مدن ومضارب

كل الذين بشّرونا بمستقبل عربي مشرق غادرونا في ظروف غامضة؛ بعضهم فرّ إلى العالم الآخر، وآخرون استبدّ بهم شبح الزمن فأصبحوا خلف جدران عالية من السكون. ومن تبقّى منهم بات يعمل أجيراً حسب طلب المشغّل في بادرة عربية هي الأولى من نوعها لتجسيد العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والمفكرين، حيث لا ضرورة للآلة هنا، بل يكفي أن تتطوّع النخب للعمل كروبوتات نشيطة لا منافس لها في السمع والطاعة.
من الضحية هنا؟ الزبون، المستهلك الذي عليه أن يتتبع مسارات التطور الفكري لصناع الرأي العربي، وهذا الطراز آخذٌ في الانحسار نحو شخصية ”الزائر“ و“المتابع“ المعروفة في عالم المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي اللعينة.
المدينة العالمية الصاعدة تبدو مثل غودزيلا فائقة تلتهم من لا يتأقلم معها ولا يتمثّل قيمها الجديدة، وفي مثل هكذا حال، تصبح مضارب العرب ريشة وسط ريح، بل كومة شوك في عاصفة من العجاج الغباري الرهيب.
المسافة بين العقول في زمننا مسافة هائلة مبنية على قاعدة أن يسحق كل منها الآخر كلما واتته الفرصة، في معركة بين التحضّر والهمجية. ولا تستهن بالهمجية، فهي ليست طوراً قطعناه، إنما هي رغبة مستمرة لدى الكثيرين حول العالم، وإلا ما معنى إنتاج السلاح وسوقه المفتوحة؟ ما معنى النووي؟ ما معنى الإرهاب؟ ما معنى التطرف؟ ما معنى العنصرية؟ ما معنى كراهية الآخر؟
أما المضارب فهي لا تخص العرب وحدهم، ففي أوروبا قارة النهضة، ما تزال مضارب ”الفاندال“ و“الهون“ معششة في الوعي، وفي أميركا وروسيا وآسيا ونمورها حدّث ولا حرج، رغم كل مظاهر الحياة الحديثة وما بعدها وما وراء ما بعدها.
لنتخيل أن عالِماً جليلاً من مهندسي الفراعنة دقيقي الحسابات والرسوم استيقظ الآن من غفوته الطويلة، وفتح عينيه في أيامنا هذه، كيف سيرى الحضارة ومساراتها؟ سيراها مقلوبة، ملوية الأبعاد، كاريكاتيراً بالقياس إلى ما كان يحلم بالتأسيس له قبل خمسة آلاف عام، وربما لعن الساعة التي قرّر فيها أن يضع قواعد العمارة العبقرية التي تجسّدت في الأهرام والمعابد وما فيها من أسرار.
أيلون ماسك يطالب البشرية بالمزيد من التكاثر، وأوميكرون وإخوته يطالبون الناس بتقليص حضورهم في الكوكب الذي بات مزدحماً وعبئاً على مموّليه. ونحن العرب لا ندري على أي جانبينا نميلُ، فسوى الروم خلف ظهورنا رومُ وفُرسٌ وتشكيلة من المكسّرات الطائفية والعرقية تريد للحضارة أن تواصل التقهقر.
في ذلك المكان البعيد الذي يسمونه المستقبل، لا شيء مضمون، ولا يمكنك سوى أن تحضّر له بعض الزاد من التمدّن فهو ما سينفعك وينفع ورثتك ولا شيء آخر سيفعل.