فإنه غير راض عن إرادته الذهنية، “فهي ما زالت ضعيفة”.

في الجزء الثاني من اليوميات والذي يغطي الفترة من (1858 - 1889)، يبدأ تولستوي وعيه بمفهوم اليوميات، فنلاحظ تسجيلا دقيقا ليومياته في القرية، منذ الصباح واستيقاظه مبكرا، وممارسته لبعض التمارين وكذلك الاهتمام بالأمور الحياتية الروتينية التي تشغله، كاستقبال الزوّار وتأثير هذه الزيارات عليه، والصيد، وكيفية تشكّل أعماله الأدبية، وخطة سيرها فيه، وأحيانا يستعرض لآرائه في ما يكتب. يستمر نمط التسجيل اليومي على مدار الأجزاء التالية: الثالث، والرابع، والخامس، فيسرد عن طبائع يومه، وعلاقته بالمرض، وحالته الصحيّة المتذبذبة بين يوم وآخر، وتأثير هذا على مسار خطط يومه.

مع الجزء السادس تبدأ مرحلة جديدة في حياته، حيث اعتوار صحته، وهيمنة هاجس الموت عليه، وشعوره باقترابه من محطة الوصول، يجعله يرتب أولوياته وفق هذا الضيف الذي ينتظره، فتكثر الأفكار التي يريد الانتهاء منها، ويُدرك جيدا أهمية نقل المعرفة للناس.

يضفي الطابع التسجيلي المتتابع لليوميات مهمة سوسيوثقافية تتمثل في رصد تطورات وعي الكاتب وتحولاته الفكرية

معظم الأفكار التي يطرحها في اليوميات تميل إلى طابع فلسفي فمثلا، يقول “إن ما هو حسن في الشيخوخة أنك تعرف أنك لن تظل حيّا حتى ترى نتائج أعمالك”، وهذا الأمر ينطبق على كل شيء لديه وعي حقيقي بالموت، وفي الوقت ذاته يُعلي من منزلة الإنسان، ويعتبرها “أعلى منزلة من أي منزلة إنسانية أخرى”، وهو ما يتطلب من الإنسان أن يعمد إلى المساواة في معاملته، فـ”يعامل القيصر والمومس على السواء”.

ثمة نبرة سخرية تسري في اليوميات، تصل في أحد جوانبها إلى نقمة على ذاته؛ إذ يعذبه العيش في حياة البطالة -كما يصفها- وسط الترف الجنوني، مقابل حياة الكادحين المحرومين من إشباع احتياجاتهم الأولية والضرورية، واللوم يزداد بعصف لعدم معرفته كيف يساعدهم، ويساعد نفسه. كما يدعو إلى الحب ويصر عليها، ويعتبره هو النجاة، وأنه الشيء الذي يتوجب على الجميع فعله، بألا يكرهوا أحدا.

كما تظهر نقمته الشديدة على طبقة الأغنياء (أصحاب الأراضي) وبمعنى أدق لديه انتقادات كثيرة للنظام الرأسمالي المتجسد في هؤلاء الأغنياء الذين يستغلون الفقراء ويسرقون قوتهم، ولا يحاكمون، فهم عنده أشبه بسارق سرق القرية كلها، وكوّم ما سرق وتولى حراسته.

وبالمثل يسخر من هؤلاء الذين يعتقدون في العلم ويرون أن العالم هو الموجود، لا الأنا أو وعي الإنسان، وبالمثل ينفي عن الذين يعتبرون أنفسهم متدينين أو علماء أو صالحين مبجلين، فعنده هم ليسوا كذلك. وعنده النشاط الديني والعلمي متنافران، وأن الانشغال بأحدهما يؤدي إلى إهمال الآخر، وتتجلى ذروة حكمته في اعتبار البساطة شرطا ضروريّا للحقيقة، وإحدى سماتها. وفي نظره طالب الصدقة الجوّال أكثر حرية وأقل تعاسة من أصحاب الثروة والسلطة، ويوصي عند التعامل مع أي إنسان بألا ننظر لهيئته أو وظيفته، وإنما ننظر له باعتباره تجليّا لله.

إيمانه الشديد، جعل أسمى شيء لديه يقر قاعدة خاصة في أنه يحب من يكرهه، ومن يريد أن يسدي له شرّا. والاعتراف بأن الله محبة، لا يمكن أن يتمثل إلا في صورة واحدة وهي حب الناس. إيمانه الشديد بالله جعله يرفض أن يكون مرتبطا به عبر ديانة، فيرفض أن يكون مسيحيّا، بل ويتوجه إلى الآخرين بألا يكونوا (براهمانيين، وبوذيين، وكونفوشيوسيين، وطاويين، ومسلمين… إلخ)، فكل واحد حسب قوله، يجد في إيمانه ما هو عام وشامل، ويرفض كل ما هو خاص بفرقته هو وحده، ويتمسك بهذا العام وحسب.

ومع عام 1908 يسمي اليوميات، بيوميات سرية من أجل نفسه، فيتساءل ما الذي يحتاجه، وتكون إجابته أن يهجر الجميع إلى الله وإلى الموت. ويتحرّر من ثقل المخبوء الذي ربما يتوارى بعمد أو دونه عن الذين يكتبون سيرته، فهو يكشف عن علاقته بالوصية السابعة من الوصايا العشر: “لا تزنِ”، ونزواته الجنسية وزياراته لبيوت الدعارة، وعلاقاته المتعدّدة.

آلية الكتابة

Thumbnail

يعترف تولستوي بأنه لا يجيد كتابة اليوميات، وأحيانا يجد حرجا من كتابتها لأنه “يشعر بأن يومياته ستزعج القارئ، لذا سيطلب منهم عدم قراءتها”، ومن ثم نلاحظ تذبذبات في الكتابة، فهي لا تتم بشكل منتظم، فثمة صعوبات في الكتابة، فأحيانا تمر أيام لا يكتب فيها شيئا، بل هناك شهور كاملة لا يكتب فيها، وهو يعلن عن هذا مع عودته للكتابة، فيقول “لم أدوّن يومياتي منذ شهرين تقريبا”، وفي نهاية الجزء السادس يشير إلى كتابته اليوميات بفتور، فهو يكتب فقط حتى لا يهملها فحسب، لأنه كما يقول “ليس لدي ما أكتبه، ولا حتى الرغبة”.

ثمة اختلافات كثيرة في شكل اليوميات داخل الأجزاء، ففي الجزء الأول من اليوميات كان الشكل العام لليوميات يتسم بالطول، وتتضمن الكثير من التفاصيل عن قراءاته وتحليلاته لما يقرأ، ولكن في الجزء الثاني مع وعيه بمفهوم اليوميات الذي كان يجهله -من قبل- تصبح اليوميات قصيرة، وأحيانا لا تتعدى السطر الواحد، يكتب فيها ما يشير إلى حالته العامة، وإحساسه بالملل، وعدم قدرته على كتابة أي كلمة، وتعب الأسنان الذي يرهقه. في الأجزاء المتأخرة من اليوميات تأخذ شكلا مختلفا، إذْ يحرص على نقل كل الأفكار التي راودته إلى الكتابة، ويخاطب قارئه هكذا: “فكرت في الآتي؟”، ثم يسرد قائمة من الأفكار، والرؤى.

بعض اليوميات يدمج فيها أحداث يومين معا، كما يواصل استعراضه لقراءاته التي تتنوّع ما بين كتب أدبيّة وتاريخيّة وعلميّة كعلم الجيولوجيا، وأحيانا مقالات متفرقة عن الصناعة والسلام والبوذية وغيرهم، وبالمثل أعماله الجديدة التي مستمر في كتابتها، مثل رواية القوقازي، والتي يرى أن الجانب السياسي يستبعد الفني.

بعض اليوميات تظهر آنية زمنها، بمعنى أنها ليست مكتوبة بعد انتهاء اليوم، وإنما هي تسجيل دقيق لما يمر به خلال اليوم، فيسجله لحظة حدوثه، وهذا ما نراه في الجزء الرابع، حيث يقول هكذا: “الساعة الآن العاشرة مساء، سأتعشى. أريد بشدة أن أعمل، لكني أفتقر إلى الطاقة العقلية اللازمة، ويعتريني ضعف شديد، إن حاجتي إلى العمل رهيبة حقّا، سأعمل إن غدا شاء الله”.

لو قارنا أسلوب كتابة هذه اليومية، بما جاء تاليّا لها بتاريخ  السادس من مارس (نيكولسكوي) يقول: “شعرت طوال هذا الوقت بالضعف والكسل، العقلي، أعمل على المسرحية ببطء شديد… خططت أن أكتب اليوم ملخصا لعرض للإيمان (كذا) لكني لم أنجح في ذلك”. الفرق بين الأسلوبين واضح، في اليومية الأولى، الكتابة لحظة ممارسة الفعل والتخطيط له، أما في اليومية الثانية فالكتابة تالية لأحداث اليوم، سجلها بعد انقضاء اليوم.

اليوميات عمل ثري وكاشف للكثير من جوانب شخصية تولستوي وكذلك مناخات كتابة أعماله وأفكاره وتأملاته العميقة
اليوميات عمل ثري وكاشف للكثير من جوانب شخصية تولستوي وكذلك مناخات كتابة أعماله وأفكاره وتأملاته العميقة

أسلوبه في كتابة اليوميات متباين، فأحيانا اليومية تبدو كتقرير أو ملخص، فمثلا في الجزء الرابع في يومية الثاني من مايو (ياسنايا بوليانا) يقول، بعد إشارته أنه لم يدون منذ شهرين لأنه كان مسافرا إلى موسكو، يسرد اليومية هكذا “الأحداث الهامة: اقترابي من الناسخ: نوفيكوف، الذي غيّر حياته نتيجة قراءته لكتبي التي استلمها أخوه الخادم من سيدته بالخارج…”، وبعد سرد جملة من الأحداث يعود قائلا: حدث آخر هام: قرأت مقالات أفريكان سبير.

تتسم شخصية تولستوي كما تجلت في اليوميات، بأنها شخصية معقدة ومركبة إلى أقصى حدّ، والصراحة الشديدة في تسجيل يومياته. كما يبدو شخصا منظما، يقوم بأداء الأعمال وفق خطط مسبقة، ويخطط لمشاريعه، وأفكاره وكتاباته، وكذلك حياته اليومية لا تسير بعشوائيّة وإنما بنظام مُتقن، كما أنه شخصية ودودة متعدد الزيارات والأصدقاء، وإن كانت حساباته المالية، ودقته في تدوين كل كبيرة وصغيرة تُظهر شخصا حريصا، أو عمليّا يعمل كل شيء بحساب وتقدير دقيقين.

واحدة من الأزمات التي أرقته من صباه هي المرض، فترهقه الأمراض المتوالية، حتى غدت صحته في حالة وهن وضعف شديدين، إضافة إلى علاقاته النسائية المتعددة. ومع كل هذا فهو شخص لديه إيمان كامل، بل الإيمان عنده قرين إيمانه بوجود مغزى لحياته. وشدة إيمانه تجعله يفرق بين نوعين من العقل، الأول عقل يعمل داخل المجال المادي، والثاني يعمل داخل المجال الروحي، يهتم بعلاقات المرء بالله والناس وبقية الكائنات، وبالمتطلبات الأخلاقية. وثمة معادلة تربط بين الاثنين، كلما زاد حجم أحدهما، قل حجم الآخر.

فكرة الإيمان في حد ذاتها، تأخذ حيزا كبيرا داخل اليوميات، على الرغم من أنه خصها بكتاب مستقل (عرض الإيمان)، لكنها تتكرّر باستفاضة، وبسبب هذا يسعى إلى تصحيح بعض المفاهيم، فمقولة أنا أعيش صوابها عنده “أنا لا أعيش، بل الله يحيا فيّ”، وما يسميه نفسي، حسب رأيه ليست إلا ثقوبا يتخلّلها الله. هذا الإيمان الذي يُهيمن على عقله وروحه، جعل فكرة الموت تتردد كثيرا في اليوميات المتأخرة، بل أضحى الموت حقيقة، ويؤكد بأنه يجب على الإنسان أن يعرفها، بل يمضي كل يوم في طريق الموت، وبناء على هذه الحقيقة يدعو كل إنسان إلى أن ينتهز كل فرصة ليحقق إرادة من أرسله، والرغبة الوحيدة كما يقول كي يكون فيها الإنسان حرّا، هي الكمال الأخلاقي.

هذا الإيمان القوي، جعله عندما فكر في الموت، وشعر باقترابه، استقبله بفرح، وهدوء، بل وشكر لله. ومع بلوغه عامه الحادي والثمانين تزداد صرامته مع نفسه، وهو ما يشعره بالمزيد من الرضا، وفي هذا السن تبدو عليه سمتان: التسليم لإرادته، وعدم إدانة الآخرين في الفكر.

العقلية الناقدة

حياة صاخبة وحافلة بالأعمال
حياة صاخبة وحافلة بالأعمال

تتسم شخصيته بأنها شخصية ناقدة، لديها تحفظات على أمور حياتية ودينيّة، فهو يرفض تدخل الرقابة في العمل الأدبي، فحسب قوله “محاصرة الرقابة تجعل ما يمكن قوله في مجال السياسة الداخلية أو الخارجية والحياة الاقتصادية والدينية، لا يسمح به، ومن ثم فلم يبق لهم سوى لهو الأطفال”. يتكرر سخطه على القيود التي تفرض على الكتابة، عندما يقرأ الاتهامات التي وجهت لجوربونوف، لأنه نشر كتابا من دون إذن الرقابة، يثور، ويصف الاتهامات بأنها “عمل مريع ومذهل” ويقول “إما أن يتحدث المرء الآن، وإما لن يتحدث”.

فكرة القراءة الناقدة واضحة على مسار اليوميات، فهو لا يقرأ لمجرد القراءة، بل يتفاعل مع الأفكار، ويعلّق عليها، وأحيانا يدونها، وثمة اعتراضات على بعضها، والأمر لا يقتصر على الكتب الأدبية والعلمية، كما فعل مع المادية بعد أن قرأ كتاب إنجلز عن ماركس، بل يشمل الإنجيل الذي يعترض على أقوال مثل “أحب الرب وقريبك”، فهو يرى أن هذا أمر زائد غير ضروري، يتنافر مع حب القريب، لأن حبه واضح، أما غير الواضح فهو حب الله!

على مدار اليوميات تتناثر فلسفته الحياتية والدينية جنبا إلى جنب، في اليومية الأولى بتاريخ السابع عشر من مارس (كازان) يسرد فيها جزءا عما تعرض له من إصابته بالسيلان، كما يشكو فيها من الوحدة، وعدم وجود من يقدم له يد العون أو الخدمة، إلا أنه يستفيد من هذه الوحدة باستمرار نشاطه الذي لا يزعجه فيه أحد. ومع أن اليومية مبكرة جدا إلا أننا نستلمح فيه فلسفته في الحياة، فالحياة الفوضوية التي يحياها أغلب الناس في فترة الشباب ليست إلا نتيجة لتفسخ الروح المبكر. فالعزلة مفيدة لكي يخلع الإنسان نظارته التي ينظر عقله من خلالها، والتي في رأيه تظهر كل شيء في وضع منحرف، وعندئذ يتضح له كل شيء لبصيرته، فحسب رأيه امنح عقلك الفرصة للعمل، وهو سيكون دليلك إلى وجهتك في المجتمع، “بل وسيمنحك القواعد التي يمكن أن تسير وفقا لها في المجتمع”، فحسب قوله “عقل الفرد جزء لا يتجزأ من هذا الوجود الكلي، ولا يمكن للجزء أن يكدّر من صفو الكل”.

اليوميات تنشغل في أحد أهم أهدافها على تطوير تولستوي لذاته، وهذا التطوير الذي يسعى إليه بالدراسة والتحصيل، يتابعه، ويرى أنه غير مرض

تولستوي الناقد الذي لا يتقبل أي فكرة بمجرد أنها مكتوبة في كتاب، وهذا الفكر الناقد يظهر مبكرا فبتاريخ الثامن عشر من مارس 1847 سجل في يومياته أنه يقرأ كتاب “بيان كاترين”، وهو من تأليف إمبراطورة روسيا، وتتداخل مع أفكار التنوير الفرنسيّة، يعلن بأن من عادته أثناء القراءة التأمل، ولذا يدوّن رأيه في فصول الكتاب، ونراه يحلّل كل فكرة من أفكار الكتاب، ومن هذه المناقشات للآراء الواردة في الكتاب، خاصة ما هو متعلق بالمسيحية، يكشف عن موقفه المبكر من المسيحية، وماذا يريد منها، كما يكشف تحليله لأفكار الكتاب عن ثقافته، حيث يرد بعض الأفكار لأصحابها، فيشير دوما إلى أفكار مونتسيكيو داخل الكتاب.

 وفي أحد جوانبها تطلعنا على معرفة حقيقية بعلوم مختلفة، كالقوانين والتشريع والتجارة وغيرها، فهو لا يعرض لأفكار الكتاب، وإنما يحلل ما ورد فيه. في معظم ما قرأته يذكر انطباعاته عن الكتاب الذي يقرأه، فكتاب بيير كورني “الكاذب” يرى أنه عمل تنويري حقّا. ومن آرائه التي تجمع بين النقدية والفلسفية، ما يذكره عن الفن، بأنه أحد تجليات الحياة الروحية، وما دامت الإنسانية حيّة، فلا بد أن يتجلى فيها نشاط فني، ويشترط أن يكون الفن معاصرا لزماننا.

لا تتوقف قراءته عند تفنيد أفكار الكتاب، بل ينتقد فكر المرأة ويقول “كم يبدو عقل المرأة محدودا! كما يبدو هذا الضعف دائما في مثل هذه الآراء التي لا أساس لها من الصحة”. وثمة إشادة ببعض الآراء الواردة في الكتاب، من مثل ضرورة تغيير القوانين، فهو يرى أنه من الضروري تغيير القوانين التي تفرض عقوبات مالية على جرائم مالية؛ لأن قيمة النقود تتغير مع الوقت.

 كما يقدّم قائمة بالكتب التي كان يقرأها بنهم وتفرُّغ كامل، مثل ليرمنتوف وبوشكين وجوته وألفونس كار، تميل اليوميات في بعض أجزائها إلى كتابة سيرية، في الجزء الأول بتاريخ السابع من يوليو، يسرد تفاصيلا عن حكايته وشخصيته التي يصفها بأنها غير متواضعة، وعائلته فهو واحد من أربعة أبناء لمقدم متقاعد، تيتّم في عمر السابعة، وعهد به إلى رعاية بعض النساء والغرباء، لم يتلق تعليما جامعيّا، نفى نفسه إلى القوقاز بسبب الديون، يصف ذاته بأنه فاسد أحمق حقير جاهل، ومرة بأنه إنسان حاد الطباع يثير الملل، خجول كالأطفال، ومرة أخرى يصف نفسه بأنه أبله.

على امتداد اليوميات، نشاهد تولستوي وهو يضع القواعد ويحاسب نفسه، هل التزم بها أم خرقها؟ فيضع لنفسه لائحة من القواعد التي تساعده في حياته، ومن هذه القواعد إصراره على عدم مفارقة الكتاب، وأن يفكر بصوت عال، وأن ينفذ ما اتخذه من قرارات يجب أن ينفذه مهما حدث، كما يضفي بعض فلسفاته على اليوميات كأن يقول “لا يكفي أن نصرف الناس عن الشر، بل لا بد أيضا وأن نحبِّبهم في الخير”، كما يقدم خططا مستقبلية لما سيقوم به من أعمال داخل القرية، ويا للعجب لمدة عامين!

شخصية غريبة لكنها حافلة بالأعمال الفريدة
شخصية غريبة لكنها حافلة بالأعمال الفريدة

تأخذ اليوميات منحى تاريخيّا؛ إذ يرصد خلالها الأحداث التاريخية الكبرى الني مرت في هذه الفترة، مثل مشاركة جماعة جيتريا في ألمانيا بهدف استعادة اليونان، وكذلك انتفاضة والي مصر محمد علي ضد تركيا.

كما ينتقد أعماله، فيذكر أن روايته الصبا تفتقد الشعور الواحد، وفي رأيه أنها عمل ضعيف، لأن وحدة الموضوع ليست قوية، واللغة سيئة، كما نلاحظ في بعض اليوميات أنها أشبه بتقرير عن المشتريات وتكلفة الشراء. وأحيانا في تجريد ذهابه إلى الصيد، ويتطرق أحيانا لآليات الكتابة، فيحكي منهجه في كتابة رواية “المالك الروسي” وكيف أنه اختار فصولا صغيرة، وكل فصل لا بد أن يعبر عن فكرة واحدة وشعور واحد فقط، ويطالعنا بما يقوم به من مراجعات وتشذيبات لنصوصه، فيختصر فصل الرحلة في الصبا، ويبسط العبارات في فصل الإعصار، ويحذف التكرارات فصل ماشا، ودمج فصلي الوحدة والعيار الناري. التغيرات التي لحقت نصوصه، وكأن اليوميات أشبه بمسودات نتعرف فيها على ما لحق النصوص من تغيرات وتعديلات وإضافات، قبل الصورة النهائية التي هو عليها. يبدأ الجزء الثالث من اليوميات بالحديث عن مسرحية “ثمار التنوير”.

استمرارا لفلسفته في الحياة، يتساءل في الدفتر الثاني: ما الهدف من حياة الإنسان؟ ويصل إلى جواب مفاده، الهدف من حياة الإنسان هو تقديم كل مساهمة ممكنة لتطوير الوجود كله من كافة جوانبه، تتواصل فلسفته وقراءاته لمفاهيم برؤية خاصة، فالنبي أو النبي الحقيقي أو الشاعر الفاعل كما يهتدي في النهاية، هو إنسان يفكر ويفهم مسبقا ما سوف يشعر به الناس بعد ذلك بما فيهم هو.

كما يشير إلى رؤيته للأعمال الفنية، ويرى أن ثمة انحرافين في كل نوع من أنواع الفنون هما: الابتذال والزيف، والطريق بينهما ضيق للغاية، يتحدد هذا المسار الضيق بحركة التدفق. ومن فلسفته قوله “من المستحيل أن نجبر العقل على تحليل وتبيّن ما لا يريده القلب”، ومن فلسفته أن القفل الذي يغلق كل شيء هو العسكرية، والمفتاح الوحيد لهذا القفل هو الإيمان بالله.

الخلاصة أن اليوميات عمل ثري وكاشف للكثير من جوانب شخصية تولستوي، وكذلك مناخات كتابة أعماله، والأهم أنها قدمت حالة الكاتب في صورته الطبيعية وممارساته اليومية، وعلاقاته المتعددة، وما مر به من أزمات صحية، أو على مستوى حياته الشخصية مع زوجته، وربما تقدم التبرير للكثير من الاتهامات التي روجت عنه.

12