بعيداً عن الحرب

في المطحنة العالمية الدائرة حالياً لا يكاد المرء يجد صوتاً عاقلاً بين الأصوات يدعو إلى التفكّر في انعكاسات ما يجري على الوعي العام، وعي جيل الألفية، الذي بات يشكل النسبة الأكبر من كل ما حولنا، حتى حين تتابع الأخبار، ستجد الشباب يقدمون النشرات، والخبراء الشباب يتحدثون. وتتساءل ما الذي حلّ بأولئك الكهول والمخضرمين من أصحاب التجارب خلال الأعوام الماضية؟ وأين ذهبت تحليلاتهم؟
العالم قديم، وصراعاته قديمة مثله، لكنّ الفاعلين فيها حالياً لا يعرفون كيف كان شكل الكوكب أيام الحرب الباردة، لم يذوقوا طعمها إلا من خلال الكتب والأفلام السينمائية والوثائقية، وسيل المعلومات يتدفق بقوة هذه المرة، وفي الأثناء، نسي البشر قصة كوفيد وأجياله، وقواعد الألعاب كلها. وما يجري ضخه كل جزء من الثانية حول العالم، ستظهر آثاره سريعاً.
تستوقفني التكنولوجيا، وتفاعل شركاتها العملاقة مع الحدث، لنقرأ ما قالته شركة أبل في بيانها الصادر بشأن إجراءاتها الأخيرة. تقول التفاحة الذهبية “نشعر بقلق بالغ إزاء الغزو الروسي لأوكرانيا ونقف إلى جانب كل الناس الذين يعانون نتيجة العنف”. أوقفت جميع مبيعاتها في روسيا، لكنها "عطّلت" أيضاً "حركة المرور والحوادث الحية في خرائط أبل في أوكرانيا حتى لا يتم الاعتماد عليها في تعريض حياة المواطنين للخطر".
مثل هذه اللغة يفهمها جيل الألفية جيداً، أكثر من قصة العقوبات الاقتصادية والسويفت إياه، فالعالم مكشوف تماماً بفضل خرائط ”غوغل“ على سبيل المثال، حتى دون الاعتماد على الأقمار الصناعية الخاصة بكل بلد، سواء كان معتدياً أو معتدى عليه.
حجم الغزو التكنولوجي لحياتنا أكبر بكثير من أيّ غزو يمكن أن يشنه أيّ جيش مهما كان حجمه وقدراته. مايكروسوفت بدورها دخلت الحرب، دون صواريخ ولا ناتو ولا من يحزنون، معلنة أنها “ستواصل الكشف عن الهجمات الإلكترونية التي تستهدف البنية التحتية الرقمية للبلاد وتقديم المشورة عن تلك الهجمات للحكومة الأوكرانية“. حتى سناب شات كشّرت عن أنيابها وحرمت الروس والبيلاروس من الإعلانات. ولكن.. ولكن التطبيق حسبما قالت الشركة سيبقى متاحاً في روسيا وروسيا البيضاء ومبرر ذلك أنه على حد قول مفكري سناب شات ”يظل أداة اتصال مهمة للعائلة والأصدقاء”.
ما الذي سيتعطل فوق ذلك كي نعرف كم كانت الحياة شفافة أمام الجميع، بما لا يتيح الفرصة لأحد ليجرّ الزمن إلى الوراء؟. تويتر وفيسبوك انضمتا بالطبع، لكن انظروا كم تغيرت أدوات الصراع والإجراءات العقابية تصيب الأفراد أولاً الذين اندمجت حياتهم كلياً مع هذه التطبيقات، بحيث أنهم قد يتقبلون الضرائب والتدهور الاقتصادي، إلا أنهم قد ينفجرون غضباً لو غيّرت لهم نمط حياتهم الخاص الذي خلقه الزمن الجديد. فأين شيوخ المحللين الذين يذكّروننا بمعركة ستالين غراد وواترلو وغيرها من ذلك كله؟