يانس شتولتنبرغ أمين عام الناتو صديق العدوّ والضمانة التي لا تحمي أوروبا

حين كتبنا في "العرب" عن ينس شتولتنبرغ في أبريل عام 2014 كان مفتاح تناولنا لشخصية أمين عام حلف الناتو يستند إلى ما اخترنا له تعبير "التفاوض مع الدببة"، ومنذ ذلك التاريخ وحتى هذه اللحظة، خاض الرجل مع حلف شمال الأطلسي مغامرة لم تكن في حسبانه، فمن كان يتوقع أن هذه المؤسسة التي شاخت حتى طالب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكبر أعضاء الناتو بانسحاب الولايات المتحدة منها، ستجد نفسها بمواجهة حرب روسية عنيفة لاحتلال بلد أوروبي على حدود الناتو؟
كانت مصالح الناتو حينها تدار عبر الاقتصاد، لإرساء سياسة تبريد الجبهات، وقد توقعنا أن تكون مرحلة شتولتنبرغ التي أريد لها أن تكون مرحلة تفاوض ودبلوماسية، مرحلة تصعيد من الروس، الذين يجدون الفرصة سانحة في ظل غياب الفلسفة العالمية التي تفرض نفوذ الأمم، واستبدالها بالقوة الناعمة.
الناتو بما يمثله ككيان يعدّ الأضخم في التاريخ، عسكريا وسياسيا، كان يمرّ بمنعطفات حادة، أوروبا تعاني من ملفات حارة هبّت رياحها عليها، ليس أولها الاقتصاد، وليس آخرها وباء كورونا الذي قلب الموازين، ولم يكن ينقصه سوى اختبار القوة الذي وضعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فيه.
وبعد أن كان منصب أمين عام حلف الناتو أشبه باستراحة ومكافأة نهاية خدمة للسياسيين المتقاعدين، أضحى اليوم وفي عهد شتولتبنرغ مأزقا حقيقيا لا يحسده أحد عليه. جاء الرجل من بلاده الباردة، النرويج، بعد أن كان رئيسا لوزرائها. استقال من منصبه عام 2013 لينتقل إلى مهمة ستكون أصعب ما يمكن أن يواجهه رجل الاقتصاد ورئيس حزب العمل ووزير المالية الأسبق.
ضد الناتو
سياسي كان لا يزال يعيش في عصر أوروبي منعّم، حين قرّر حصد أصوات الناخبين بالعمل، متنكّرا، كسائق لسيارة أجرة لمدة يوم واحد، لكي يكون قريبا من المواطنين كما قال. حينها ردّد شتولتنبرغ كلمات سيحاسبه عليها الأوروبيون اليوم "أردتُ من وراء ذلك معرفة مخاوف الناخبين الحقيقية".
فهل اقتصرت مخاوف الأوروبيين على ما فكّرت به نخبتهم السياسية؟ وهل كان يمكن لأحد أن يفكّر يوما بأن حرب غاز جديدة ستندلع بعد أن يقرّر بوتين تدمير رقعة الشطرنج التي يلاعبه عليها الساسة الأوروبيون؟
وكي تكتمل المفارقات، فإن شتولتنبرغ الذي كان معارضا شرسا لحلف الناتو، والذي خرج في مظاهرات مناوئة له ورشق السفارة الأميركية بالحجارة رفضا لهيمنتها ولقصفها لهايبونغ مطلع السبعينات، سيجد نفسه على رأس هذه المؤسسة بالذات، ليدرك بنفسه أهميتها وضرورة إنعاشها.
أمين عام الناتو وبينما يخوض نقاشاته حول احتواء الأوضاع المتفاقمة وحلحلة ملفات الحلف المتشابكة، تكاد روسيا تبتلع أوكرانيا، وتنتهي من تطوير منظومة "أس - 500" الجديدة القادرة على إسقاط مقاتلات "أف - 35"
لا يُعرف لماذا اختاره الناتو لرئاسته، إلا أن هذا الاختيار يكشف وبوضوح انفصال الحلف عن الواقع، وهو يعيّن سياسيا معارضا لمبادئ الحلف واستراتيجياته كلها، وللمفارقة أيضا كانت أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم جزءا من القصة آنذاك، استغلّها شتولتنبرغ ببراغماتيته المعهودة ليقول "إن الأحداث الأخيرة في أوكرانيا أظهرت أهمية الناتو". مضيفا "إن الناتو كان دوما صمام الأمان للدول الأعضاء على مدى عقود". فأي صمّام أمان شكّله الناتو من وقتها وحتى اليوم؟
شتولتنبرغ الذي يبدو خليطا من القوة والسياسة بحكم كونه ابنا لوزير دفاع أسبق من جهة، ومن جهة ثانية كانت والدته وزيرة للخارجية، ومع ذلك هو في مأزق اليوم. ليس بسبب كل ما سلف، بل لأنه واحد من بين أكثر السياسيين الأوروبيين قربا من روسيا، العدو القديم الجديد.
فالخبرة التي اكتسبها لم تكن في المجال العسكري كما يوحي منصبه، إنما في الحالة المعاكسة تماما، فهو الذي طرح نظرية للتفاوض في العلاقات الدولية، وفي ما يتعلق بروسيا كتبت عنه جريدة "افتينسوبستن" النرويجية إن "خبرة شتولتنبرغ والنرويج بصفتها جارة لروسيا ستكون بالتأكيد مفيدة في الملف الروسي". لكن طبيعة العلاقة التي يجب أن يقيمها الغرب مع روسيا تتقرّر في أماكن أخرى خارج هيئات حلف الأطلسي. وكتبت الصحافة الأوروبية حينها إن "طريقة تعيين شتولتنبرغ توحي بأن الناتو متجّه نحو التفاوض لا نحو التصعيد".
قبل أسابيع من ساعة الصفر التي قرّرها بوتين لغزو أوكرانيا، كان شتولتنبرغ يعقد اجتماعا حساسا استمر أربع ساعات متواصلة في مقر الحلف مع مساعد وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو. وحينها قال أمين عام الناتو إن هناك خلافات مع روسيا حول أوكرانيا وشرق أوروبا، وأضاف إنه سيكون من المستحيل لأعضاء الحلف، البالغ عددهم 30، الموافقة على "المطالب الجوهرية لموسكو المتعلقة بنظام أمن جديد في أوروبا" وهنا مكسر العصا.
موت دماغي
روسيا تريد تغيير النظام العالمي انطلاقا من تغيير أمن أوروبا التي يعتقد الروس أنها في توقيت متأخر عن توقيت موسكو. الناتو كان يريد ضم أوكرانيا إليه، كخطوة رخوة تشبه بقية خطوات الحلف، لكن روسيا لا تراها كذلك، بل تعتبرها غلطة الشاطر في علاقاتها الحساسة مع الغرب.
ولم ينفع شتولتنبرغ قوله وقتها إن أوكرانيا دولة ذات سيادة، ولها حق الدفاع عن نفسها، وأنها لا تمثل تهديدا لروسيا. ولا تصعيده اللفظي الذي لا يقيم له بوتين وزنا. أما مبعوثه إلى ذلك الاجتماع، غروشكو، فقد كان واضحا أكثر مما ينبغي ومع ذلك لم يفهم الناتو ولا أمينه العام الرسالة. ألم يكن كافيا تصريحه الذي قال فيه إن استمرار تدهور الوضع قد يؤدي إلى "العواقب الأكثر خطورة على الأمن الأوروبي والتي لا يمكن توقّعها؟".
سبعة عقود مرت على تأسيس الناتو، منذ العام 1949 بغرض ضمان الأمن الجماعي لأعضائه وفق خارطة ذلك الزمن التي كانت تتحسّب لمواجهة بين فكرين متناقضين، شيوعي ورأسمالي، وبين قطبين أعظمين، أميركا والاتحاد السوفييتي.
وقد تكفّل الآخرون، طيلة الحرب الباردة، بالقيام بمهام الناتو كاملة، فلم يحرّك جنديا واحدا قبل وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومعه الكتلة الشيوعية الشرقية. ولم يتحرّك الناتو قبل ذلك، والروس يعرفون هذا جيدا ويدركون معانيه. فقد كان تحرّكه الأول حين أرسل قواته إلى البلقان في التسعينات، ثم في أفغانستان وبرنامج الحرب المفتوحة على الإرهاب.
قوة الناتو ما تزال مكبّلة بإرث الحرب العالمية الثانية، وهناك من لا يسمح لهم الحلف بزيادة تسلّحهم، كما في حالة ألمانيا، التي كسرت الحرب الروسية على أوكرانيا ذلك القيد الذي كان مفروضا عليها
وحين توسّع الناتو باتت حدوده متاخمة لحدود روسيا على امتداد 1600 كيلومتر. لكن ومع ذلك، فقد بدت قاعدة 2 في المئة من الناتج المحلي التي فرضها أعضاء الحلف على أنفسهم لتصرف على الدفاع، أكثر هشاشة في ظل غياب التهديد، وزوال الخطر الأحمر القادم من الشرق.
سمع شتولتنبرغ هذه الكلمات التي قالت إن "الناتو يعاني من موت دماغي" بعدم اكتراث، وقائل هذه العبارة لم يكن بوتين، إنما كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه، الذي زاد أن الحلف يحتاج من أعضائه التوقف عن الحديث حول التمويل طوال الوقت، وبذل الكثير من الجهد للتعامل مع المشكلات الاستراتيجية العميقة التي يعاني منها الحلف.
أعضاء الناتو تفرّقهم السياسة ولا تجمعهم القوة العسكرية، ففرنسا ماكرون كانت تقضي الوقت بالجدل مع تركيا حول سوريا ودورها في ذلك البلد، معتبرة أن حملات تركيا العسكرية عبر الحدود السورية لم تكن بالتشاور مع الناتو.
في الوقت الذي تعتبر فيه تركيا نفسها في حالة حرب مع تنظيم حزب العمال الكردستاني الذي يصنفه الناتو إرهابيا وتدعمه أكبر دولة في الحلف، ما دفع بها نحو التقارب مع روسيا، وشراء منظومة الدفاع الجوي "أس - 400" منها، احتجاجا على عدم التناغم، من قبل أميركا وفرنسا، حول ذلك الملف الذي تعتبره تركيا تهديدا لأمنها القومي وللناتو ذاته.
لم تكن تركيا وحدها هي المشكلة في جدالات الناتو، بل ما اعتبره الكثير من أعضائه تفرّدا في القرار من الولايات المتحدة أيضا حول قضايا مختلفة، علاوة على ما وصفوه بـ"التهديد الروسي غير المشخص جيدا".
ولا أحد يعرف سرّ تقاعس أجهزة الناتو ودوله المتقدّمة عن تشخيص ذلك التهديد بشكل جيد ليجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام طائرات بوتين ودباباته. أما الأوروبيون فلم يعودوا يحسبون حسابا لميزانيات الناتو مثلما كانوا يفعلون في الماضي، فالحلف لا يحتكم اليوم إلا على قرابة العشرين ألف جندي، بينما كان قوام قواته يتجاوز 130 ألف مقاتل. أما مراكز القيادة التابعة له فكانت تتوزع على 33 مركزا، لتتقلّص إلى سبعة مراكز قيادة.
ولعلّ انشغال أوروبا باقتصاداتها الداخلية جعلها تنظر إلى الناتو كعبء أكثر منه حائط صدّ، وكمثال على ذلك تقدّر الوول ستريت جورنال أن تكلفة المنشأة العسكرية الواحدة للناتو تصل إلى 260 مليون دولار، وهو رقم قد لا يجد القادة الأوروبيون الشجاعة الكافية للمطالبة به في بلدانهم، في ظل تصاعد المطالب الخدمية ومشكلات اللاجئين والبطالة والطاقة وغيرها.
لا قوة بلا جيش موحّد
قوة الناتو ما تزال مكبّلة بإرث الحرب العالمية الثانية، وهناك من لا يسمح لهم الحلف بزيادة تسلّحهم، كما في حالة ألمانيا، التي كسرت الحرب الروسية على أوكرانيا ذلك القيد الذي كان مفروضا عليها، وهي آخذة في تعزيز قدراتها العسكرية باضطراد.
وكانت سابقا قد اقترحت إنشاء جيش أوروبي موحد كبديل لهيكل الناتو التقليدي. اقتراح أيدته فرنسا وتحفظت عليه الولايات المتحدة، فخروج جيش كهذا سيغيّر التوازنات. إضافة إلى ما وصف بـ"التكامل والاندماج" بين الوحدات العسكرية الأوروبية وأنظمة تسليحها، ما من شأنه أن ينتج جيشا ليس بمستوى التهديدات.
وقد نادى العديد من أعضاء الناتو باستقلال عسكري عن أميركا، على الأقل كي لا يكون الاعتماد عليها كليا، ما فهم منه المحللون الاستراتيجيون أزمة ثقة متبادلة، وزادوا بأن ما كشف عن ذلك هو سياسات واشنطن في عهد ترامب التي وضعت مصالح الولايات المتحدة فوق مصالح الشركاء في الناتو.
وبينما يخوض أمين عام الناتو نقاشاته عن احتواء الأزمة وجنس الملائكة تكاد روسيا تبتلع أوكرانيا، وتنتهي من تطوير منظومة "أس - 500" الجديدة التي جرّبتها في سوريا، وقلق الناتو من هذه المنظومة متأت من كونها قادرة على إسقاط مقاتلات "أف - 35".
أخيرا فإن على شتولتنبرغ والناتو الإصغاء جيّدا إلى نصائح الخبراء الذين عكفوا على دراسة مشكلات الناتو أكثر من أولئك الذين سوقوا الأوهام حوله، ومن بين تلك النصائح وأكثرها أهمية مناشداتهم الحلف بالتفكير بمعركة "راقية" مع روسيا، لا أقل من ذلك.