هدايا مسمومة يحبها الفقراء

السماح بتجارة الملابس المستعملة كارثة بيئية ومنعها يتسبب في كوارث إنسانية.. وتطرح أسئلة كونية سوف نظل ندور في فلكها إن لم تفكر البشرية جمعاء في إيجاد الحلول الناجعة لها
السبت 2022/02/12
معضلة قد لا ينتبه إليها بسطاء الناس

“افرز والبس” عبارة مقتضبة كان، ولا يزال، ينادي بها الباعة على بضاعتهم من الملابس المستعملة في الأسواق الشعبية المكتظة بذوي الدخل المحدود.

كل ما تغير اليوم هو أن الباعة لم يعودوا في حاجة إلى إعلاء أصواتهم وإجهاد أنفسهم أكثر من اللازم، فالزبائن، ومن طبقات اجتماعية مختلفة، يقصدونهم بشكل منتظم بل يبحثون عنهم في أسواق ومحلات متخصصة.. يفرزون ما يروق لهم من ثياب على مختلف الأذواق والمقاسات، ومن ثم يلبسون، وبأسعار متفاوتة، لكنها تبقى في المتناول، مقارنة بالملابس المستوردة ذات الأسعار المشطة أو المصنعة محليا، فاقدة الجودة والإتقان.

أمام سوء الأوضاع المعيشية وتراجع القيمة الشرائية، تبقى الملابس المستعملة، على مختلف تسمياتها في البلدان الفقيرة، هي الوجهة المثلى لكل ذوي الدخل المحدود في ظل الأزمات المتعاقبة.

إنها “نعمة ورحمة” على حد تعبير الجميع، لكنها “نقمة ولعنة” لدى فئة أصحاب المتاجر الذين باتوا يعانون الكساد في تجارتهم والصعوبة في تسديد فواتيرهم، مما جعل قسما كبيرا منهم يجاري التيار ويتخلى عن واجهات عرض الملابس المصنعة محليا ليعوضها بمصاطب الملابس المستعملة، ويريح رأسه من عبثية مقاومة تيار جارف.

وفي هذا السياق، لا ينبغي أن ننكر بأن هذه المهنة وفرت الآلاف من فرص العمل لمواطنين عانوا شبح البطالة ردحا من الزمن، فضلا عن كون الملابس المستعملة هي الوجهة المفضلة لدى الفئات العريضة من المجتمع.

ولعل تونس تعد النموذج الأبرز عربيا، وحتى دوليا، لتنامي هذه السوق من حيث مسالك التوريد والتوزيع، إذ تشير وزارة التجارة إلى أنّ السوق التونسية تُزوَد سنويا بأكثر من 10 آلاف طن من الملابس المستعملة، من بين 80 ألف طن تدخل إلى البلاد سنويا، يذهب أغلبها إلى التصدير إلى دول أفريقية وأوروبية.

كما تفيد الوزارة أنّ 90 في المئة من التونسيين يقبلون على شراء الملابس المستعملة، فيما يوجد في تونس 54 مصنعا لفرز تلك الملابس.

هل أن الملابس المستعملة بمثابة الهدايا المسمومة إذا ما علمنا هول الكوارث البيئية التي تسببها أم أنها نوع من أنواع "المعالجة الكيمياوية" التي لا بد منها في مجابهة "سرطانات الفقر والخصاصة"؟

ويهدد العاملون في هذا القطاع بإضراب عام، كلما حاولت الجهات المسؤولة عن “خطة ترشيد” من شأنها أن تعصف بقوت هؤلاء أو تهدد المواطن في كسائه الذي رضي به مستعملا، على أن “نتجول في الشوارع مثل الطرزانات” كما قال أحد المواطنين.

أما في ما يتعلق بالجانب الصحي والبيئي الذي “لا يهتم له الناس كثيرا وللأسف الشديد” كما قال أحد الخبراء العاملين في شؤون البيئة، فإن أصحاب محطات الاستقبال والفرز للملابس المستعملة القادمة إلى تونس، يؤكدون أنهم لا يستقبلون أيّ كمية ما لم تكن مرفقة بشهادة تثبت خلوها من أي جراثيم، إذ تتعرض تلك الملابس إلى التعقيم بواسطة غاز يقضي كليا على الفايروسات ويمنع الأمراض المنقولة.

هذا على مدى المنظور القريب بالنسبة إلى واجب الدولة في حماية مواطنيها مما يمكن أن يتسرب من أمراض جرثومية عبر ما هو ألصق بأجسامهم، شأنها في ذلك شأن المواد الغذائية، لكن ماذا عن الأضرار التي تسببها هذه الملابس المستعملة على البيئة ككل؟

ما تفيده التقارير الدولية المتعلقة هو أن صناعة الملابس تسهم بنحو 10 في المئة من الإجمالي العالمي لانبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وتستهلك نحو 20 في المئة من مياه الصرف عالميا، وتستهلك كمية من الطاقة تفوق ما يستهلكه قطاعا الطيران والنقل البحري معا.

وتضيف الأبحاث أن طريقة استخدام المستهلكين لملابسهم لها أيضا بصمة بيئية كبيرة بسبب كمية الماء والطاقة والمواد الكيميائية المستخدمة في الغسيل والتجفيف والكي، إضافة إلى الجسيمات البلاستيكية التي تنتشر في البيئة، علما أنه لا يعاد تدوير أكثر من واحد في المئة فقط لتصنيع ملابس جديدة.

يُفهم من خلال ما سبق ذكره أن البلاد الفقيرة المستقدمة لهذه الملابس، تمثل هي بدورها مكبّات لنفايات سامة، لكنها “محمودة” بالنسبة إلى مستعمليها والعاملين فيها.

وهنا يبرز السؤال الأخلاقي الأهم حول سوق تجارية عالمية متشعبة المسالك ومتشابكة المصالح، تبدو في ظاهرها حلا لذوي الدخل المحدود والعاملين فيها من الذين فروا من جحيم البطالة وتبعاتها المباشرة وغير المباشرة، لكنها في جوهر حقيقتها كمن عوض عن الرمضاء بالنار.

هل أن الملابس المستعملة بمثابة الهدايا المسمومة إذا ما علمنا هول الكوارث البيئية التي تسببها أم أنها نوع من أنواع “المعالجة الكيمياوية” التي لا بد منها في مجابهة “سرطانات الفقر والخصاصة”؟

المسألة أكبر من كونها مجرد مضاربات في الأسواق المحلية الصغيرة، وتضرر فئة على حساب أخرى أو حتى حلا شبه مستدام لمشكلات الفقر والعجز عن التصنيع والمنافسة لدى البلدان النامية.

إنها تطرح أسئلة كونية سوف نظل ندور في فلكها إن لم تفكر البشرية جمعاء في إيجاد الحلول الناجعة لها.. وهي حلول ليست مجزأة بالتأكيد، وإنما تتعلق بالتنمية المستدامة وربطها بالبيئة المستدامة، في علاقة جدلية لا يمكن التعامي عنها أو معالجتها بمقاربات ظرفية واهمة وواهية فيما يعرف بسياسة النعامة.

السماح بتجارة الملابس المستعملة كارثة بيئية لا محالة، ومنعها يتسبب في كوارث إنسانية.. هي معضلة قد لا ينتبه إليها بسطاء الناس في الأسواق الشعبية المزدحمة تحت مناداة الباعة “افرز والبس”.. افرز بين كارثتين، والبس ما تفصله لك القوى المتحكمة خلف البحر أيها الفقير الباحث عن الماركات العالمية في أكوام البالة.

9