"السرايا الصفرا".. قراءة متعقلة لعالم ساده الجنون

حكايات طبيب متقاعد ظل أربعين عاما يحرس العقول.
الأربعاء 2022/03/16
الجنون له خفاياه (لوحة للفنان بطرس المعري)

العلاقة بين علم النفس والأدب ليست جديدة بل هما متكاملان بشكل كبير، فمن رحم الأدب استلهم الأطباء النفسيون نظرياتهم، ومن علم النفس استفاد الأدباء في تركيب الشخصيات الأدبية التي ألفوها. واختار بعض الأطباء النفسيين أن يجمعوا بين شخصيتي الطبيب والكاتب، فألف بعضهم كتبا في الأدب وآخرون اختاروا كتابة المقالات ذات الصبغة الأدبية، كما هو حال الطبيب المصري محمد كامل الخولي الذي مثلت مقالاته محور كتاب جديد.

القاهرة - أربعون عاما قضاها الطبيب المصري محمد كامل الخولي بين جنبات مستشفى الأمراض النفسية بالعباسية، وبعد تقاعده في خمسينات القرن الماضي راح ينشر مقتطفات من يومياته مع المرضى في سلسلة مقالات، ربما لم تحظ بالقدر الكافي من الاهتمام والتحليل في حينها، إلى أن جاء الباحث والكاتب محمد الشماع ليكمل الصورة في كتاب “السرايا الصفرا” الذي أعاد صياغة المقالات في شكل كتاب متكامل.

وينقسم الكتاب، الصادر عن دار المصري للنشر والتوزيع، إلى ثلاثة فصول مع ملحق للصور من 25 صفحة، وهو الرابع في مشوار مؤلفه الذي يعمل في مؤسسة “أخبار اليوم” الصحفية ويكتب في عدد من الصحف والمواقع المصرية والعربية إضافة إلى إسهامه في صنع الأفلام الوثائقية وكتابة السيناريو.

مذكرات وتواريخ

الكتاب يتضمن جهدا بحثيا واستقصائيا عمل خلاله المؤلف على الربط بين حكايات الخولي وسياقها التاريخي والاجتماعي

ينطلق كتاب “السرايا الصفرا” من عنوان “المذكرات”، وهو عبارة عن إعادة نشر لسلسلة المقالات التي كتبها الدكتور الخولي بمجلة “المصور” في الفترة من يناير إلى أبريل عام 1954 تحت عنوان “40 عاما في حراسة أصحاب العقول” والتي تتسم بالغرابة والطرافة وصيغت بلغة سلسة للغاية بعيدا عن أي تعقيدات علمية أو مصطلحات غامضة حتى يكاد القارئ يظن أن كاتب هذه اليوميات ليس طبيبا بالأساس.

اليوميات محررة بشكل مدهش يجعلها تبدو مثل مغامرات القط والفأر الشهيرين في مسلسلات الكارتون، والقط هنا بالتأكيد هو الطبيب النفسي الذي كان يصبر ويراوغ ويهاجم البعض ممن ادعوا الجنون حتى يكشفهم، لكنه يتحول أحيانا إلى ضحية للمقالب التي يدبرها له المرضى فتوقعه في مواقف غاية في الإحراج.

وربما من أكثر الحكايات إثارة في هذه المقالات هي الحكايات التي وردت عن أفراد من العائلة العلوية التي حكمت مصر على مدى قرن ونصف القرن من الزمان، من بينهم الملك فاروق الذي كون الطبيب النفسي المخضرم رأيا عن حالته النفسية بعد لقاء شخصي جمع بينهما في الإسكندرية عام 1938.

ورغم تركيز اليوميات على نزلاء مستشفى الأمراض النفسية وحكاياتهم وكواليس ما كان بين جدران المستشفى، فإنها لا تخلو من الذاتية حيث تحدث الخولي في جزء منها عن حياته الشخصية ونشأته وكيفية التحاقه بكلية الطب ثم سفره للدراسة بالخارج وعودته وانضمامه إلى العمل في المستشفى عام 1916 حتى أصبح مديره وتقاعده في أواخر عام 1953، وهي إضافة مهمة لقلة ما نشر عنه في الإعلام.

الفصل الثاني من الكتاب يأتي بعنوان “حكايات تاريخية على الهامش” ويتضمن جهدا بحثيا واستقصائيا كبيرا عمل خلاله المؤلف على الربط بين حكايات الخولي والسياق التاريخي والاجتماعي لهذه الحكايات التي ارتبط بعضها بجرائم شهيرة مثل اغتيال وزير المالية الأسبق أمين عثمان عام 1946 ومحاولة اغتيال الزعيم الوطني سعد زغلول عام 1924، وتم عرض مرتكبيها على الطب النفسي.

كما تضمن هذا الفصل معلومات موثوقة عن نشأة وتطور مستشفيات الأمراض النفسية في مصر وتحديدا مستشفى العباسية الذي درج عامة الناس على تسميته “السرايا الصفرا” اشتقاقا من لون المبنى الذي كان في الأساس أحد قصور العائلة العلوية ومطليا باللون الأحمر قبل تحويله عام 1883 إلى مستشفى وطلائه باللون الأصفر.

ومن مواقف مختلفة جمعت الدكتور الخولي بالأطباء الإنجليز الذين كانوا يهيمنون على إدارة المنشآت الطبية في مصر لفترة طويلة، ينطلق مؤلف الكتاب للتحدث بشكل أوسع عن عمل الأطباء الأجانب في مصر والأثر الذي أحدثوه، مع إدراج نماذج مشرقة لأطباء مصريين استطاعوا التفوق على أقرانهم الأجانب مهنيا وأخلاقيا.

قراءة متأنية

اليوميات تتسم بالغرابة والطرافة وصيغت بلغة سلسة للغاية بعيدا عن أي تعقيدات علمية أو مصطلحات غامضة
اليوميات تتسم بالغرابة والطرافة وصيغت بلغة سلسة للغاية بعيدا عن أي تعقيدات علمية أو مصطلحات غامضة

يختتم محمد الشماع كتابه بفصل عنونه بـ”نحو ثقافة نفسية عامة” ويتضمن جهدا بحثيا كبيرا من المؤلف الذي من الواضح أنه قرأ الكثير من كتب الطب النفسي استعدادا لإصدار هذا الكتاب واستعان بالكثير من المقالات العلمية والدوريات الطبية لتناول المصطلحات الطبية القليلة التي ذكرها الخولي في مقالاته مثل البارانويا والسيكوباتية والشيزوفرينيا.

كما يتناول بشيء من الاستطراد الكتاب الذي أصدره الخولي بعنوان “الطب النفسي الشرعي” والذي يعتبرا مرجعا عربيا نادرا في الربط بين الطب النفسي والقضاء حين يكون التقرير الطبي للحالة النفسية والعقلية للمتهم هو الفيصل في تحديد مصيره إما بتحمّل مسؤوليته عن أفعاله ومواجهة العقاب أو عدم أهليته واستحقاقه العلاج.

كتاب “السرايا الصفرا” وإن كان في ظاهره إعادة اكتشاف لأحد الكنوز الصحفية المطمورة فهو يمثل في جوهره قراءة متأنية لفترة ليست بقصيرة من تاريخ الطب النفسي في مصر ويطرح تفسيرات وتأويلات جديرة بالدراسة عن ارتباط الأمراض النفسية بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية داخل البلد، خاصة في أوقات الحروب والأزمات.

12