فلسفة "أوبونتو" الجنوب أفريقية تستعرض حكمتها في معرض باريسي

المعرض يشمل أعمالا لأفارقة وفنانين عالميين يؤمنون بالقيم الإنسانية المشتركة التي تقوم على التبادل والتشارك.
الاثنين 2021/12/20
تفكيك جمالي لأحادية السردية الغربية ومفهومها للحداثة

مع "أوبونتو، حلم واضح" يفتح قصر طوكيو بباريس فضاءه لسلسلة من المعارض تحوم كلها حول مبدأ مستوحى من جنوب أفريقيا، يحمل العديد من الدلالات ويحثّ على الثورة، وعلى الحكمة وإصلاح ذات البين أيضا.

سلسلة من المعارض يستقبلها قصر طوكيو بباريس حتى أواخر مارس 2022 تحوم كلها حول “أوبونتو” وهي كلمة مستوحاة من اللغات البانتو في جنوب أفريقيا، وتحمل العديد من الدلالات عن الأخوّة والإنسانية بوجه عام، ويمكن تلخيصها في قول كل واحد “أنا موجود لأننا موجودون”.

وقد درج على استعمالها علنا في شتى المحافل فائزان بجائزة نوبل للسلام هما نيلسون مانديلا والمطران ديزموند توتو للحديث عن مثَل مجتمعي أعلى لمواجهة سياسة الميز العنصري في عهد الأبارتايد، ثمّ للدعوة إلى التسامح والتصالح بين السود والبيض في جنوب أفريقيا.

ولئن حدّد المطران ديزموند توتو مُعتنِقَ الأوبونتو بكونه شخصا منفتحا على الآخر، مستعدّا دائما لتقديم المساعدة أيّا ما تكن، واعيا بانتمائه إلى شيء كبير، هو الإنسانية؛ فإن هذا المفهوم الذي يجمع بين مبادئ عديدة كالإنسانية وكرم الضيافة والتكافل والتضامن في آن واحد عصيّ على مخيال الغرب ومعارفه.

ومن ثمّ جاء حرص مانديلا على تعميمه وجعله فكرا فلسفيا يرمز إلى الرابط الطبيعي بين البشر كافة، وهو ما تَمثّله المثقفون والفنانون من بعده، في أفريقيا وخارجها، وأدرجوه في صلب أعمالهم. نجد ذلك في نصوص عدة كتّاب من إيمي سيزير وإدوار غليسّان إلى ألان مابانكو، وفومبي يوكا موديمبي وليونورا ميانو، كما نجده في أغاني فيلا كوتي أو ميريام ماكيبا.

غاية المعرض أن يكون شاهدا على ديناميكية إعادة تشكيل عالم مسكون بأحلام تتناسب مع فلسفة "أوبونتو"

ومن ثَمّ، لم تنحصر الدعوة إلى المشاركة في هذا المعرض على الأفارقة وحدهم، بل شملت عشرين فنانا من جهات كثيرة من العالم، من كينيا إلى البرازيل، ومن غانا إلى كولومبيا، ومن البرتغال إلى جنوب أفريقيا، لما يتميّزون به من نضال لأجل نشر قيم السلام والتسامح والمساواة بين سائر البشر، وما تمثله أعمالهم من قيم مشتركة تقوم على التبادل والتشارك والاكتشاف لبناء عالم أفضل.

فالبرتغالية غرادا كيلومبا، في فيديو بعنوان “عالم أوهام”، تطرح مسألة الآخر في مجتمع تنخره العنصرية، بينما تتوسّل الجنوب أفريقية فرانسز غودمان بشفرات الجمال الحالية لتندّد بالصورة التي نحملها اليوم عن الأنوثة من خلال منحوتات ملوّنة ذات بنية غريبة استعملت فيها كل وسائل الزينة النسوية الاصطناعية كالأظفار والرموش والجواهر المزيفة.

أما البوروندي سيرج ألان نيتيجيكا فقد ساهم بنصب في شكل نفق يفتح على مسالك عديدة، ليفضي إلى ساحة اجتماع. فيما عرض الكيني ميكائيل أرميتاج لوحات انطباعية عن الواقع الأفريقي بالتلاعب بتاريخ الفن الغربي، وأعدّ الكاميروني بيلي بيدجوكا شاشات فيديو صغيرة على مائدة مستديرة مغطاة بالأرز، وفي الخلفية تتداخل خطب لا يكاد المستمع يلتقط فحواها.

يليه العمل الأرشيفي لكوزاناي شيرواي، بالتعاون مع الجنوب أفريقية كانيا ماشابيلا، ويتمثل في جدار من أسطوانات الفينيل تدعو الزائر إلى اقتفاء أثر تاريخ لا مرئي عن نضال التحرّر، وقد كتب تحتها “مكتبة الأشياء التي نسينا تذكرّها”.

وفي إحدى الفجوات، أفلام لغرادا كيلومبا مستوحاة من الميثولوجيا الإغريقية تقترح إعادة قراءة التاريخ الكولونيالي. إلى جانب الأسترالي جوناثان جونس الذي ساهم بثلاثمئة لوحة مطرّزة باليد تمثل النباتات التي عاد بها مبعوث بونابرت إلى أستراليا، القائد نيكولا بودان، في نطاق مهمة علمية.

أعمال تلحّ على إبراز الحلم الإنساني المشترك
أعمال تلحّ على إبراز الحلم الإنساني المشترك

لقد صيغ المعرض كفضاء بوليفوني، يسمح للفنانين بنسج روابط دقيقة بين أفكارهم والشكل الذي يرتؤونه انطلاقا من مواضيع ووجهات نظر ومواقف متعددة. والمطالبة بإزالة حواجز العالم وتدعيم الروح الإنسانية بين الشعوب تفتح أمام من ينتقدون المفاهيم الجامدة عن الهوية فرصة لتفكيك أحادية السردية الغربية ومفهومها للحداثة، وتسمح للفنانين بتمثل فضاءات قطيعة أيديولوجية.

إن تسليطهم الضوء على بعض الأسئلة الأكثر إلحاحا في عصرنا مثل التوزيع غير العادل للثروة، والنفوذ، وأزمات الهجرة، واستعمار الأراضي والأجساد، وحالات الاضطهاد، وتحوّل علاقتنا بالطبيعة، يساهم في فضح عمليات الاستصغار والبخس التي تتعرّض لها القارة السمراء بصفة خاصة، وتستدعي روح المقاومة.

في عالم متقلّب، منطو على هويات منغلقة مسكون بالعنف، لا يني ينطوي على نفسه داخل هويات قاتلة، فإن هذا الفكر الفلسفي ليس مثاليا مجرّدا. ذلك أن “أوبونتو”، أو مسألة “صنع الإنسانية معا وإضفاء الطابع الإنساني على العالم” على حد تعبير الفيلسوف السنغالي سليمان بشير دياني، تنشأ بقوة وتتأصل في قلب المطالب والمناقشات المجتمعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والبيئية. وهو ما حاول المنظمون التركيز عليه في هذا المعرض.

فغايته هي أن يكون شاهدا على ديناميكية إعادة تشكيل عالم مسكون بأحلام ذات رؤية واضحة، من خلال أعمال عشرين فنانا تتناسب مع فلسفة “أوبونتو”، يسعون عبرها إلى معالجة هذا الفكر كمصدر إلهام، ومساحة للاختراع أو التخييل أو خلق وساطة مع العالم الواقعي.

هذا المعرض الذي يفتتح سلسلة تحمل عنوان “ستّ قارات أو أكثر” يلحّ على جانب الحلم، وهو ما عبّر عنه الفنان الملغاشي جويل أندريانومياريسوا حين استحضر مقولة الشاعر فرناندو بيسّوا التي تتصدّر واجهة قصر طوكيو “ينبغي أن نحلم كي نصنع أشياء معا”.

14