أنطونيو ماتشادو شاعر ينهل من لغة حية عميقة الالتصاق بالمكان

تنسج التجربة الشعرية للشاعر الإسباني الأبرز في القرن العشرين أنطونيو ماتشادو عالما من الجمال الفني لتجليات الحياة، وما تحمله صور حيوات ثرية في دلالاتها، حيث تنفتح مخيلة الشاعر على آفاق حركة تلك الحيوات وما يعتمل فيها من أحاسيس ومشاعر وفلسفات حضور وغياب في مساراتها.
تطارد تجربة الشاعر الإسباني الأبرز في القرن العشرين أنطونيو ماتشادو المحيط الإنساني للروح والجسد معا في الطبيعة، الواقع الاجتماعي والثقافي، الآلام، الأحلام، الهزائم، التناقضات، الإحباطات، وتشتبك معها لتخلق منها نصا بسيطا مفعما بالأفكار والرؤى المحتدمة داخل الذات وتتجلى فيها فلسفة الحياة بتعقداتها الإنسانية والجمالية.
وهذه المنتخبات الجديدة لأنطونيو ماتشادو التي ترجمها وقدم لها الروائي والمترجم العراقي أستاذ اللغة والأدب العربي في جامعة مدريد عبدالهادي سعدون بعنوان “مسافر خفيف المتاع”، وصدرت أخيرا عن دار شهريار، تضيء جانبا مهما من التجربة الكلية لهذا الشاعر الذي يعد وفقا لسعدون “أكبر وأول شاعر في القرن العشرين، من حيث الريادة والأهمية”.
حياة متقلبة

ماتشادو ابتعد في قصائده عن التكلف والتصنع والتصقت شعريته وعوالمها بالإحساس المباشر باللغة الإيحائية دون إغفال الفكر
يرى سعدون أن هذه المنتخبات لا تعني بأيّ حال من الأحوال إعطاء فكرة موسعة عن شعر ماتشادو، بقدر ما هي بذرة بسيطة نضعها بين قراء الشعر العالمي للتمعن بعبقرية واتساع معرفة ماتشادو الشعرية. لافتا إلى أن قصائد المنتخبات اعتمدت على عدة كتب منها بصورة رئيسة مصدران هما “الأعمال الشعرية الكاملة “(منشورات أغيلار 2007) و”قصائد أنطونيو ماتشادو” (منشورات غواداراما، 1976).
ويضيف “ينتمي ماتشادو لما يسمى بجيل الـ1898، على الرغم من أنه دائماً ما يؤكد انتماءه لجيل 1914، أول أجيال القرن العشرين. صنع مع زملائه الأدباء ما سمّي في حينه بحركة ‘استرداد الحس الشعبي’ كردّة فعل ضد الأوضاع المتردية سياسياً واجتماعياً وثقافيا، خاصة بعد أن خسرت إسبانيا ثقلها الاستراتيجي في العالم كله. من خلال أعمالهم الأدبية ركزوا على المحلية كصيغة جديرة برد الاعتبار للذات الإسبانية الجريحة”.
ويوضح سعدون أن ماتشادو بدأ حياته الأدبية في وقت مبكر جدا، إذ أن أولى محاولاته تعود إلى عام 1893، كما أن أول نصوصه الشعرية نشرها عام 1901 في مجلة “ألكترا” التي كان يشرف عليها أحد أهم كتاب إسبانيا وروائييها آنذاك غالدوس. لقد عمل أنطونيو ـ دائما رفقة شقيقه الشاعر مانويل ماتشادو ـ على أن ينمّي قدراته الثقافية والفنية عن طريق القراءة وتعلم اللغات. كما أنه كان من عائلة على دراية تامة بالفنون والآداب العالمية وهو ما فتح له الأبواب واسعة، ذلك أن أباه كان مفكرا وكاتبا وأنثروبولوجيا مهما في زمنه ـ إضافة إلى كونه أستاذا للغة والأدب ـ مما حث أبناءه على تتبع أثر العلم والثقافة، والمرور السريع على منجز الأب خاصة في دراساته عن الفنون والأغنية الشعبية التي تركها مخطوطة ومنشورة في أكثر من كتاب، يحيلنا بشكل كبير على مدى تأثر وتنبه أنطونيو لعمق الموضوعة الشعبية والإنسانية في أعماله وكتاباته المستقبلية.
ويتابع أنه في تلك الفترة كان أنطونيو وشقيقه مانويل على سفر وعمل خارج إسبانيا خاصة باريس، مما أتاح له تعلم الفرنسية ليكون دارسا وفيما بعد أستاذا لها في مدارس ومعاهد تدريسية مختلفة داخل إسبانيا، منها المدرسة القائمة حتى اليوم وسط مدينة صوريا التي درس فيها اللغة والأدب الفرنسي لأكثر من عامين ليغادرها إثر وفاة حبيبته وزوجته ليونور، لكنه لم يترك تعليمها في مدارس ومعاهد مدن بايثة ومدريد وسقوبية. وقد أصدر أول كتبه بعنوان “عزلات” عام 1907 مرورا بديوان “حقول قشتالة” عام 1917 ووصولا إلى ديوانه الأخير “قصائد جديدة وغنائية منتحلة” عام 1930، وترك بعد موته قصائد عديدة جمعت من قبل النقاد في مجموعة أشعاره الكاملة التي صدرت طبعتها الأولى عام 1945، كما ألف كتبا تقترب من المنحى الفلسفي وإن لم يفارق الشعر فيها، فوضعها في قالب تأملي غنائي، كما عليه كتاباه المهمان “آبل مارتين” و”خوان دي ماينيرا”.
ويشير سعدون إلى أن ماتشادو عاش في أواخر أعوامه (فترة الثلاثينات من القرن العشرين) في فورة فكرية وفنية، مشاركا بفعالية كبيرة في الصحافة، وكاتبا للعديد من النصوص المسرحية مع شقيقه مانويل، وفي عام 1931 انتخب عضوا في أكاديمية اللغة الإسبانية، أكبر المحافل أهمية، خلفا للمتوفي إتشيجاري، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1904.
وفي ذلك الوقت أعلن ميوله السياسية صراحة بالتضامن مع الجمهوريين. في تلك الفترة استمر بعمله أستاذا للغة الفرنسية في مدريد وكتب العديد من المقالات والنصوص الشعرية ذات التوجهات اليسارية. ليعيش بعد قيام الحرب الأهلية الإسبانية جزءا منها في مدريد وسقوبية. ولينتقل للعمل بالصحافة في مدينة برشلونة عام 1938 لكن سقوط المدينة على أيدي الفاشيست من قوات فرانكو يضطره للهرب برفقة أمه العجوز مجتازا الحدود حتى فرنسا، لكنه لن يعمر طويلا فيموت في الثاني والعشرين من فبراير عام 1939 ويدفن في مدينة كويار الفرنسية الحدودية.
عبقرية شعرية

عبقرية أنطونيو ماتشادو تتجلّى في ميزات متعددة أولها خاصة لغته وأسلوبه الشعريين إذ يمتاز بالبساطة والوضوح
يؤكد سعدون أن عبقرية أنطونيو ماتشادو تتجلّى في ميزات متعددة لعل الأولى منها هي في لغته وأسلوب الشعريين، فكلاهما يمتاز بالبساطة والوضوح والنزول في أغلب الأحيان إلى لغة التخاطب المباشرة، وفيما عاب عليه الكثيرون أسلوبه هذا، فإنه كان بذلك قد أراد التنصل من كتاباته الأولى التي تدخل في حيز مرحلة “المودرنيزم” أو التحديثية، وقطبها الأكبر الشاعر النكياراغوي روبن داريو والتي أحدثت شرخ القطيعة مع السابق والبحث عن مرادف فني للإحساس الشعري كي ينطلق به من الضيق والجمود حتى آفاق شعرية وفكرية غير مجربة.
لكن ماتشادو عبر حميميته وتواصله البسيط والممتنع إنما ينطلق من خصائص شخصية متواضعة ومتأملة تتجلى في شخصية الشاعر المفكر الذي يطمح إلى حياة البساطة بعيدا عن التعقيد. إن تعلقه بالحياة المتجذرة وروح إسبانيا القشتالية جعله يمضي بكل قدراته للكتابة المتمسكة بكل ما يمت بصلة للإنسان وعلاقته بالأرض. مباشرته وبساطة تغنيه بالحياة جعلا العديد من النقاد يصفون شعره بالفقر لخلوه من الاستعارة والمجاز، بينما وجد دارسون آخرون أكثر إنصافا في صوره الشعرية نوعا من الاستعارة الخفية وهو ابتكار ماتشادويّ قصد به الابتعاد عن التكلف والتصنع في العبارة لالتصاق شعريته وعوالمها بالإحساس المباشر باللغة الإيحائية.
ويرى سعدون أن شعرية ماتشادو تنهل من لغة حية، عميقة الالتصاق بالمكان، دالة وذات نبض صادق العاطفة. إذ يرى أن الشاعر هو الخالق للنموذج البشري وليس صدى مجترا لما يدور حوله، بل يكون نابعا من القلب، المنبع الأساس والجوهر للروحانية العميقة المغزى والبناء.
ويحيلنا التمعن في شعرية ماتشادو لفهمها كأسفار متواصلة نحو هدف معلوم أحيانا وأحيانا أخرى ضبابية النهاية، وهي نتيجة للصراع الذي عاناه الشاعر بين ما يسكن وجدانه وبين ما يراه من تقاعس واندحار الجنس البشري نحو غايات غير مجدية. من يقرأ شعره بتمعن سيدرك ذلك الانتقال المؤثر من مرحلة الإحساس والشعور التعاطفي إلى مرحلة الإدراك الحسي الفلسفي خاصة في العقود الأخيرة من حياته، وفيها درج بالبحث عن أساليب جديدة لفهم الحياة وفيها كتب نصوصه ذات النفس الفلسفي بشاعرية عالية ذات الغموض الخفي المقصود.
ويلفت سعدون إلى أن واقعية ماتشادو على العكس من زملاء عصره، تكمن بكونها تمنح الأشياء مسمياتها بإحساس مغاير لأصلها، وهي مغامرة متأصلة لأنه حاول طوال رحلته الأدبية أن يمنح الزمان والمكان دلالتيهما ضمن حيز الواقع، لا باعتبارهما محركين خارجيين وحسب في الفعل البشري. كما أن الموضوعة الميتافيزيقية كانت شاغله الأكبر، فبعد نتائج عديدة يمكن تلمس أثرها من خلال قراءتنا له بكونه الشاعر المؤمن والرافض في آن واحد، الإيمان بالصدق البشري والإلحاد الواضح بالظلم الكامن في النفس البشرية نفسها.
أشعر بعدم التوافق مع شعراء اليوم هم أولئك الذين يلتجئون للازمنية الشعرية، ليس في جانب التخلص من وسائل الغنائية، بل فوق كل شيء وهو ما أقصده
إن عبقريته تتجلى بشكل أكبر في البساطة المتناهية بالأسلوب واللغة، كما أن الوضوح والنزول للغة التخاطب جعلت من ظاهرته أكثر قرباً للواقع والعامة. واستطاع عبر الكلمة الموحية غير البعيدة عن بشر زمنه أو الأزمنة اللاحقة، أن يجترح لنفسه مدرسة وحقلاً خاصاً لم يشاركه فيه أغلب مجايليه، لكنه عبرها أيضاً استطاع التفرد والتعبير بلغة إيحائية توظف نفسها نحو الهدف الأسمى لغاية الكلمة وهي التواصل مع البشر، الحلقة الأساس لوجود الشاعر، وغايته حسب مفهومه الأول والأخير.
وعلى الرغم من أنه في أواخر حياته كتب عن الحرب ومآسي الدمار الذي مر به بلده إسبانيا، إلا أنه يغلب على شعره التغني بالإنسان والطبيعة، جوهر التواصل والألفة الممكنة.
وينقل سعدون جانبا مما كتبه ماتشادو عن مفهومه الشعري والحياتي. يقول ماتشادو “أفكر اليوم كما كانت عليه أعوام التحديثية الأدبية (أيام الشباب) أن الشعر هو الكلمة السهلة عبر الزمن. الشعر المعاصر، حسب فهمي، يبتدئ على الأقل في جزء منه من عند إدغار آلان بو، وهو الذي يستمر حتى يومنا هذا كتاريخ لمعضلة يتواجه فيها الشاعر عبر حالتين ـ متناقضتين بشكل ما ـ هما: البساطة والزمن. إن الفكر المنطقي الذي يسيطر على الأفكار ويلتقط ما هو جوهري، إنما يكمن في النشاط اللازمني. إن التفكير منطقيا هو في حد ذاته فرك للزمن، الاعتقاد بكونه غير موجود، خلق حركة لا تنتمي للتغيير، اللجوء إلى حلول غير متحولة. إن نشوء الهوية ـ لا شيء إن لم يعادل نفسه ـ يسمح لنا أن نتصيد في نهر هرقليطس، بلا أيّ وسيلة التشديد على موجتها الهاربة، لكن الشاعر لا يسمح له بالتفكير خارج الزمن لأنه يفكر بحياته الخاصة التي ليست هي ليست بالعدم المطلق خارج زمنها”.
ويقول ماتشادو “أشعر بعدم التوافق مع شعراء اليوم هم أولئك الذين يلتجئون للازمنية الشعرية، ليس في جانب التخلص من وسائل الغنائية، بل فوق كل شيء وهو ما أقصده، في استخدامهم لصور ذات وظيفة تأثيرية فحسب. أنا على وفاق مع شعراء الحاضر الذين يكتبون قصيدة متداخلة في ‘مياه الحياة الحية ذاتها’ على عكس قول القديسة تريسا دي خسوس. هؤلاء الشعراء يعيدون شرف الكلمة للرومنطيقيين، دون أن يكونوا بالضرورة منهم، أولئك الذين عاشوا عصرهم الغنائي للتأكيد على ظرفية زمنية لأفضل قصائدهم، في الوقت الذين يبذرون في الزمن نفسه، سلطة الطبيعة الأكثر عموما”.
نماذج من المنتخبات
في القطار
في كل سفرـ دائما فوق مقعد خشبي في مقصورة من الدرجة الثالثة ـ أمضي بمتاع خفيف. وإن كان ليلا ذلك أنني غير معتاد على النوم، أو نهارا، لأراقب الأشجار وهي تمضي. أنا لا أنام في القطار قط، مع ذلك أسافر براحة. متعة الابتعاد هذه! لندن، مدريد، بونفرادا كلها رائعة… للمغادرة. ما يزعج هو الوصول. فيما بعد، القطار، ما أن يسير دائما ما يجعلنا نحلم؛ وتقريبا، تقريبا ننسى الجمل الذي يعرف طريقه جيدا! أين سنكون؟ إلى أين يمضي كل الذين ننزل؟ أمامي تجلس راهبة شابة رائعة الجمال لها هذا التعبير المستكين إذ تمنح للألم أمرا بلا حدود. أنا أفكر: إذا كانت جميلة فلماذا منحت كل حبك ليسوع؛ ولماذا لا تريدين أن تصبحي أمّا لمذنبين. ولماذا لا تريدين أن تصبحي أمّا لمذنبين. بل أنت أكثر من أمّ، مباركة بين النساء أيتها الأم العذراء. شيء ما في محياك، إلهي. وتحت حجابك الصوفي وجنتاك هاتان الزهرتان الصفراوان ورديتان كانتا، وفيما بعد أخضرت في أحشائك النار؛ واليوم، أنت زوجة للصليب لست سوى نور، نور فحسب… كل النساء الجميلات مثلك كن، عذراوات ومضين لحبس أنفسهن في المعبد أما الطفلة التي أرغب بها أنا، آه منها، تفضل الزواج بشاب حلاق؛ القطار يمضي، والماكينة تلهث وتسعل سعالا حادا وتسير في البرق!
***
أيها السائر
خطواتك هي الطريق ولا شيء آخر. أيها السائر لا وجود للطريق فالطريق تصنعه بمسيرك. الطريق تصنعه بمسيرك وعندما تعود للنظر إلى الوراء يرى الطريق الذي لن تعود لوطئه أبدا. أيها السائرلا وجود للطريق إنما هي آثار السفن في البحر. كل شيء يمضي وكله يظل لكن ما يعنينا هو المضي المضي في الطريق الطرق التي تؤدي إلى البحر.
***
طرقات عديدة
لقد مشيت طرقات عديدة وفتحت مسارب أخرى؛ أبحرت في مائة بحر ورسيت في مئة سهل. لقد رأيت في كل النواحي قوافل حزن، متكبرين وسكارى حزانى تحت ظل أسود مزهوين يرقبون، يصمتون ويفكرون أنهم يعرفون لأنهم لا يشربون خمر الحانات. ناس سوء يتجولون ويعبثون على الأرض. ورأيت في الأنحاء كلها ناسا ترقص أو تلعب عندما يستطيعون، ويحرثون أربعة أشبار مما يملكون من الأرض. أبدا عندما يصلون مكانا، لا يسألون أين وصلوا. عندما يسيرون، يركبون ظهور بغالهم المعمرة. ولا يعرفون معنى للتعجل ولا حتى في الأعياد. أينما يوجد نبيذ، يشربونه؛ وعندما لا يعثرون على نبيذ، يشربون مياها منعشة. بشرا طيبين يحيون، يحرثون، يتمشون ويحلمون، وفي يوم مثل غيره سيرقدون تحت التراب.