سعدون العبيدي مسرحي عراقي بوجوه متعددة

آخر عمالقة المسرح العراقي يرحل تاركا تجربة استثنائية في شتى الفنون.
الثلاثاء 2022/01/18
فنان مثابر وناشط دؤوب من مؤسسي المسرح العراقي الحديث

اتسمت التجارب الإبداعية للمسرحي العراقي الراحل سعدون العبيدي بالتعدد والتنوع والثراء، مسيرة خطها بعد رحلة في التعلم الأكاديمي في العراق وبريطانيا، ليخلق بعدها رؤاه الخاصة ويقدم أعمالا مغايرة في بنائها الجمالي الجديد شكلا ومضمونا، علاوة على اشتغاله في أكثر من مجال كالكتابة والتمثيل والإخراج وحتى فنون النحت.

برحيل الفنان المسرحي سعدون العبيدي في الرابع من يناير 2022 يفقد المسرح العراقي آخر عمالقته الأفذاذ الذين رسموا مساراته الإبداعية المتنوعة بحرص وتفان وثبات ومهنية ومهارة احترافية عالية، ليشكل هذا الرحيل خسارة فادحة لا يمكن تعويضها، لما اتسمت به تجاربه الإبداعية من مغايرة وبناء جمالي جديد شكلا ومضمونا.

لقد عرف العبيدي منذ نعومة أظافره بموهبته المتميزة التي أهلته ليكون واحدا من أبرز رواد المسرح العراقي، لما حققه وقدمه من عطاءات مسرحية متنوعة جعلت منه فنانا شاملا بأتم معنى الكلمة، منذ دراسته في معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1950، لإيمانه بضرورة صقل موهبته بالدراسة الأكاديمية التي شكلت انطلاقته الأصيلة نحو المسرح، حيث تتلمذ على أيادي أساتذة مهمين، منهم حقي الشبلي وإبراهيم جلال وجاسم العبودي وجعفر السعدي، وقد برزت هذه الموهبة منذ أول عمل مسرحي أنجزه أثناء دراسته في المعهد، وكان بعنوان “القلب بلا قلب” للكاتب جون باتريك وقد أحدث ضجة كبيرة حينها لأنه نقل وعكس التقنيات الحديثة في المسرحية.

والمتصفح لسفر الفنان الإبداعي يلحظ التنوع في مسيرته الفنية الطويلة التي جاوزت ستة عقود، بصفته كاتبا ومخرجا وممثلا وإداريا وإنسانا مثقفا ورائدا مسرحيا أصيلا، إضافة إلى ممارسته الفن التشكيلي من نحت وسيراميك ورسم وديكور، وهي من الأمور التي ربما يندر وجودها لدى الفنانين الآخرين، فعلى صعيد التأليف المسرحي أصدر أول مجموعة مسرحية عام 1957 وهو في عمر الأربعة والعشرين ربيعا، وتضمنت ستة نصوص: انطلاق، بيت المرضى، جسر العدو، أكلة البشر، طبول الانتصار، إنه سيعيش.

مسيرة الرحيل والعودة

الفنان كان يكتب ويخرج نصه بنفسه وأغلب النصوص التي أخرجها كانت محلية من تأليفه أو لمؤلفين عراقيين آخرين

بعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة (1957 – 1958) واصل نزوعه إلى استكمال دراسته الأكاديمية، في معهد جيلد هول في العاصمة البريطانية لندن عام 1962، وتحققت له حينها فرصة التمثيل في مسارح لندن ولعب أدوارا تلفزيونية وسينمائية، فنال العضوية في جمعية الممثلين في لندن عام 1965 إثر تزكية وتوصية من الفنان والمخرج البريطاني الكبير بيتر بروك.

العبيدي كان مثابرا وناشطا ودؤوبا اندغم في المسرح قلبا وقلبا، فقبل دراسته في لندن أسس عام 1962 فرقة “مسرح بغداد” ليترأسها، ويتولى سكرتاريتها الفنان الراحل جعفر علي، وضمت الكثير من الفنانين، منهم طه سالم ووداد سالم وأحمد فياض المفرجي وعادل كاظم وفاروق فياض. وكان مقرها في عمارة مرجان، وقدمت أعمالا مسرحية وتلفزيونية عدة، لكنها انقسمت بعد سفره إلى فرقتين: إحداهما “مسرح اليوم” والأخرى فرقة “اتحاد الفنانين”، وعند عودته من بريطانيا قام بتأسيس فرقة “مسرح الرسالة” عام 1972 وكان مقرها في إحدى غرف منتدى المسرح الكائن في شارع الرشيد، كما عمل رئيسا للشعبة المسرحية في نقابة الفنانين.

قام الراحل بتدريس مادة التمثيل والإخراج في معهد الفنون الجميلة، وامتد تأثيره وفعله الإبداعي إلى الكويت حين قام بالتدريس في المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1970 إلى جانب نخبة من أساتذة المسرح والتمثيل المصريين، من بينهم زكي طليمات، فضلا عن عمله مديرا فنيا لفرقة المسرح الكويتي التي أخرج لها عددا هاما من المسرحيات.

وقد تم اعتماده فيما بعد مخرجا في “الفرقة القومية للتمثيل” التي كتب وأخرج لها مجموعة من المسرحيات المتنوعة الموجهة للكبار والصغار، من بينها: رزاق أفندي، ابن ماجد، رائحة المسك، الأفق، آي. بي . سي، الدوامة، زهرة الأقحوان، علاء الدين والمصباح السحري، المزيفون، كوميديا قديمة، سيدة الأهوار، نور والساحر، الأميرة والنرجس، الكرة السحرية، وغيرها.

وعندما انتدب للعمل في فرقة البصرة للتمثيل أخرج لها مسرحيات: الشاهد والشهيد والتجربة، الفرحة والحسرة في أخبار البصرة، حب على الثرثار، وفيها عبر العبيدي عن رؤيته الإخراجية وأسلوبه الذي يتميز بجمالية التكوين المسرحي الذي يدخل فكر وقلب المتلقي، حيث عرف بحسن اختياره لإخراج نصوص هادفة بمستوى عال من المهنية والإبداع.

الفنان المتعدد

المتصفح لسفر الفنان الإبداعي يلحظ التنوع في مسيرته الفنية الطويلة التي جاوزت ستة عقود

في الوقت الذي كانت فيه للعبيدي ريادة في التأليف المسرحي الأصيل لمسرح الطفل كان من بين الأوائل في كتابة وإخراج الأعمال المونودرامية، من بينها: مذكرات ميم، لن أقلع أسنان أبي، ماري. وكان من أبرز من اعتمد مفهوم “المخرج المؤلف” فهو يكتب ويخرج نصه بنفسه، وأغلب النصوص التي أخرجها كانت محلية من تأليفه أو لمؤلفين عراقيين آخرين كمعاذ يوسف وعزيز عبدالصاحب وغيرهما.

التنوع لم يتوقف في مسيرة الفنان فقد مارس العبيدي أيضا كتابة عدد من التمثيليات الإذاعية والتلفزيونية وعرف ممثلا بارزا في الإذاعة والتلفزيون والسينما لاسيما في تمثيلية “المكحلة”، ومسلسلات: الجرح، حكايات المدن الثلاث، دائما نحب، والأفلام السينمائية: أوراق الخريف، تحت سماء واحدة، في ليلة سفر، الملك غازي.

كما صدرت له أربعة نصوص مسرحية عن دار الشؤون الثقافية عام 1988 ومسرحية “نور والساحر” عن دار ثقافة الأطفال عام 1990، فضلا عن إقامته غاليري للرسم بجوار فندق الشيراتون ومعارض للرسم في نادي العلوية وفي الكويت ولندن.

وإلى جانب العمل المسرحي والتلفزيوني والإذاعي كانت للفنان الراحل موهبة أخرى في فن النحت، أظهرها للعموم حين قام بنحت شخصية الكاتب الشهير برنادشو، بالإضافة إلى إنجازه أعمالا عدة  في فن السيراميك جسدت الوجه الآخر لمواهبه المتنوعة وهوايته المفضلة.

وكانت آخر مهمة تولاها الفنان سعدون العبيدي مديرا عاما لدائرة السينما والمسرح، بعد التغيير الحاسم في ربيع عام 2003، متوجا مسيرته الإبداعية بتمظهراتها المتنوعة التي مازالت راسخة في ذاكرة الأجيال الفنية داخل وخارج العراق، وبرحيله انطوت آخر صفحة لعمالقة المسرح العراقي الأفذاذ.

13