نيكانور بارا مؤسس الشعر المضاد الذي يخرب بقصائده الأكاذيب المقدسة

تشكل تجربة الشاعر نيكانور بارا أحد أبرز التجارب الشعرية في تشيلي وأميركا اللاتينية المكتوبة بالإسبانية في القرن العشرين، حيث توفرت لها رؤى وأفكار طموحة تتجاوز وتتمرد على السياق الشعري الذي كان سائدا في أميركا اللاتينية في النصف الأول من القرن العشرين، إذ خط تجربة فريدة من نوعها ليكون مؤسسا لما سمي “الشعر المضاد”.
نسج الشاعر نيكانور بارا خصوصية في أسلوب وتقنية القصيدة إذ اتجه إلى البساطة والتلقائية المشحونة بالدلالات، وربما انعكست على رؤى نصوصه أنه كان رياضيا وفيزيائيا ومطلعا على جانب مهم من تجليات التجربة الشعرية العالمية، وأيضا كونه انحاز بتجربته نحو الواقع الذي ولد فيه ونشأ وهو عالم اجتماعي ثري بالمهمش والمسكوت عنه، وانطلاقا من هذه الخصوصية اعتبر نيكانور مؤسسا لـ”الشعر المضاد”.
حظي نيكانور بعدة ترجمات لمختارات من أعماله إلى العربية، وفي كتاب جديد يترجم الشاعر والمترجم العراقي حيدر الكعبي قصائد مختارات من أعماله ويضعها تحت عنوان “قصائد مضادة”، مقدما له بإضاءة واسعة تتبع خلالها مسيرة الشاعر وأعماله، ورؤية الشعراء والنقاد في أميركا اللاتينية وأوروبا لتجربته.
رسالة بسيطة

بساطة وتلقائية مشحونة بالدلالات
يقول الكعبي “يعتبر نيكانور مبتكر الشعر المضاد، رغم أنه لم يكن أول من استخدم هذا المصطلح، إذ سبقه إليه من شعراء أميركا اللاتينية الشاعر البيروني إنريكه بستامانته في كتابه ‘قصائد مضادة’ في 1926، كذلك استخدمه الشاعر راؤول غونسالس في إحدى قصائده، كما تحدث فيسينيه ويدوبرو عن الشاعر المضاد والشعر المضاد في قصيدته ‘التاسور’. ولم يحدد نيكانور بدقة ما يقصده بالشعر المضاد. إلا أن شعره مهما اختلف في التفاصيل، ومهما تنوع في مراحل حياته الشعرية كلها، كان دائما مفهوما من القارئ العادي، وأقرب إلى لغة الكلام اليومي، وكان في الغالب يتسم بروح الدعابة والسخرية وزاخرا بالنقد الاجتماعي لموضوعات من الحياة اليومية”.
ويصف الشاعر آرتر لندكفيست شعر نيكانور بارا بأنه “شعر ديناميتي، فوضوي بصورة بائسة، عابر لكل ما هو روتيني، مخرب للأكاذيب المقدسة وليصوغ المواساة الفارغة من المعنى، لكي يصل إما إلى اللاشيء وإما إلى أعماق الحقائق الصلبة”. بينما يقول خايمه كيسادا مدير الحلقات الشعرية لمكتبة مؤسسة بابلو نيرودا إن “نيكانور ابتكر نوعا من الشعر أكثر تفجرا وأكثر رقيا وذكاء من شعر نيرودا، حتى في شعره السياسي”.
وفي مقال بعنوان “نيكانور بارا وقطيعة الشعر المضاد” يقول الناقد الفرنسي آلان سيكار “إن الميزة الكبرى لقصائد نيكانور المضادة هي أنه أدرك في منذ الخمسينات، أي في أوج صعود الواقعية الاشتراكية وتفريعاتها، أن هذا الطريق الحقيقي للشعر الجماهيري. إن قصائده المضادة تزخر بأشد أسئلتنا عمقا، حاملة رسالة بسيطة وملحة بشكل هائل؛ سيداتي، سادتي، على الشعر أن يبلغ الجميع”.
وفي رأي الكاتب والشاعر البريطاني نايل بينس فإن شعر نيكانور هو قبل كل شيء واقعي، ولكنه يعج بما يسميه فريدريك جيمسون بـ”السوريالية من دون لاوعي”، المتولدة من التدفق المدوخ لأشعاره. ويؤكد بنيس أن شخصيات قصائد نيكانور شخصيات مضطربة، متناقضة، ولكنها خلافا لشخصيات داريو، وويدوبرو، وفاييخو، ونيرودا، التي هي أيضا ضحايا لأزمة أيديولوجية ومعرفية، شخصيات بلا حماية، متروكة في العراء، وليس في إمكانها تفادي تلك الأزمة. يقول بنيس “إن مشروع نيكانور الشعري المضاد ينبع من فكرة أن الشعر الذي سبقه قد فقد علاقته بالواقع والحياة، ولهذا فهو يؤسس فعله الكتابي كحالة لتخريب الأدب وإنعاشه في الوقت نفسه بمنحه حياة جديدة”.
ويتابع الكعبي في مقدمة مختاراته، الصادرة عن دار الصباح، أنه حين صدرت مجموعة نيكانور الثانية “قصائد وقصائد مضادة” عام 1954، والتي أصبحت علامة بارزة في التاريخ الشعري لأميركا اللاتينية، وحصلت على جائزة الملتقى الشعري القومي لنقابة الكتاب في تشيلي، وأعيدت طباعتها سنة 1956 وترجمت إلى الإنجليزية والسويدية، ثار جدل كثير في الوسط الأدبي، فبعض الشعراء والنقاد احتفوا بها، وبعضهم الآخر انتقدوها بشدة، فقد وصف بورجسون تلك القصائد بأنها “سلبية تماما، تعبر عن العدم وتسخر من الأمل، وتخلو من أي رسالة وأي أخلاق”.
بينما صرحت الشاعرة غابريلا ميسترال قائلة “نحن أمام شاعر ستمتد شهرته إلى العالم”. وكتب بابلو نيرودا على طية غلاف الكتاب ما يشبه التقديم يقول فيه “بين كل الشعراء الأشد التصاقا بالأرض في جنوب أميركا، يتميز الشعر المتنوع لنيكانور بارا بأوراقه الفريدة وجذوره القوية”. ومن جهة أخرى، يُروى أن نيرودا نفسه كان يتجول حاملا كتاب نيكانور في جيبه، ويتساءل “ما لا أفهمه هو كيف يمكن صناعة الشعر من العدم، من الزبالة”. أما بابلو ده روكا الذي يعتبره الكثيرون أحد شعراء تشيلي الأربعة الكبار، إلى جانب غابريلا ميسترال وفيسينته ويدوبرو وبابلوا نيرودا، فيقول “نيكانور ليس سوى شخص دعيّ، عامي وسوقي، ليس شعبيا. إنه مجرد نظّام انتهازي بغيض وقح ومتسلق، إنه مزقة من حذاء سيزار فاييخو”.
ويضيف الكعبي أنه بعد أربع سنوات وفي ملتقى الكتاب التشيليين الذي نظمته جامعة كونثبثيون، سيقرأ نيكانور ورقة بعنوان “شعراء الوضوح” يقول فيها إن القصيدة المضادة هي “القصيدة التقليدية وقد اغتنت بالعصارة السوريالية أو السوريالية الأصلية”.
وما يسميه نيكانور بـ”عملية استرداد اللغة” لم تتوقف عند “قصائد وقصائد مضادة”، بل امتدت طوال حياته، إذ سيقول لاحقا، بعد أن ترجم “الملك لير” وأجزاء من “هاملت”، “الآن بعد أن ترجمت شكسبير، انتبهت إلى أن القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت هناك لغة شديدة التأثير، قوية جدا، على الأقل في ‘انجليزا‘. وكذلك في إسبانيا، في ‘دون كيخوته‘، أن ما كان ينبغي عمله لم يكن ليزيد على انطاق تلك اللغة بصورة أفضل”.
مراحل شعرية
شعر نيكانور بارا باختلاف تفاصيله ومراحله كان دائما مفهوما من القارئ العادي وأقرب إلى لغة الكلام اليومي
تنوع شعر نيكانور كثيرا عبر الزمن، ففي أواخر ثلاثينات القرن العشرين مر بمرحلة قصيرة كان فيها متأثرا بقوة بفيديريكو غارثيا لوركا، مثل أثناءها ما يسمى بـ”شعر الوضوح” وهو الشعر الذي جاء كرد فعل على التقوقع والذاتية اللذين ميزا شعر “الطليعة التاريخية” الذي كان يقوده ويدوبرو ونيرودا والسورياليون الجدد. ثم هجر هذه المرحلة، واتبع خطا أكثر طليعية، أو ما بعد طليعي، متعطشا للبحث عن بنى وأشكال جديدة للخلق الفني.
كان شعره في هذه المرحلة انتقاديا، استجوابيا، مناهضا لرجال الدين، وسياسيا، ومفاجئا. وإلى جانب قصائده المضادة التحليلية ما بعد الحداثوية، كانت هناك قصائد بيئية وأخرى مستمدة من التقاليد الشفاهية الشعبية المحلية. وتميزا نيكانور بإشاعته للشعر، وجعله شعبيا، ديمقراطيا موظفا مصادر من أدب العبث، والفكاهة، وفنون الشارع، والثقافة الشعبية، وبهذا قرب الشعر إلى القراء من مختلف الطبقات الاجتماعية والثقافية.
ويشير الكعبي إلى أن الأوزان الشعرية التي استخدمها نيكانور في أعماله المبكرة كان الوزن الثماني “الذي يتكون فيه البيت من ثمانية مقاطع صوتية” في “أغنيات بلا عنوان” و”رقصة الكويكا الطويلة” والوزن الأحد عشري “المكون من أحد عشر مقطعا” في سوناتاته الساخرة مثل “هنالك يوم سعيد” و”أشعار الصالون”، ولكنه مارس أيضا منذ وقت مبكر “الشعر الحر” في “قصائد وقصائد مضادة”، وشعره يمتاز بتعدد الأصوات “أصوات مدرسي رياضيات، مهرجين، مذيعين/ مقدمي برامج، أساتذة جامعيين، وعاظ، محامين،.. إلخ”.
كذلك تتميز قصائده بتعدد المستويات اللغوية “شواهد القبور، محادثات، خطابات جنائزية، صلوات مسيحية، امتحانات، تصريحات بعد العشاء،.. إلخ” وابتداء من سبعينات القرن العشرين بدأ تجاربه في كتابة القصائد المرئية التي ستعرف باسم “المصنوعات”. ومنذ التسعينات شرع بتجريب الوزن الآيامبي الخماسي “الوزن الأكثر شيوعا في الشعر الإنجليزي” ليوفر التدفق والسيولة الوزنية لترجماته لشكسبير.
وكان نيكانور شديد المراجعة لقصائده قبل نشرها، ولهذا نادرا ما تخضع قصائده عند إعادة نشرها إلى تغييرات كثيرة، ولكنه لم يبد اهتماما كبيرا بالتنقيط “وضع الفوارز والنقاط وما أشبهها لتوضيح الكتابة”، ولهذا كثيرا ما يختلف تنقيط القصائد من نسخة إلى أخرى. أما عمن تأثر بهم من الشعراء والكتاب فقد كان نيكانور من أشد المعجبين بوليم شكسبير، وخصوصا “هاملت”. وكان كتابه الأول “أغنيات بلا عنوان” 1937، متأثرا بديوان “أغنيات غجرية” 1928، لغارثيا لوركا.
نيكانور ابتكر نوعا من الشعر أكثر تفجرا وأكثر رقيا وذكاء من شعر نيرودا، حتى في شعره السياسي
ابتداء من 1938، وخصوصا بعد سفره إلى الولايات المتحدة، تعرف على والت وتمان، الذي كان نموذجا لنيكانور في تلك الحقبة رغم أن وتمان كان جادا، بليغا، عالي النبرة، فقد أعجب نيكانور بالحرية التي تميز بها شعر وتمان وتجريبه للشعر الحر، وفي الولايات المتحدة، تحت تأثير قراءاته تلك لوتمان، انبثقت قصائده العشرون المسماة “تمارين بلاغية” ثم بعد بضع سنوات، أثناء إقامته في إنجلترا بين عامي 1949 ـ 1952 تعرف على أعمال ت.أس. إليوت، ودبليو أيتش آودن وإزرا باوند ووليلم بليك وجون دون، كما تعرف على علم النفس التحليلي لسيغموند فرويد، وعلى أفلام شارلي شابلن، وعلى فرانز كافكا والسورياليين، واستنادا إلى ذلك سعى إلى تمتين علاقته بعدد من ممثلي جيل بيت الشعري الأميركي.
ويؤكد الكعبي أن كل ذلك فتح أمام نيكانور طرقا جديدة للتعبير وللتحكم بشعره، وشحذ وعيه بمهمته كشاعر، ومهد الطريق إلى إنضاج صوت شعري أميل إلى النثر، ساخر، غير عاطفي. وفي مقابلة صحافية يعترف بأن نجومه الثابتة، هم الهزليون العظام، الذين يدفعونه إلى الضحك والتفكير مثل أرسطوفانيس، وتشوسر، ورابليه، وسرفانتس، وكافكا.
ومن جانب آخر ترك نيكانور أثرا عميقا في أدب أميركا اللاتينية. وفي رأي فرانك ماك شَين “إن أعمال بارا أحدثت ثورة في شعر أميركا اللاتينية، حتى أن نيرودا نفسه قلده في مجموعته ‘كتاب التيه’، 1958”. ويعده الكثير من النقاد والكتاب البارزين، مثل هارولد بلوم وروبرتو بولانيو، واحدا من أهم كتاب الغرب. وقد ترجمت أعماله إلى لغات عديدة بينها الإنجليزية والفرنسية والسويدية والروسية والتشيكية والفنلندية والبرتغالية. وكان بين من ترجموه إلى الإنجليزية شعراء أميركان بارزون مثل ألن غينسبرغ ولورنس فرلنغتي ووليم كارلوس وليمز وتوماس مرتون ودنيس ليفرتوف ودبليو أس مروين.
من قصائد نيكانور
سمفونية المهد
بينما أنا ماش ** في حدائق الإنجليز ** إذا بي وجها لوجه ** مع ملاك حقيقي ** صباح الخير ** قال بالإسبانية ** صباح الخير ** قلت بالفرنسية. قل لي أيها الملاك ** كيف حالك ميسو ** فمد إليّ يده ** فصافحت رجله ** والحكم لكم يا سادة ** أي ملاك هذا. مغرور كالأوزة ** بارد كسكة الحديد ** سمين كالديك الرومي ** قبيح مثلك أنت. أرعبني قليلا ** لكني ** لم أهرب. بحثت له عن ريش ** فوجدت له ريشا ** خشنا كصدف السمكة ** ذات الصدف الخشن. فقلت ريش كهذا ** يليق بالشيطان. فاستشاط غضبا ** وسدد لي ضربة ** بسيفه الذهبي ** طاطأت واتقيتها. يا للملاك السخيف ** لا رأتك عيناي أبدا. قلت شارقا بالضحك ** باي باي يا سيدي ** اذهب أنت في طريقك ** ولتصحبك السلامة. وعسى أن تطحنك سيارة ** أو يعجنك قطار. وهكذا انتهت الحكاية ** واحد، اثنان، ثلاثة.
لم تبق مهنة لم أشتغلها
حتى أني اشتغلت جثة ** فذات مرة أمروني أن أتمدد على طولي ** وأنا، الذي تعرفونني، أطعتهم في الحال ** غطوني بالجرائد ** وراحوا يصورون مشهدا سينمائيا. ومرة أخرى ** في ماخور بسان أنطونيو ** أجبروني ** على أن أرضع حلمتي امرأة عجوز ** واضعين مسدسا في رأسي. ماذا تريدون أن أقول لكم
ابتسامة بابا تشغلنا
لا يحق لأحد أن يبتسم ** في مثل هذا العالم العفن ** إلا إذا كان متحالفا مع الشيطان ** ينبغي لقداسة البابا ** أن يبكي بحارا من الدموع ** وأن يقتلع الشعيرات المتبقية في صلعته ** أمام كاميرات التلفزيون ** بدلا من أن يوزع ابتسامته يمينا ويسارا ** وكأن لا شيء يحدث في تشيلي ** أمر مريب، سيداتي سادتي ** ينبغي لقداسة البابا أن يدين الدكتاتور ** لا أن يتغاضى عمدا ** ينبغي لقداسة البابا أن يتفقد نعاجه المفقودة ** ينبغي لقداسة البابا أن يفكر قليلا ** فمن أجل ذلك توّجه الكرادلة أميرا للمؤمنين ** لا من أجل أن يحيي الحفلات مع الذئب ** فليضحك على السيدة مريم، إذا شاء ** أما علينا نحن فلن يضحك.
وما زال الفِلْم مستمرا
نشاطات إشعاعية، انفجارات سكانية ** فراشات في الطريق إلى الانقراض ** تجارة مخدرات ** إيدز ** إبادات جماعية ** مزابل تناطح القمر. وباستثناء برج بيزا ** كل النصب آيلة للسقوط ** أميمتي العزيزة ** ليس مهما أن تكوني قد مِت ** أنا واثق أننا سنلتقي ** وأنني سأرضع حليبك ثانية ** فأنا ابنك، أليس كذلك؟ ** وسأبقى ابنك حتى يثبت العكس.
المرأة
هنالك نقطة ** لا يُمكننا إغفالُها ** في مناسبة مهمة كهذه ** وسأترك الحديثَ لصبيّ ** من منتصف القرن التاسعَ عشر ** صبيّ كان يعرف جيدا ما يقول أقواس: عندما تتحطم السلاسل التي تستعبد المرأة ** عندما يمكنها أن تعيش بذاتها ومن أجل ذاتها ** عندما يحررها الرجل ** هذا الرجل البغيض حتى الآن ** فسوف تتقدم، هي أيضا، نحو المجهول ** تُرى هل ستختلف ثريّا أفكارها عنا؟ إنها، هي أيضا، ستكتشف أمورا غريبة ** بعيدةَ الغَوْر ** رهيبة ** لذيذة ** أمورا سوف نعرف كيف نثمنّها ** أمورا سوف نعرف كيف نفهمها” ** رامبو، رسالة الرائي"