اليوم ينتهي العام بحساب التقويم الميلادي ولكنّه بحساب كوفيد لا يزال مستمرّا

عام كورونا الذي طال واقع يبسط على الجميع رداءه.
الخميس 2021/12/30
لا بد ألا نستسلم لحلم النهايات البديلة

في مثل هذا اليوم من سنة خلت، قلت إننا عشنا عاما ليس ككل الأعوام، لأنه استطال حتى فاض على ما قبله وما بعده، وها أن الذي تلاه يخلف هو أيضا الثكل والويل، ويعطّل نشاط الإنسان حيثما كان، برغم لقاحاتٍ تَنافس في إعدادها المتنافسون (من غير العرب طبعا) ووعودٍ بقرب اقتلاع الشرّ من جذوره تكشّفت عن سراب.

ينذر العام الذي سيهلّ من الآن بشرور مستجدة. فهل نحن مقبلون على كارثة محتومة ليس منها مفرّ؟ أم لا يزال ثمّة بارقة أمل بتدارك اختلال الموازين في شتى مجالات الحياة؟ وهل يستعيد البشر رشدهم ويوقفوا جنونهم الذي ينذر بفناء الحياة في هذا الكوكب، على نار لم تعد هادئة؟

هل كان المبتكرون الحريصون على تطوير التقنيات إلى ما لا نهاية، والليبراليون الساعون لامتلاك كل خيرات الأرض، والعلماء الحالمون بتحقيق الحياة الأبدية في الدنيا، والصناعيون الراغبون في أن يكونوا أسياد الأرض وملّاكها، والحكام السادرون في غيّهم يجهلون الخطر الذي يهدد الإنسانية قاطبة، في حاضرها ومستقبلها؟

مصير البشرية

كوفيد قيد حركة البشرية
كوفيد قيد حركة البشرية

في الحقيقة لا يصدق عاقل أنهم يجهلون ما ينشره المتخصصون كل يوم تقريبا عما بلغته أوضاع كوكبنا، فهم على علم بما يجدّ في مشرق الأرض ومغربها مثل سائر البشر، وربّما أكثر، ولكنهم ظلوا واثقين في المستقبل وثوقا جعلهم لا يتوقفون لحظة للنظر إلى الحاضر، وما يشوبه من آفات ليست جائحة كورونا سوى أعراضها الأولى.

 هذه الجائحة التي كان لها “فضل” الكشف عن طبيعة الخير الموعود للبشرية عامة، الذي وعدت به العولمة، ولم يكن في الواقع سوى قناع شرّ يتهدد البشرية، فقد اتضح بما لا يدع مجالا للشك أن الإنجازات التكنولوجية الكبرى لم تفلح إلا في تسريع انحدارها نحو مصير غامض.

 الجميع يعرف اليوم ماذا فعل الإنسان بالأرض منذ دخول البشرية في عصر جيولوجي حديث هو “الأنتروبوسين”، وقد بدأ مع الثورة الصناعية التي ما فتئت تنهب موارد الأرض وتجفف منابعها، حتى وصلت إلى دمار إيكولوجي لا سبيل لترميمه، وباتت تحمل بذور الاختلال والنقص في الموارد والعنف التي سوف تجعلها آجلا أم عاجلا غير قابلة للإقامة على أديمها.

إذا كان أفق الكارثة يدفع بالفرد إلى الوقوع في القدَرية أو الانذهال، فإنه يمكن أن يتحول إلى رافعة قوية للفعل

وإذا كانت الأغلبية مشغولة بمغالبة أوضاعها الخاصة، تتجنب مواجهة إمكانية الكارثة، فإن ثمة من بات يدرك أن الموت أمامه، يترصّده في كل ركن وفي كل آن، بعد أن تجلى في جائحة كورونا كأبشع صورة عن النهاية التي كان يحسبها من أدبيات الخيال العلمي، وإذا هو، مع كل موجة يُعلَن عنها، وكل لقاح يطالَب بتلقّيه، ينتابه شعور بأن موته مؤجَّل إلى حين، شأنه شأن محكوم عليه بالإعدام، يَعدّ ما تبقى من عمره بالأيام والليالي، وربما بالساعات والدقائق. بل ثمة من صار يتساءل “ماذا أفعل بما تبقى لي من وقت؟”، وهو سؤال يمكن أن يطرحه أيّ كان، حيثما كان، لأن الوضع الكارثي، كالعولمة، شاملٌ ليس لأحد منه مهرب.

ولكن بعد كل ما أريق من حبر لشرح الظاهرة وأسبابها، ونتائجها وآفاقها، بقي من يعتقد أن مواجهتها وتجاوزها من الأمور الممكنة، لاسيما أن الإنسان واجه عبر تاريخه محنا أفظع واستطاع أن يصبر ويصابر ويصمد ويقاوم حتى آلت إليه الكلمة الأخيرة. إلا أن أهل الذكر، من مفكرين وباحثين وعلماء بيئة، يعتقدون أن العدّ التنازلي بدأ منذ مدة، وأن مصير البشرية خُتم عند الخيار الذي سارت فيه منذ فجر الحداثة، وأنها ماضية إلى مصيرها المحتوم بسرعة فائقة دون أمل في الانعطاف إلى وجهة أخرى، لأن لحظة القرار الحاسم فاتت.

لكن ذلك لم يمنع بعضهم من التفاؤل، عملا بنصيحة هنري برغسون، وكان قد كتب في “منبعا الأخلاق والدين” يقول “إذا كان أفق الكارثة يمكن أن يدفع بالفرد إلى الوقوع في القدَرية أو الانذهال، فإنه يمكن أيضا أن يتحول إلى رافعة قوية للفعل، من خلال حث الفرد على اعتبار بعض الحلول، التي كانت تعدّ من المستحيلات، ضرورية”.

الواقع المرّ

العدّ التنازلي بدأ وكوفيد مازال يسير نحو عام جديد
العدّ التنازلي بدأ وكوفيد مازال يسير نحو عام جديد

في رأي المتفائلين أننا لو أردنا أن يكون الأجل المرجَأ وقتا مناسبا للفعل لا للتأمل والانذهال، فلا بد ألا نستسلم لحلم النهايات البديلة، لأن التخييل عندئذ لن يكون سوى أدب أو فيلم ترفيهي إذا اكتفى بتصور عوالم أخرى وإنسانيات أخرى، لن يكون لها وجود، ولكن كان يمكن أن توجد في أزمنة أخرى (يوكرونيا) أو في أماكن أخرى (يوتوبيا). فليست الممكنات هي ما يعوزنا، وإنما لكون تلك الممكنات لصيقة بالواقع دون أن تؤثر فيه، مثلُها كمثَل مقال في جريدة يدين مجتمع الاستهلاك، يتمّ نشره جنب إعلان إشهاريّ يشجّع على الاستهلاك.

هذه الجائحة كان لها “فضل” الكشف عن طبيعة الخير الموعود للبشرية عامة الذي وعدت به العولمة

والضرورة في نظرهم، حتى وإن كانت مستحيلة، هي دائما أفضل من ممكن لا يمكن تحقيقه. وإذا كان لا بدّ من التفكير في نهاية العالم، فالخير في أن نردد مع كلوديل أن “الأسوأ ليس مؤكّدًا دومًا”، ولا يكون ذلك إلا باستباق المستقبل، والإمساك به، من خلال إعطاء المستحيل من الثقل والارتكاز على ما يزعزع الواقع.

ولكن كل ذلك كلام تذروه الريح ويعجز عن إيقاف دينامية الفايروس المتحول، ولا يصمد أمام الواقع. لقد كان أجدادنا يؤرخون حقبا من حياتهم بالكوارث فيقولون “عام الفزوع” و”عام الحرب” و”عام الجراد” و”عام الشرّ” (ويقصدون به المجاعة)… ولا شك أنهم لو عاشوا بيننا لأطلقوا على هذه السنة المتطاولة، التي بدأت من خريف 2019 وما زالت مستمرة، “عام كورونا”، أو “كورينا” على رأي شيخ الطريقة.

التشاؤم ليس من طبعي، فما زلت أعمل وأجدّ، وأؤلف وأترجم وأنشر على نفس الوتيرة، ولكن لا بدّ من الإقرار بأن الواقع المرّ يبسط على الجميع رداءه القاتم. لقد فقدتُ هذا العام ثلاثة إخوة يصغرونني، فضلا عن بعض الأصدقاء والأحبّة. ولذا، مرّة أخرى أقول: اليوم ينتهي العام، بحساب التقويم الميلادي، ولكنّه، بحساب كوفيد، لا يزال مستمرّا، ولا ندري هل سنكون على قيد الحياة لتوديع العام الذي يأتي، فكلّ الدّلائل تشير إلى تحولات رهيبة يحار العلماء في فهمها فما بالك بتطويقها والقضاء عليها.

14