الصحيفة الوردية تصنع صحافيي المستقبل

بينما تعيش الصحافة في العالم برمته أزمة وجودية، تعمل فاينانشيال تايمز على صناعة صحافيي المستقبل. ذلك لعمري واحد من أهم الدروس للصحافيين الذين فقدوا الثقة بجوهر مهنتهم.
الخميس 2021/12/16
الصحافة في أفضل حالاتها يمكن أن تقدم الكثير للمجتمعات

الدروس الصحافية التي تقدمها فاينانشيال تايمز لا يمكن أن تتراجع مع هذا المستوى من الكتابة العميقة المفعمة بالأفكار الجديدة عبر أصوات صحافية فريدة.

توظف هذه الصحيفة الوردية التي لا تخلو منها مكاتب السياسيين الكبار ورجال الأعمال كل صباح، الأذكياء الذين يعرفون كيفية اكتشاف المواضيع المهمة وكتابتها بشكل رائع، وإعطاء القراء المزيج الصحيح مما هو مألوف ومدهش، الخبرة والمعرفة والممارسة والقدرة على الحكم والمهارة والذكاء كلها أمور تلعب دورا، كذلك تفعل القدرة على الكتابة، والقدرة على التفكير، فالابتكار، وفق أروع كتاب الصحيفة لوسي كيلاوي.

وبينما تعيش الصحافة في العالم برمته أزمة وجودية تهدد مستقبلها، تعمل فاينانشيال تايمز على صناعة صحافيي وكتاب المستقبل. ذلك لعمري واحد من أهم الدروس للصحافيين الذين فقدوا الثقة بجوهر مهنتهم، وللحكومات التي أجهزت على الصحافة المسؤولة في مسعى لتحجيمها والقضاء على قوتها.

أطلقت هذه الصحيفة الوردية المرموقة التي تخطت مليون مشترك يوميا وهو الرقم الأكبر في تاريخها منذ 133 عاما، ومازال الرقم يتصاعد، مسابقة تحرض الطلبة ممن تتراوح أعمارهم بين 14 و19 عاما، على الاشتراك في كتابة مقال، سيكون للفائز منهم أكثر من الجائزة المالية فيه.

◄ قاومت هذه الصحيفة بثقة مرض تكنوفوبيا الصحافة الورقية عبر رفض اجتزاء الأفكار المعهودة، وكتابها لا يكررون ما كتبوه سابقا، إنهم يتجددون في كل عمود أو حوار أو تحليل أو مقال

لقد عرضت الأفكار على من يريد الاشتراك وعليهم كتابة مقال صحافي يتراوح ما بين 700 إلى 800 كلمة، بهدف البحث عن أفضل الكتاب الشباب الذين يمكن فتح الأبواب أمامهم وتطوير موهبتهم في الارتقاء بصحافة المستقبل.

اختارت الصحيفة أفكار المقالات المقترحة من عمق اهتمامات جيل وسائل التواصل الاجتماعي والعملات المشفرة والتجارة الإلكترونية، فعرضت حزمة أسئلة عن جاذبية الشراء والدفع لاحقا والتأثير المتزايد للمنصات الاجتماعية على ترسيخ هذه الجاذبية. وتساءلت عن إيجابيات وسلبيات الاستثمار في العملات المشفرة؟ هل تساعد الأشخاص في إدارة الأموال أم زيادة الديون؟

ثمة فكرة أخرى من المسابقة التي لا تكتفي بالمكافأة المالية في تكريم الفائز، بل بنشر مقاله في الصحيفة، وذلك لعمري مجد ورصيد ثقافي سيبقى ملازما لكاتب المقال في حياته العملية المقبلة عندما يجد اسمه بنفس بنط كبار كتاب هذه الصحيفة. وعرضت عليهم الكتابة عن إيجابيات وسلبيات استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كقناة للحصول على المشورة المالية؟ هل يجب أن نثق بما يقوله “المؤثرون”؟

علينا ألا نغفل هنا طبيعة محتوى فاينانشيال تايمز الاقتصادي والتقني وهي تقترح هذه الأفكار على المتسابقين الشباب وفق أعمارهم، عندما تطلب منهم كتابة مقال عن المدفوعات الرقمية والتسوق على الإنترنت، والفكرة العاطفية عن احتساب النقود التي كانت في الجيوب بالأمس، وعواقبها اليوم عندما أصبحت مجرد تلامس عبر هواتفنا الذكية يتراجع فيه ألم القلب عند التخلي عن النقود مقابل الشراء!

إحدى الأفكار المقترحة لكتابة مقال فيها من قبل الذين تتراوح أعمارهم ما بين 14 و15 عاما، كانت بطريقة سؤال: كيف تغير التكنولوجيا الوسيلة التي ندير بها أموالنا وماذا يمكن أن تكون عواقب ذلك؟

وثمة فكرة أخرى عن الذي يود أن يتعلمه هؤلاء المراهقون من المدرسة اليوم بشأن المال لمساعدتهم في رفع منسوب شعور الثقة بمستقبلهم المالي.

وبطبيعة الحال ستخضع المقالات المشاركة إلى تقييم لجنة من ثلاثة محكمين مختصين في الصحافة الاقتصادية بينهم خبير في الرياضيات ومديرة شركة مالية.

ستقيّم مقالات المراهقين وفق أناقة الكتابة وطبيعة الأفكار المبتكرة فيها وطريقة دعمها عبر معلومات تولدت في القراءة بالنسبة إلى كتابها الصغار.

في واحد من الأهداف لهذه المسابقة تعيد التمني القائم اليوم في عالم رقمي يسيره المال، عما إذا كانت المدرسة قد ساعدت التلاميذ في مناهجها الدراسية لتعلم شيء مفيد عن التمويل، فضلا عن إضفاء الحيوية على فكرة الكتابة في جوهرها الصحافي وصناعة الأفكار الجديدة بالنسبة إلى الصغار في مقتبل العمر.

هذه المسابقة كما تبدو لي، لا تكتفي بمحليتها وتخصصها المتوافق مع طبيعة محتوى الصحيفة البريطانية، بقدر ما تقدم لنا درسا في العالم العربي لإعادة الثقة في مستقبل الصحافة، وليس التخلي عنها بوصفها من الماضي كما تريد بعض الأصوات إشاعة هذه الفكرة مستغلة تخلي الحكومات عن دعم صحافة نوعية مسؤولة تحاسبها وتكشف فسادها.

قاومت هذه الصحيفة بثقة مرض تكنوفوبيا الصحافة الورقية عبر رفض اجتزاء الأفكار المعهودة، وكتابها لا يكررون ما كتبوه سابقا، إنهم يتجددون في كل عمود أو حوار أو تحليل أو مقال، وهذا سبب كاف يجعل من الصحافة الورقية معافاة من طريق السوق المريضة.

◄ بينما تعيش الصحافة في العالم برمته أزمة وجودية تهدد مستقبلها، تعمل فاينانشيال تايمز على صناعة صحافيي وكتاب المستقبل

على سبيل المثال عندما استضافت الصحيفة في غرفة التحرير الروبوت بيبر في وقت تصاعدت فيه دعاوى التخلي عن المحررين وإحالتهم على التقاعد لحساب الإنسان الآلي الذي صار يكتب المقالات أسرع منهم وبتكلفة أقل. تحدى أندرو هيل أحد أروع محرري فاينانشيال تايمز، الروبوت بيبر إن كان ما تنتجه تكنولوجيا “البصائر الآلية” التي حشي فيها دماغ هذا الجهاز، أو أذكى إنسان آلي يؤتى به أن يرقى إلى ما كتبه في تحليل الأخبار مثلا.

وينصح هيل زملاءه الصحافيين ألا يهملوا التفكير في كيف نجعل من التكنولوجيا خارطة طريق وليس الطريق بحدّ ذاته.

إذا كنت متطرفا نوعا ما في دفاعي عن محتوى الصحيفة الوردية، فلأن الصحافة، في أفضل حالاتها يمكن أن تقدم الكثير للمجتمعات وحتى للحكومات، التي تجهز عليها اليوم، للحد من فسادها، من أجل مجتمع يثق بمصدره الإعلامي عبر صحافة متبصرة وتحليل عميق يحفز على التفكير المطلوب للتنقل في هذا العالم سريع التغير.

قبل سنوات نقل لنا آلان روسبريدجر رئيس معهد رويترز لدراسة الصحافة ورئيس تحرير صحيفة الغارديان السابق أهم النصائح الذهبية التي حصل عليها من الصحافي البريطاني الراحل هارولد إيفانز عندما سأله عن القاعدة الصحافية الوحيدة الثابتة، قال إيفانز: الأوضاع ليست كما تبدو على السطح احفر أعمق واحفر أعمق واحفر أعمق!

ذلك ما تفعله صحيفة فاينانشيال تايمز اليوم في درس المسابقة الصحافية للمراهقين على بساطته.

16