بعد 11 عاما.. هل يمكن للاقتصاد حلّ المعضلة السورية؟

اقتصاد النظام السوري مثله مثل اقتصاد النظام الإيراني قائم على حاملين متوازيين الأول اقتصاد الدولة والثاني اقتصاد السلطة الذي لن يتأثر بانهيار المؤسسات مهما تواصلت العقوبات المفروضة عليه.
الاثنين 2022/03/21
معادلة صعبة

كشفت تقارير “أوكسفام” وبيانات برنامج الأغذية العالمي الأخيرة أن نحو ثلثي السوريين لا يعرفون كيف ولا من أين ستأتي الوجبة الغذائية التالية لهم، بينما يعاني أكثر من 12 مليون مواطن منهم من انعدام تامّ للأمن الغذائي. واقع جعل المسألة السورية تبدو أكثر قتامة، وحلّها السياسي أبعد ما يكون عن التحقّق، لاسيما في ظلّ الحرب الروسية على أوكرانيا التي احتلت المرتبة الأولى من اهتمام عالم جديد يتشكّل الآن.

جُرّبت كافّة الأفكار، الممكنة منها والأكثر صعوبة في المعادلة السورية؛ من المحاسبة إلى الحوار، ومن التصالح إلى نسف الآخر، ومن التهجير إلى الإبادة، ولم يجدِ أيّ منها نفعا، بفعل تشبّث الجميع بمواقفهم دون قابلية للتنازل أو المساومة، بينما كان عامل الزمن يفعل فعله بتراكم التناقضات وزيادة حدّتها بين السوريين. المعارضة السورية، ورغم هزال أدائها السياسي، لم تتخل بعدُ عن الشعارات المرفوعة والتي تبدو بعيدة كل البعد عمّا يفكر فيه النظام الذي ما يزال وعلى مدى أحد عشر عاما كاملة مرت على تفجّر الانتفاضة ضدّه، غير قابل لاستيعاب فكرة أنه يمكن لأحد من السوريين أن يخرج عن قبضته، السياسية والعسكرية والأمنية، لكنه لم يمانع من انفلات السوريين عن سيطرته الاقتصادية.

الاقتصاد السوري مثله مثل اقتصاد النظام الإيراني، قائم على حاملين متوازيين، الأول اقتصاد الدولة، والثاني اقتصاد السلطة الذي لن يتأثر بانهيار المؤسسات مهما تواصلت العقوبات المفروضة عليه. أما في المناطق الخارجة عن سيطرته فلا وجود أساسا للدولة، لكن ما هو موجود بقوة ما يمكن تسميته باقتصادات محلية، منها ما يعتمد على التجارة مع دول الجوار والداعمين، ومنها ما هو محمول على تبادل المنفعة مع النظام السوري ذاته، من خلال المعابر المفتوحة والصفقات السوداء الخاصة بالنفط والغاز الذي تبيعه “قسد” لحكومة الأسد سرّا، رغم العقوبات، كما باعه له من قبل تنظيم “داعش” قبل الإجهاز عليه.

الوضع في الشمال الغربي لا يقلّ تعقيدا عن نظيره في الشرق، فهناك حالة من الاتكالية الاقتصادية المستندة إلى امتصاص المساعدات وحتى الناتج المحلي، ولكن دون أن يتم تعويض ذلك بمشاريع خدمية بحجم ما يتم تقديمه أو حتى استدراره من جيوب السوريين الذين بات عدد كبير منهم من المهجّرين والنازحين من مناطق سيطرة الأسد يشاطرون أهالي هذه المنطقة مقدّراتهم الاقتصادية.

الحلول الاقتصادية ستعيد إلى المنطقة الشرقية السورية دورها كقاطرة للحلول الاجتماعية والسياسية لاحقا، لكونها المنطقة الأكثر ثراء

عوامل مستجدة طرأت، وهي تتفاعل بشكل نشط ويومي، على رأسها الانسحاب الأميركي الجاري يوميا من مختلف التفاهمات مع روسيا حول العالم، بما فيها ما تم إبرامه معها حول الملفّ السوري، وهذا سيعني قطع الرِجل الروسية عن الشمال الشرقي من سوريا، ومعها رِجل النظام السوري الذي اعتقلت “قسد” قبل أيام قليلة أربعة أعضاء من قيادييه في حزب البعث بالحسكة على حاجز أمني أثناء توجههم إلى دمشق. ترافق ذلك مع اندلاع اشتباكات مسلحّة بين ميليشيا “قسد” وقوات “الدفاع الوطني” الرديفة لقوات النظام والمدعومة من إيران، أوقعت العديد من الجرحى، مع أن أجهزة المخابرات السورية ما تزال تعمل، في وضح النهار، في ما يعرف بالمربّعات الأمنية سواء في تلك المدينة أو في الرقة أو دير الزور أو القامشلي، ليكمل المشهد الجديد القائد العسكري لـ”قسد” مظلوم عبدي باحتفالات رُفعت فيها أعلام الاستقلال السوري الخضراء التي تمثل الثورة والمعارضة بعد أن كانت محظورة تماما في تلك المناطق.

الولايات المتحدة باتت مضطرة لإبرام تفاهمات جديدة الآن، مع تركيا، بوضعها في الناتو وما يواجهه اليوم، من جهة، ومن جهة أخرى مع الدول العربية التي بدأت تشيح بوجهها عن واشنطن التي لم تكن ذلك الحليف الموثوق في صراع العرب مع إيران بعد احتلالها أربع عواصم عربية، ولا يمكن لغير الاقتصاد أن يكون بوابة لتلك التفاهمات، مترافقا مع البُعد الأمني ومحاربة الإرهاب، بما يعنيه ذلك من فكّ الارتباط مع حزب العمال الكردستاني وجبهة النصرة وأمثالهما، وهذا الميزان لا يستقيم إلا بقانون متفق عليه ينظّم الحياة العامة، في ما لو تم دمج المنطقتين الشمالية الغربية والشمالية الشرقية من سوريا.

لن يقبل السوريون في المنطقتين بقوانين وضعتها “قسد” من جانب واحد، ولم تعبر في مساراتها الشرعية ولم يؤسّس لها كبار القانونيين السوريين من واضعي الدساتير، ولكنهم وبحكم كون سوريا ما تزال دولة ذات سيادة معترف بها في الأمم المتحدة تحت اسم وقوانين وممثلي “الجمهورية العربية السورية”، فإن قوانينها وأنظمتها الإدارية ما تزال سارية أيضا على كافة التراب السوري. ومن بين تلك القوانين الكبرى ذات الطابع غير الأيديولوجي، قانون الإدارة المحلية السوري الرسمي الذي لم يلتزم به نظام الأسد، وهو قانون متقدّم ولا اعتراض لأحد عليه لأنه يجسّد تمثيلا محليا للسكان في بلديات ومجالس المحافظات على أساس الانتخاب ووضعِ جميع سمات الوحدات الإدارية المحلية كالاقتصاد والثقافة والخدمات والرعاية الصحية والاجتماعية في أيدي مواطني تلك الوحدات.

وبالاستناد إلى قاعدة قانونية كهذه، يمكن أن يحكم المواطنون السوريون أنفسهم بأنفسهم في تلك المناطق (شرق سوريا وغربها) دون الارتطام بحواجز تغيير شكل الدولة أو حتى الوقوع تحت تأثيرات السياسة وتناقضاتها، ومعنى أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم ينصبُّ بصورة مباشرة على إدارة خدماتهم ومواردهم ووسائل إنتاجهم. أما الجانب الأمني فيضبطه التوافق الأميركي مع حلفاء واشنطن في الإقليم، دون أن يضطر الملايين من السوريين في المنطقتين إلى البقاء معلّقين بانتظار تطبيق قرار مجلس الأمن والشروع بالانتقال السياسي، وصولا إلى تعميم النموذج في المناطق التي يسيطر عليها الأسد.

الحلول الاقتصادية ستعيد إلى المنطقة الشرقية السورية دورها كقاطرة للحلول الاجتماعية والسياسية لاحقا، لكونها المنطقة الأكثر ثراء بالنفط والغاز والمياه والأراضي الزراعية. والرابط الاقتصادي الذي هو التفسير العملي لمعنى “العيش المشترك” قادر على تأمين مصالح سكّان المناطق السورية عبر التبادل التجاري وزيادة فرص العمل وإعادة الإعمار وإنعاش الصناعات الخفيفة والمتوسطة والزراعة والتزوّد بالكهرباء عبر سد الفرات، فهل سيجعل الاقتصاد من شبح تقسيم سوريا، عرقيا وطائفيا، والذي يلوح منذ سنوات، أقلّ خطرا، أم سيكرّسه كأمر واقع ونهائي؟

9