بكين تطور أنظمة ذكية لتجنب حرب تسعى واشنطن إليها

لا أحد يعلم، يقينا، ماذا يحاك خلف سور الصين العظيم.
الجمعة 2022/03/18
هل هذا يكفي لإثارة المخاوف؟

التقدم الذي حققته الصين في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، أو لم تحققه بعد، يثير مخاوف مراقبين يعتقدون بأن انقلابا جذريا يجري في ميزان القوة العسكرية، ويعيد إلى الأذهان تحذيرات أطلقها هنري كيسنجر بشأن مخاطر تحوّل التنافس “غير المقيّد” إلى حرب باردة جديدة.

طهاة آليون يعدون شطائر البرغر في المرافق الأولمبية وأسرّة ذكية تقيس الإحصاءات الحيوية للرياضيين، هذه ليست خدعا في فيلم خيال علمي؛ إنها “رموز لتفوق الصين السريع على الولايات المتحدة في نشر واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي”، وفقا لتقرير نشرته مجلة “ناشيونال إنترست” الأميركية المعنية بالعلاقات الدولية.

ما حققته الصين من تقدم في التكنولوجيا وتطبيقات الذكاء الاصطناعي خلال فترة قياسية أثار مخاوف مراقبين أميركيين تحدثوا عن انقلاب جذري في ميزان القوة العسكرية.

ونقل تقرير المجلة عن نيكولاس تشايلان، رئيس البرمجيات السابق في البنتاغون، تأكيده أن واشنطن لن تلحق بقدرات بكين في المجال السيبراني والذكاء الاصطناعي.

واضطر تشايلان، الذي قال إنه لا يستطيع الوقوف صامتا ليشاهد الصين تتفوق على الولايات والمتحدة، إلى تقديم استقالته، مؤكدا أن الأمر “قد حسم بالفعل”.

وإن كان هذا لا يكفي لإثارة المخاوف، يمكن الرجوع إلى صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، التي أعادت إلى الأذهان تحذيرات مشابهة أطلقها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، بشأن مخاطر تحوّل التنافس “غير المقيّد” في مجال الذكاء الصناعي إلى حرب باردة جديدة، واصفا المنافسة بين واشنطن وبكين بأنها “غير مسبوقة في التاريخ”.

ثعلب أميركا

نيكولاس تشايلان: واشنطن لن تلحق ببكين في مجال الذكاء الاصطناعي

الأمر الآن أكثر خطورة مما كان عليه في السابق؛ الأسلحة فائقة التكنولوجيا التي يمتلكها الجانبان قد تؤدي إلى صراع وصفه كيسنجر بالـ”خطير للغاية”.

قد يكون كيسنجر شخصية مكروهة من قبل كثيرين، يصفونه بمجرم حرب، ولكن هذا لا يقلل من خطورة توقعاته، ولا ينسينا تأثيره على أهم الأحداث في حقبة السبعينات من القرن الماضي.

الثعلب الأميركي الذي عرف عنه حدة الذكاء والقدرة الفائقة على المناورة، لم يقعده التقدم في العمر (98 عاما) عن متابعة آخر التطورات والمستجدات. وفاجأ العالم في نوفمبر 2021 بإصدار كتاب مشترك حمل عنوان “عصر الذكاء الاصطناعي: ومستقبل الإنسان” بالمشاركة مع كل من عميد كلية شوارزمان بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا دانييل هاتنلوكر والمدير التنفيذي السابق لغوغل إيريك شميث.

ما جمع الثلاثة هو إدراكهم بأن الإنسانية تقف على شفا لحظة ذات أهمية قصوى بطلها دون منازع الذكاء الاصطناعي.

على مدى أعوام أربعة، وردا على الأسلوب الذي انتهجه الرئيس السابق دونالد ترامب في مواجهة الصين والضغط عليها وشيطنتها وفرض العقوبات الاقتصادية والتكنولوجية على كبرى شركاتها، واظب كيسنجر على الدعوة إلى توخي الحذر في التعامل مع بكين، والكف عن محاولات عزلها، وبدء حوار معها لمنع “الانزلاق إلى حرب لا يعلم أحد كيف ستنتهي وماذا ستحقق”.

نقطة ضعف الولايات المتحدة في مواجهة الصين سببها “الجهل الأميركي” بما يجري خلف سور الصين العظيم؛ واشنطن لا تعلم طبيعة ومدى تفوق الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، وهذا بالنسبة إلى ملك الواقعية السياسية خطيئة يجب العمل على تجاوزها قبل اتخاذ أي قرار.

يقترح كيسنجر أن يكون هناك حوار متدرج من أجل وضع ضوابط للمنافسة تقيد التورط، ولو عن طريق الخطأ، في مواجهة عسكرية لا تؤمن عواقبها. حوار يفتح أبواب المعرفة حول مدى التفوق الصيني في مجال الذكاء الصناعي، ويحول دون اتخاذ قرارات خاطئة.

محاكاة الدماغ

هنري كيسنجر: يجب منع الانزلاق إلى حرب لا يعلم أحد كيف ستنتهي

طالما تفوقت الولايات المتحدة على الصين في مجال التكنولوجيا. وكانت في صدارة تطوير التكنولوجيات التي تشكل ضرورة أساسية للنمو الاقتصادي، وهيمنت على الجامعات البحثية والتعليم العالي على مستوى العالم.

حيث تقع ست عشرة من أفضل عشرين مؤسسة تعليمية في الولايات المتحدة، ولا توجد أي واحدة منها في الصين، باعتراف الصينيين أنفسهم.

الصين تستثمر بكثافة في البحث والتطوير، وهي تتنافس بالفعل مع الولايات المتحدة في مجالات رئيسة، خاصة الذكاء الاصطناعي، حيث تطمح إلى أن تكون صاحبة الريادة العالمية بحلول عام 2030.

ويعتقد بعض الخبراء أن الصين في وضع يسمح لها بتحقيق هذا الهدف، لما تملكه من موارد بيانات هائلة، وغياب أي قيود تتعلق بالخصوصية على كيفية استخدام هذه البيانات. إضافة إلى حقيقة مفادها أن التقدم في مجال التعلم الآلي يتطلب مهندسين مدربين أكثر من علماء متميزين.

وهذا يفسر قول جراهام أليسون، الخبير في مركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية، الذي أشار إلى أن العديد من المسؤولين الأميركيين راضون، بشكل مبالغ وبعيد عن الحقيقة، عن التفوق الغربي في التكنولوجيا.

بحسب مجلة “إيكونوميست” هناك أكثر من دليل على أن الصين ماشية بعزم لتحقيق التفوق في مجال الذكاء الاصطناعي على مثيلاتها من دول العالم.

وقالت المجلة البريطانية في تقرير لها إن الصين استخدمت نظام “وو داو” الذي يحاكي الدماغ البشري ويشكل قفزة في عالم التعلم الآلي، ويأتي النظام في قلب سياستها الهادفة إلى جعل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي جوهر خطتها التكنولوجية والاقتصادية التي أعلنتها أول مرة عام 2017، وهي الخطة التي أثارت قلق الحكومات الغربية بشأن الاستخدامات غير المشروعة لتقنية الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل المراقبة والحروب.

وفقا لمؤشر الذكاء الاصطناعي تنشر الصين روبوتات صناعية تعتمد التكنولوجيا الذكية أكثر من أي دولة أخرى في العالم

وتنشر الصين روبوتات صناعية تعتمد الذكاء الاصطناعي أكثر من أي دولة أخرى؛ وفقا لتقرير مؤشر الذكاء الاصطناعي الذي نشره معهد ستانفورد.

ولفتت الإيكونوميست إلى أن خطة بكين الرئيسة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وضعت جملة من الأهداف؛ من بينها الهيمنة على الصناعة الذكية في السنوات الخمس التالية وتحقيق مبيعات تصل إلى تريليون يوان.

واستعرض التقرير وسائل الحزب الحاكم في الصين لتحقيق الخطة؛ فقد أصدرت وزارة العلوم تعليمات لعمالقة التكنولوجيا في الصين الذين لديهم مشاريع قائمة في بعض التخصصات الفرعية للذكاء الاصطناعي، مثل شركة “تينسنت” المتخصصة في التعرف على الصور الطبية، و”بايدو” في القيادة الذاتية، تطالبهم فيها بمضاعفة الأبحاث.

وأظهر التقرير أن الدولة تستثمر في شركات الذكاء الاصطناعي بشكل مباشر؛ فتدير الحكومة المركزية العديد من أدوات الاستثمار التكنولوجي، وتعمل الحكومات المحلية بشكل متزايد على إنشاء شركاتها الخاصة، التي غالبا ما تكون مدعمة بالمليارات من الدولارات.

واليوم، يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه تكنولوجيا استراتيجية محورية “لتغيير قواعد اللعبة”.

خداع وتضليل

الصين

قد وُصفت سياسة الذكاء الاصطناعي الصينية في “خطة تنمية الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي” التي أصدرها مجلس الدولة الصيني عام 2017، وتهدف إلى استخدام ما يعرف باسم “الاندماج العسكري المدني”، بوصفه أحد “الواجبات الرئيسة” لتطوير الذكاء الاصطناعي. ويستخدم الاندماج العسكري المدني بوصفه نهجا لتطوير الذكاء الاصطناعي، بناء على إيمان الصين بأنها تستطيع أن تحقق نجاحا مذهلا يمكنها من التفوق على الولايات المتحدة.

وكما أوضح الرئيس الصيني شي جين بينغ، في تقرير عمل قدَّمه إلى المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي، في نسخته التاسعة عشرة، في أكتوبر 2017 “على الجيش الصيني أن يسرع في إدخال الذكاء في المجال العسكري، وتحسين قدرات العمليات المشتركة والقدرات القتالية في جميع المجالات؛ بناء على نظم المعلومات الشبكية”. ويعكس هذا التصريح إصرار جين بينغ على الارتقاء بمفهوم إدخال الذكاء باعتباره مبدأ توجيهيا للتحديث العسكري الصيني في المستقبل.

وتعزيزا لهذا الغرض، لفت تقرير حكومي دفاعي، صدر عام 2019؛ الانتباه إلى المشهد المتغيِّر للحروب الحديثة، مشيرا إلى أن “التطور الذي تشهده الحروب في الوقت الحالي يفتح المجال أمام وضع تطوير المعلومات، ما يدل على ارتفاع آفاق الحرب القائمة على استخدام تكنولوجيا الذكاء”.

رغم ذلك، لا أحد يعلم يقينا ماذا يجري داخل الصين، البلد الذي يفضل حكامه العيش دون لفت الانتباه. هناك من حين إلى آخر تصريحات تصدر عن مسؤولين في مراكز عليا، قد يكون القصد منها الخداع والتضليل.

الصينيون لم ينسوا حكمة سون تزو، رغم مرور 2500 عام عليها، حيث يقول: “كل الحروب تعتمد على الخداع. عندما نكون قادرين على الهجوم، يجب أن نبدو بموقف العاجز”. فهل يتذكر الأميركيون حكمة الثعلب هنري كيسنجر، الذي ما زال يعيش بينهم، ويجنبوا العالم الانزلاق إلى حرب “لا أحد يستطيع كسبها؟”.

12