سنوات الجنون الباريسي جمعت أشهر الكتاب العالميين

"شكسبير ورفاقه" كتاب للجميع كُتّابا وقرّاء وناشرين وأصحاب مكتبات.
السبت 2022/02/19
سيرة حياة مكتبة وبائعة كتب وقارئة عادية

لا اختلاف على أن العاصمة الفرنسية باريس شهدت أوج الحراك الأدبي والفني والثقافي على مستوى عالمي مطلع القرن العشرين، وساهمت في خلق حركات فنية وأدبية وفكرية ما زال تأثيرها مستمرا إلى اليوم. ولفهم خفايا باريس الثقافية وخاصة عوالم الكتّاب الذين استقروا بها لفترة من الزمن يأتي كتاب “شكسبير ورفاقه” كمذكرات لجيل كامل.

يصور كتاب “شكسبير ورفاقه” للكاتبة والمترجمة سيلفيا بيتش تجليات المشهد الإبداعي عامة والروائي العالمي خاصة في حقبة التوهج والانطلاق في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين بباريس، ليشكل مرآة لتلك الحقبة بكل أعلامها الأدبية والفنية، وناشريها، ودورياتها، ومجلاتها.

 ويكشف الكتاب عن قصص لم تكن معروفة عن  كتاب مهمين هم: جيمس جويس، أندريه جيد، إرنست هيمِنجواي، بول فاليري، جيرترود شتاين، سكوت فيتزجيرالد، دي إتش لورنس، فاليري لاربو، ليون بول فارْج، جولز رومينز، أندريه موروا، بول إلوار.

سنوات الجنون

الكتاب تصوير لمطلع القرن العشرين ويركز على عقد العشرينات الذي أُطلق عليه بالفرنسية مصطلح "سنوات الجنون"

يشير المترجم رياض حمادي في تقديمه للكتاب الصادر أخيرا عن دار ترياق للترجمة والنشر إلى أن سيلفيا بيتش نشرت مذكراتها “شكسبير ورفاقه” في عام 1959، بدأتها بطفولتها في أميركا وأنهتها بتحرير باريس في الحرب العالمية الثانية.

ويضيف “اللحظة التي دلفت فيها سيلفيا بيتش مكتبة أدريان مونييه غيَّرت حياتها، وستغير في ما بعد حياة الكثير من الكُتاب الواعدين الذين أصبحوا لاحقا نجوما في سماء الأدب. من هنا يمكن أن نقرأ هذا الكتاب كسيرة للقدر وهو يرتب الصدف واحدة تلو الأخرى، بداية من سكن الكاتبة في شارع يدعى ‘المكتبة’ ثم لقاؤها في باريس بناشرة وصاحبة متجر لبيع الكتب، هي أدريان مونييه، إلى غيرها من الصدف التي رتبت قدرها وأقدار الذين أحاطوا بها، وعلى رأس تلك الصدف مغامرتها الكبرى في نشر يوليسيس”.

ويتابع “لو اخترنا لهذا الكتاب عنوانا آخر لكان ‘سيرة حياة مكتبة‘ فهو يصف مضمون الكتاب بشكل أدق. وبأنسنة المكتبة، يمكن أن نتخيلها وهي تروي وقائع افتتاحها منذ أول خطوة أقدمت عليها صاحبتها في عام 1919. وثمة عناوين فرعية تنافس المكتبة على الصدارة، مثل: سيرة حياة رواية، وسيرة حياة عصر، وأعني بالرواية يوليسيس أو عوليس، التي تتربع، وصاحبها جيمس جويس، على مسرح السرد ليكون هذا الكتاب بحق سيرة حياة رواية يوليسيس ومخاض نشرها وما صاحب ذلك من عقبات ومعارك”.

ويرى حمادي أن الكتاب تصوير لعشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وفيه تركيز على عقد العشرينات الذي أُطلق عليه بالفرنسية مصطلح “سنوات الجنون”، وهو مصطلح يصف الازدهار الفني والثقافي في تلك الفترة التي يشار إليها في الولايات المتحدة باسم “العشرينات الصاخبة” أو “عصر الجاز”. وقد تميزت “سنوات الجنون” هذه في مونبارناس، بمشهد فني وأدبي مزدهر تَركَّز على المقاهي والصالونات.

كانت مونمارتر مركزا رئيسيا للحياة الليلية في باريس واشتهرت بالمقاهي وقاعات الرقص منذ تسعينات القرن التاسع عشر. وكانت الضفة اليسرى لنهر السين في باريس مهتمة في المقام الأول بالفنون والعلوم. واستقر فيها العديد من الفنانين وترددوا على الملاهي الليلية والحانات الكبيرة في مونبارناس. والتقى الكتاب الأميركيون من “الجيل الضائع”، مثل ف. سكوت فيتزجيرالد وإرنست هيمِنجواي، واختلطوا في باريس بمنفيين من الدكتاتوريات في إسبانيا ويوغوسلافيا. وبعد الحرب العالمية الأولى، اخترع الفنانون، الذين كانوا يقطنون الحانات والملاهي الليلية في مونمارتر، “ما بعد الانطباعية” خلال الحقبة الممتدة من 1880 حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، في 1914.

 اتسمت تلك الفترة، عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة، بالتفاؤل والسلام والازدهار الاقتصادي والتوسع الاستعماري والابتكارات التكنولوجية والعلمية والثقافية. وفي هذا العصر من المناخ الثقافي والفني في فرنسا (لاسيما داخل باريس)، ازدهرت الفنون بشكل ملحوظ، واكتسب العديد من روائع الأدب والموسيقى والمسرح والفنون المرئية اعترافا واسعا.

وفي مقدمة المشهد الثقافي ظهرت السوريالية وجلبت أشكالا جديدة من التعبير إلى الشعر مع مؤلفين مثل أندريه بريتون، ولويس أراجون، وبول إيلوار، وروبرت ديسنوس. وأنشأ الفنانون “المهاجرون” ما بعد الانطباعية، والتكعيبية، في باريس قبل الحرب العالمية الأولى، وشملوا: بابلو بيكاسو، ومارك شاجال، وأميديو موديلياني، وبيت موندريان، جنبا إلى جنب مع الفنانين الفرنسيين بيير بونارد، وهنري ماتيس، وجان ميتزينجر، وألبرت جليز.

حقبة ذهبية توهجت فيها جل الأعمال الأدبية
حقبة ذهبية توهجت فيها جل الأعمال الأدبية

ويكشف أنه في عشرينات القرن الماضي، تأثرت الحياة الليلية الباريسية بشكل كبير بالثقافة الأميركية. فاستوردت فرنسا موسيقى الجاز والتشارلستون ورقصة الشيمي، فضلا عن رقص الكباريه والنوادي الليلية، وقُدِّمت عروض ونجوم مسرح برودواي بوصفها ابتكارات للنخبة. كان هذا هو الحال في عام 1925 حين رقصت جوزفين بيكر التشارلستون في مسرح الشانزليزيه، شبه عارية، وبإيماءات مثيرة على موسيقى سيدني بيشيت. كما شهدت العشرينات تجديدا في الباليه وازدهارا للموسيقى والسينما والمسرح والموضة، وأدى انهيار وول ستريت في عام 1929 إلى إنهاء عصر الوفرة.

ويلاحظ حمادي أن سيلفيا تقدم صورة عن المرأة في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين ودورها في رعاية الأدب والأدباء. ويقول “نجد في الكتاب أسماء عديدة لنساء عملن في مجال نشر وبيع الكتب وتحرير المجلات الأدبية، ما يعطي صورة عن دور المرأة وتضحياتها في تلك الحقبة، يمكن أن نُعدها سيرة غير مباشرة للنساء في الشأن الثقافي. تكشف بيتش عن تأثيرها في الدوائر الأدبية في أوروبا وأميركا، وإسهامها في تشكيل المشهد الأدبي في عصرها. كانت بيتش ومكتبتها حلقة وصل بين فرنسا وأميركا وعملت على تعريف الفرنسيين بالكتاب الأميركيين، بخاصة الجدد منهم.

وكانت مكتبة شِكسبير ورفاقه بمثابة سفارة لكُتاب الولايات المتحدة، وجسرا للتواصل الثقافي بين أربعة بلدان”. قال أندريه تشامسون إن بيتش “فعلت لربط إنجلترا والولايات المتحدة وأيرلندا وفرنسا أكثر مما فعله أربعة سفراء عظماء مجتمعين”.

ويلفت إلى أن المكتبة لم تكن متجرا لبيع وإعارة الكتب فحسب، بل كانت مؤسسة ثقافية، ومكانا يلتقي فيه الغرباء لأول مرة، ثم تربطهم بعد ذلك صداقات تستمر إلى الأبد. إن أهم ما لفت نظره في هذه السيرة هي روح التعاون والحب بين سيلفيا وأدريان ثم بينهما وبين بقية الكُتاب، ودورهما في تقريب الكُتاب ببعضهم بعضا، مثلما فعلتا مع سكوت فيتزجيرالد وجويس، وغيرهما، كما ستعرف. هذا الكتاب قصة عن التضامن بين الكُتاب في وقت كانت تُقمع فيه بعض الكتب، وفي مقدمتها رواية يوليسيس، التي قال عنها صاحبها أثناء حظرها “إذا لم تكن يوليسيس جديرة بالقراءة، فالحياة غير جديرة بالعيش”.

أكثر من مكتبة

Thumbnail

يؤكد حمادي أن الكتاب كتاب للجميع كُتابا وقراء وناشرين وأصحاب مكتبات؛ ففيه من الدروس ما يفيد الجميع، وعلى رأس هذه الدروس أن الزمن الجميل لا يصنعه الزمن، بل أهله. تعرض بيتش في هذا الكتاب كثيرا من القضايا المتعلقة بالنشر وهمومه، الكثير منها لا تزال هي نفسها هموم ناشر اليوم، مثل قرصنة الكتب والرقابة والحظر.

وفي سياق حديثها عن عملية طباعة يوليسيس توجه نصيحتها للناشرين “الحقيقيين” بألا يتخذوها قدوة؛ نظرا إلى أن عملية إعداد بروفات الطباعة كانت مضنية، ولو حدث هذا مع كل كِتاب فستتوقف حركة النشر، فهذه عملية لا ينبغي أن تتكرر، بحسب بيتش؛ لأن الجهود والتضحيات التي بذلتها تتناسب مع عظمة العمل الذي نشرته. وبرغم هذا التوجيه النبيل يمكن للكُتاب والناشرين اليوم أن يتعلموا الكثير من تجربة بيتش ومن روح عصرها الذي سادت فيه المحبة والعمل الجماعي والتفاني وإنكار الذات وتوارت فيه المصالح المادية والفردية.

وفي ما يتعلق بسيلفيا بيتش يرى مترجم الكتاب أنها لم تكن بائعة كتب عادية، بالمعنى التجاري للكلمة، حيث تميزت كتبها بالجودة وعكست ذائقتها الرفيعة. وهي لا تدعي أنها كاتبة، وتصف نفسها في مذكراتها هذه بأنها “قارئة عادية”، مع ذلك يعكس كتابها صورة صادقة للكتابة، وصورة امرأة متواضعة وصبورة ومخلصة ومثابرة ولديها روح دعابة. كما يكشف ملاحظاتها النقدية الحصيفة؛ حيث نجد إشارات نقدية إلى العديد من الكتب، هي مزيج بين اللغة الانطباعية والنظرة النقدية الثاقبة على الأدب والفن التشكيلي والتصوير، وتقديرها للشخصيات التي خصتها بملاحظاتها المكثفة.

الكاتبة تسرد سيرة حياة رواية يوليسيس وما صاحب نشرها من عقبات، وسيرة مكتبة جمعت أهم كتاب أميركا وفرنسا

 إن إنكار سيلفيا بيتش لذاتها وإخلاصها وتفانيها من أجل نشر الثقافة، انعكس على كتابها هذا، بداية من اختيارها للعنوان، فهي لم تختر هذا العنوان ليكون عتبة للكتابة عن نفسها، وإنما للكتابة عن المكتبة، وعن الكُتاب الذين كانت علاقتها بهم أكثر من مجرد علاقة كُتاب ببائعة كتب.

ويشير إلى أنه بعد خروج سيلفيا بيتش من المعتقل لم تساعدها صحتها في إعادة افتتاح المكتبة. ظلت الراية منكسة عشر سنوات إلى أن افتتح جورج ويتمان متجرا لبيع الكتب باللغة الإنجليزية، عام 1951، سمّاه “لو ميسترال”، يقع أيضا في الضفة اليسرى لنهر السين. وفي عام 1958، أثناء تناولهما الطعام في حفلة على شرف جيمس جونز، الذي وصل حديثا إلى باريس، سلَّمت بيتش الشعلة لجورج ويتمان، متنازلة له عن اسم “شِكسبير ورفاقه” ليكون اسما لمكتبته.

وبعد وفاة بيتش، وفي الذكرى الأربعمئة لميلاد ويليام شِكسبير، أعاد ويتمان تسمية متجره ووصَفه بأنه “رواية من ثلاث كلمات”. سار ويتمان على خطى بيتش، وأطلق على مشروعه المغامر “المدينة الفاضلة الاشتراكية المتخفية في هيئة متجر للكتب”، وعندما رُزق بابنته الوحيدة أسماها سيلفيا تيمنا بسيلفيا بيتش.

وفي التاسع عشر من نوفمبر 2021 بلغت مكتبة “شِكسبير ورفاقه” مئة وعامين، إذا أسقطنا من الحساب سنوات التوقف الأولى خلال الحرب العالمية الثانية، ونظرنا إلى “لوميسترال” كامتداد لشِكسبير ورفاقه. والحق أن المكتبة تسير بالروح نفسها، فما زالت تعمل إلى يومنا هذا، كمتجر لبيع الكتب الجديدة والمستعملة والأثرية، وكمكتبة عامة للقراءة المجانية. كما تستضيف الكُتاب والفنانين الواعدين. فمنذ افتتاح المتجر، عام 1951، نام أكثر من ثلاثين ألف شخص على الأَسرة المطوية بين أرفف الكتب وأروقة المكتبة. يحثها على ذلك الشعار المكتوب عند مدخل مكتبة القراءة “لا تكن فظا إزاء الغرباء فلعلهم ملائكة متخفون”.

ويلفت حمادي إلى أن المتجر الحالي يتألف من ثلاثة طوابق، وهو عبارة عن مزيج غريب يجمع بين المنزل المفتوح والمجتمع الأدبي. استمر ويتمان لعقود من الزمن في تقديم الطعام والأَسرة المؤقتة للروائيين الشباب الواعدين وللكُتاب الرُّحل، وكان يسمح لهم غالبا بقضاء ليلة أو أسبوع أو حتى أشهر بين الأرفف المزدحمة، مقابل قراءة كتاب كل يوم، وكتابة ملخص من صفحة واحدة من أجل أرشيف المكتبة.

وبعد ستين عاما من رعايته للكُتاب والفنانين توفي جورج ويتمان في شقته، فوق المتجر، عن عمر يناهز الثمانية والتسعين عاما. قالت عنه ابنته “كان أكثر من موزع كتب، كان يرى نفسه راعيا لملاذ أدبي، خاصة في السنوات العجاف التي تلت الحرب العالمية الثانية”. وكما عبر هو عن نفسه قائلا “أنشأتُ متجرا لبيع الكتب؛ لأن تجارة الكتب هي تجارة للحياة”.

الكاتبة تقدم صورة عن المرأة في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين ودورها في رعاية الأدب والأدباء

ويذكر أن المكتبة كانت ملاذا لحوالي عشرين من زبائنها خلال هجمات نوفمبر 2015 في باريس. وهذه الواقعة تُذكرنا بأخرى سابقة يرويها الكاتب كريستوفر كوك غيلمور عن لقائه الأول بويتمان في إحدى ليالي تظاهرات 1968 الطلابية في باريس، بينما كان يبحث عن مخبأ من شرطة مكافحة الشغب.

يقول “كنتُ هاربا من الموت، ولما كانت كل أبواب المتاجر مغلقة، أملت في الوصول إلى نهر السين لأقفز فيه. وفجأة رأيتُ ضوءا في تلك المكتبة القديمة، وخلف المكتب يجلس رجل عجوز. ركضت إلى الداخل، ونظرتُ إليه وقلت: شرطة مكافحة الشغب، صاح: اصعد الدرج. أطفأ الأنوار وأوصد الباب، وركضنا معا على الدرج. ورأينا رجال الشرطة في الخارج وهم يصرخون ويرمون الحجارة. أمسك العجوز ذراعي وقال: أليست هذه أعظم لحظة في حياتك؟”.

ويختم حمادي بأن المكتبة حضرت في صورتها الحالية في فيلم “قبل الغروب”، وفيلم “جولي وجوليا”، وفيلم “منتصف الليل في باريس”. واستغرب كيف لم يتحول هذا الكتاب لفيلم سينمائي عن سيلفيا بيتش والعصر الذي تتحدث عنه.

جدير بالتنويه أن متاجر “شِكسبير وشركاؤه” الأربعة، التي افتتحت في نيويورك عام 1981، لا تتبع لمتجر باريس الذي مر بثلاث محطات: الافتتاح الأول، عام 1919، وتقع في 8 شارع دوبويترين، قبل الانتقال عام 1922 إلى مبنى أكبر في 12 شارع أوديون، في الدائرة السادسة. ثم أُجبرت على الإغلاق من قبل الألمان، في ديسمبر 1941، خلال الحرب العالمية الثانية. وتقع المكتبة الحالية في “37 رو دي لا بوشيري”. ومع تفشي فايروس كورونا أطلقتْ “شِكسبير ورفاقه” صرخة استغاثة.

13