ابن خلدون ليس المؤسس الوحيد لعلم العمران

من المعلوم أنّ ابن خلدون قد بلور منهجية جديدة في علم التاريخ لا سلطان فيها إلا للعقل، ما جعله رائد فلسفة التاريخ، وهذا المنهج العلمي الذي اتبعه في مقاربته للتاريخ قاده إلى فلسفة العمران البشري والتي كانت بمثابة علم اجتماع، والتي يقر الكثيرون له بالريادة فيه، لكن علم العمران لم يكن وليد أفكار ابن خلدون فحسب، بل سابقا له في الحضارة العربية كما يبين الكاتب والباحث المصري خالد عزب في كتابه الجديد “العمران.. فلسفة الحياة في الحضارة الإسلامية”.
طرح المؤرخ خالد عزب في كتابه “العمران.. فلسفة الحياة في الحضارة الإسلامية” الصادر أخيرا ضرورة وأهمية إعادة تأسيس علم العمران من جديد، وسعى متتبعا لتطور العلم انطلاقا من القرن الثامن الميلادي إلى الآن، لافتا إلى أن نسبة علم العمران إلى ابن خلدون تحمل قدرا كبيرا من الاستهانة بالمنجز السابق عليه، ومن ثم فهو يشكك في هذه النسبة ببراهين جديدة من بطون كتب التراث.
ولم يكتف عزب بذلك بل ذهب إلى أن ابن خلدون الذي نسب إليه ابتكار علم العمران لم يكتب إلا جانبا منه، لكنه لم يكتب في العلم مفردا له ومعرّفا به باستفاضة، ولذا حار في أمره وأمر مقدمته الكثيرون، فهناك من قال إنها فلسفة التاريخ، وذهب آخرون إلى أنها مؤسسة لعلم الاجتماع، وآخرون رأوا أن بها بذور الاقتصاد السياسي، والبعض يقول إن بها لمحة عن علم الأديان، بل نرى من يذكر أن ما جاء بها في اللسانيات يتطابق مع الجديد في هذا العلم.
علم الحياة

خالد عزب: ابن خلدون المنسوب إليه علم العمران لم يكتب إلا جانبا منه
قال عزب في كتابه، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، إن ابن خلدون كان متجاوزا لعصره، إذ أنه مؤسس الدراسات البينية الإنسانية، وبالتالي جاء كل ما أشار إليه سابقا بما فيه تعرضه لعلم العمران من منظور محدود هو الاجتماع الإنساني، وهنا تكمن عبقرية ابن خلدون وهي إدراكه مع نضج العلوم في عصره أن هناك شيئا يجمع هذه العلوم، فحين يجتمع أكثر من علم يحدث التلاقي والتلاقح بينها، فينتج لنا ذلك نتائج جديدة تقود إلى تقدم علمي.
وقدم رؤية تأسيسية جديدة لعلم العمران مؤكدا “إن علم العمران هنا مفارق لنماذج الدراسات الإسلامية التقليدية، فقد نشأ في هذه الحضارة منذ القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، نشأ بالممارسة وسطرته أقلام في بطون الكتب التراثية. فاستخرجنا ما في بطون هذه الكتب ليكون عونا لبناء هذا العلم، فأساسيات هذا العلم راسخة لكنها مغطاة فلم ترها البصائر، ثم قمنا برفع الجدران على هذه الأساسات فصار لهذا العلم تعريف وأسس واضحة وفلسفة وأطر يعمل من خلالها، لنذهب إلى مجالات وفضاءات ممارسة هذا العلم”.
وعرّف عزب علم العمران بأنه “علم الحياة الدنيا في الحضارة الإسلامية وغايته سعادة الإنسان على الأرض وأدواته التي يعمل من خلالها العلم والعمل وأطره التي يتفاعل بها السياسة وفقه العمران ومجالاته الزراعة والصناعة والتجارة والطب والهندسة وغيرها”.
وعلى هذا الأساس قسم عزب كتابه إلى خمسة فصول، قدم في الأول ماهية علم العمران وجذوره عند ابن خرداذبة والجاحظ والراغب الأصفهاني والقزويني.. وغيرهم، وفي الثاني تطرق لفلسفة العمران التي رأى أنها “ترتكز على الإبداع والإتقان والجمال، فالإتقان هو منهج أدى إلى وجود قواعد لكل علم ومهنة وصنعة بل مقاييس دقيقة جرى وضعها والرقابة عليها بصرامة حتى لا يحدث هدر للوقت ولا للجهد، وبناء على هذا الإتقان ظهر الإبداع في كل مجالات الحياة، وهذا ما أدى إلى الجمال في كل منتج أنتج في حضارة العمران الإسلامية سواء في الفنون أو العمارة أو الدراسات الإنسانية أو العلوم أو في الطب..إلخ”.
وناقش في الفصل الثالث أدوات العمران وهي العمل والعلم متتبعا العديد من النظريات التي رسخت قيمة العلم وعظمت العمل حتي وضع الرازي نظرية في الاقتصاد هدف منها إلى معالجة المشكلات في كسب المال وإنفاقه، فهو يستخدم مصطلحات مثل العيش وقصد به الكد والتعب لاكتساب الرزق، وعبودية المال وقصد به اكتساب المال وعدم إنفاقه ليتمتع به الغير بغير كد وتعب، والادخار أي اكتساب المال والاستمتاع به وتوفير جانب منه للظروف القاهرة.
وعن العلم رأى عزب أن صاحب نظرية الشك هو الجاحظ الذي قال “فاعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة له لتعرف بها مواضع اليقين”، وكان العديدون قد نسبوا هذه النظرية لأحد علماء الغرب، إلا أن الشك والتجربة قادا علماء المسلمين إلى اكتشاف العديد من الابتكارات والغوص بعمق في مختلف العلوم.
العمران هو علم الحياة الذي أسس في هذه الحضارة وهو علم يؤدي بنا إلى معرفة كيف نحيا على هذه الأرض
وذهب عزب في الفصل الرابع إلى الأطر التي يعمل من خلالها علم العمران وذكر أن علماء المسلمين عرفوا السياسة بأنها فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، والإطار الثاني لعلم العمران فقه العمران وهو مجموعة القواعد المنظمة لحركة العمران، ومنها حق المرور وحق الجوار وحق الهواء وضرر الكشف وغيرها. وفي الختام تناول تطبيقات علم العمران في مجالات عديدة مثل الزراعة التي هجن فيها المسلمون أصناف نباتات جديدة وزرعوا محاصيل في غير موعدها، والصناعة التي طوروا فيها مثلا صناعة السكر والفولاذ واستخدموا طاقة المياه والهواء، كما قدم نماذج للرعاية الاجتماعية عبر فضاء العمران مثل دور المسنين والأرامل والأعراس ومطاعم الفقراء.
أوضح عزب رؤيته مشيرا “بدا كأن علم العمران في حاجة إلى تأسيس ينطلق منه إلى فهم أعمق لمعطيات الحضارة الإسلامية يحيي قيمتها ويثمن منجزاتها، وننطلق منه نحو المستقبل”.
وقال “العمران هو علم الحياة الذي أسس في هذه الحضارة، علم يؤدي بنا إلى أن نعرف كيف نحيا على هذه الأرض، ونتمتع بكل ما أعطاه الله لنا من نعم ونتحدث بهذه النعم كما ذكر الإمام جلال الدين السيوطي في مذكراته ‘التحدث بنعمة الله‘، فما هي إذا مجالات علم العمران؟”.
ويجيب “مجالاته هي الأنشطة الإنسانية على الأرض وما يترتب عليها من تفاعلات حضرية سواء في مجال المستقر الحضري ‘مدن/ قرى/ بدو‘ أو في مجالات الإنتاج ‘زراعة/ صناعة‘ أو في مجالات الخدمات المختلفة، أو التجارة، وما يتصل بذلك من تطورات معرفية وفكرية تعكس نمو وارتقاء الإنسان عبر العصور، بما فيها ممارسة السلطة في مستواياتها المتعددة. وهنا لدينا إطاران للطرح إطار نظري يؤطر لعلم العمران وآخر عملي واقعي سبق أن تناولت جانبا منه في كتابي ‘فقه العمران‘، ومن هنا فإن هذا الطرح الآن يجمع الاثنين معا منطلقا من النظر في علم العمران إلى البحث عنه في عالم الواقع”.
الإنسان اجتماعي
ورأى أن المستقر الحضري أيا كان، هو مكان الإنسان الذي تبدأ منه الحياة بتفاعلاتها، فالإنسان وسعادته وعيشه مطمئنا من الغايات التي بحثت بعمق في حضارة قامت على العمران، لذا نرى الراغب الأصفهاني يؤلف كتابا يسميه “تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين”، تحصيل السعادة في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، فكان البحث عن السعادة في الحياة الدنيا واجبا وجوب البحث عن السعادة في الحياة الآخرة.
وجعل الراغب الأصفهاني الإنسان غاية الوجود، فيقول “في كون الإنسان هو المقصود من العالم وإيجاد شيء بعد شيء هو أن يوجد الإنسان، فالغرض من الأركان أن يحصل منها النبات، ومن النبات أن تحصل الحيوانات، ومن الحيوانات أن تحصل الأجسام البشرية ومن الأجسام البشرية أن يحصل منها الأرواح الناطقة، ومن الأرواح الناطقة أن تحصل منها خلافة الله تعالى في أرضه فيتوصل بإيفاء حقها إلى النعيم الأبدي، كما دل الله تعالى بقوله ‘إني جاعل في الأرض خليفة‘، وجعل الله تعالى الإنسان من سلالة العالم وزبدته وهو المخصوص بالكرامة كما قال تعالى ‘ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلا’. وجعل ما سواه كالمعونة له كما قال تعالى في معرض الامتنان ‘هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا”.

الحضارة الإسلامية نادت بضرورة العمل وأسست رؤية لها أبعاد اجتماعية واقتصادية وراءها فلسفة عميقة لفهم الحياة الدنيا
ولفت عزب إلى أن “الإنسان وفقا لهذه الرؤية هو محور الكون، الذي عليه أن يقوم بخلافة الله في الأرض بعمارتها ‘هو الذي أنشأكم‘. أي أن الخلافة هنا هي عمارة الأرض وليست ممارسة سلطة من بعض البشر على الآخرين. من هنا فهذا الإنسان يملك القوة المفكرة التي تجعله يقوم بهذه الوظيفة هذا ما نراه لدى فلاسفة المسلمين فكتب سعيد بن داده هرمز ‘رسالة في فضل الحياة الدنيا‘ يفصل فيها هذا الأمر ‘وللروح قوى كثيرة له بها أفعال عجيبة وأمور عظيمة وقد يفعل الإنسان بهذا الروح العلمي أفعالا كريمة لأنه بالتفكر يستخرج غوامض العلوم، وبالروية يدبر أمر الملك والسياسة بالاعتبار يعرف الأمور الماضية مع الزمان، وبالتصور يدرك حقائق الأشياء ويعرف المبادئ والجواهر البسيطة وبالتركيب والتدبير يستخرج الصناعات وبالجمع يعرف الأجناس والأنواع وبالقياس والفراسة يدرك الأمور الغامضة، ويعرف ما في الطباع وبالزجر والفال ينظر في الحوادث وبالمنامات وتأويلها يعرف كثيرا من البشارات والإنذارات وبقبول الوحي والإلهام يقوى على وضع السنن وإقامة الشرائع العائدة لمصالح الدين والدنيا”.
وأكد عزب أن أكثر تجليات الفكر العمراني هي وضوح تراتيبه العمران طبقا للاحتياجات، والتي تؤدي إلى نسق عمراني واضح، هذا ما نقرؤه بتمعن من نص القزويني في “آثار البلاد وأخبار العباد” حيث تتدفق عباراته لتخبرنا عن هذه التراتيبة “أعلم أن الله تعالى خلق الإنسان على وجه لا يمكن أن يعيش وحده كسائر الحيوانات، بل يضطر إلى الاجتماع بغيره حتى يحصل الهيئة الاجتماعية التي يتوقف عليها المطعم والملبس، فإنهما موقوفان على مقدمات كثيرة لا يمكن لكل واحد القيام بجميعها وحده، فإن الشخص الواحد كيف يتولى الحراثة فإنها موقوفة على آلاتها، وآلاتها تحتاج إلى النجار، والنجار يحتاج إلى الحداد، وكيف يقوم بأمر الملبوس، وهو موقوف على الحراثة والحاج والندف والغزل والنسخ، وتهيئة آلاتها، فاقتضت الحكمة الإلهية الهيئة الاجتماعية، وألهم كل واحد منهم القيام بأمر من تلك المقدمات، حتى ينتفع بعضهم ببعض، فترى الخباز يخبز الخبز، والعجان يعجنه، والطحان يطحنه، والحراث يحرثه، والنجار يصلح آلات الحرّاث، والحداد يصلح آلات النجار، وهكذا الصناعات بعضها موقوفة على بعض”.
وأضاف “ثم عند حصول الهيئة الاجتماعية لو اجتمعوا في صحراء لتأذوا بالحر والبرد والمطر والريح، ولو تستروا بالخيام والخرق لم يأمنوا مكر اللصوص والعدو، ولو اقتصروا على الحيطان والأبواب كما ترى في القرى التي لا سور لها، لم يأمنوا حيولة ذي البأس، فألهمهم الله اتخاذ السور والخندق والفصيل. فحدثت المدن والأمصار والقرى والديار، ثم إن الملوك الماضية لما أرادوا بناء المدن، أخذوا آراء الحكماء في ذلك، فالحكماء اختاروا أفضل ناحية في المكان من السواحل والجبال ومهب الشمال، لأنها تفيد صحة أبدان أهلها وحسن أمزجتها، واحترزوا من الآجام والجزائر وأعماق الأرض، فإنها تورث كربا وهرما. واتخذوا للمدن سورا حصينا مازعا، وللسور أبواب عدة حتى لا يتزاحم بالدخول والخروج، بل يدخل ويخرج من أقرب باب إليه”.
ويذكر كيف تم التأسيس للنوادي “لاجتماع الناس فيها وفي البلاد الإسلامية المساجد والجوامع والأسواق والخانات والحمامات، ومراكض الخيل ومعاطن الإبل، ومرابض الغنم، وتركوا بقية مساكنها لدور السكان، فأكثر ما بناها الملوك على هذه الهيئة، فترى أهلها موصوفين بالأمزجة الصحيحة والصور الحسنة والأخلاق الطيبة، وأصحاب الآراء الصالحة والعقول الوافرة.. وأحدث بها أهلها عمارات عجيبة ونشأ بها أناس فاقوا أمثالهم في العلوم والأخلاق والصناعات”. هذا نص كتب في القرن السابع هجري/ الثالث عشر ميلاديا “يبرز رؤية متكاملة لنشأة المجتمعات وتقسيم العمل وما يترتب على ذلك من عمران البلاد ثم الحاجة إلى سلطة، ثم تأثير كل هذا على الصحة العقلية التي تؤدي إلى الإبداع والابتكار، ونراه يؤكد أثر ذلك على أخلاق المجتمع”.
وتابع عزب إن السعي على الرزق، من الأبواب حث عليها الإسلام وبلورها مفكريه، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم حث عليه، حيث قال “لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه”. وجاء في سنن ابن ماجه حديثه صلى الله عليه وسلم “ما كسب الرجل كسبا أطيب من عمل يده”. هذا كله قاد الرازي إلى بلورة رؤيته في القصد في الاكتساب والسعي بين الإفراط أو التفريط، وهي رؤية كاشفة لرؤيتهم لأهمية العمل كأداة من أدوات عمران الأرض.

ويقدم لنا عزب ما يلي “إنه لما كانت عيشة الناس إنما تتم وتصلح بالتعاون والتعاضد كان واجبا على كل واحد منهم أن يتعلق بباب من أبواب هذه المعاونة ويسعى في الذي أمكنه وقدر عليه منها ويتوقى في ذلك طرفي الإفراط والتقصير فإن مع أحدهما ـ وهو التقصير- الذلة والخساسة والدناءة والمهانة، إذا كان يؤدي بالإنسان إلى أن يصير عيالا وكلا على غيره، ومع الآخر الكد الذي لا راحة معه والعبودية التي لا انقضاء لها. وذلك أن الرجل متى رام من صاحبه أن ينيله شيئا مما في يديه من غير بدل ولا تعويض فقد أهان نفسه وأحلها محل من أقعدته الزمانة والنقص عن الاكتساب. وأما من لم يجعل للاكتساب حدا يقف عنده ويقتصر عليه فإن خدمته للناس تفضل على خدمتهم له أضعافا كثيرة. ولا يزال من ذلك في رق وعبودية دائمة. وذلك أن من سعى وتعب عمره كله باكتساب ما يفضل من المال عن نفقته ومقدار حاجته وجمعه وكتره فقد خسر وجذع واستبعد من حيث لا يعلم”.
وأضاف “نحن هنا لسنا أمام حث على العمل لاكتساب الرزق فقط، بل أمام رؤية لها أبعاد اجتماعية واقتصادية وراءها فلسفة عميقة لفهم الحياة الدنيا: انظر إلى المصطلحات التي استخدمها الرازي في نصه ومدلولاتها، نجد مصطلح: العيش الذي يتطلب الكد والتعب لاكتساب الرزق، العبودية للمال: لاكتسابه وعدم انفاقه ليتمتع به الغير أو لنقصه بغير كد وعمل ليذل الإنسان نفسه للحصول عليه، والاستمتاع والادخار وهو استمتاع بما اكتسب الإنسان وتوفير للظروف الطارئة والقاهرة. هذا كله يقود إلى مصطلح ‘القصد‘ الذي يعني في اللغة العربية استقامة الطريق ‘وعلى الله قصد السبيل‘، إذ أنها ضد التقتير أي الإقلال في النفقة والإفراط الذي هو الصرف بلا حدود. هذا نص بديع يكشف عن طرح عميق لبناء وتوجيه الإنسان والمجتمع والدول”.