غريتا نوفل الباحثة عمّا تبقى من مدينتها

منذ فاسيلي كاندنسكي وبول كلييه صار التجريد في الرسم تجسيدا لروح الموسيقى أو محاولة من أجل الوصول إلى ذلك.
شغف هو مزيج من إيحاء الأصوات وتجليات الصور. وكما يقول الناقد البريطاني هربرت ريد “كل الفنون تسعى لأن تكون موسيقى” فقد حاول الكثير من الرسامين أن يصغوا إلى حواسهم من الداخل ليكتشفوا حقيقة وعمق وصدق تلك المقولة.
ولع اللبنانية غريتا نوفل هو جزء من إرثها العائلي. ولدت وعاشت الجزء الطري من حياتها مع الموسيقى، بل من خلالها. لذلك فإنها حين اكتشفت موهبتها في الرسم كانت الموسيقى قد تمكنت منها وتسللت إلى أعمق نقطة في روحها.
◄ نوفل حريصة على تسجيل موقفها مما يجري حولها، في محيطها الشخصي وفي فضاءات الآخرين، لهذا كسرت الحدود التي تفصل بين فنها التجريدي والواقع
لم يكن صعبا عليها أن توائم بين الفنين بل كان الصعب أن تتخلى عن أحدهما لتتفرغ للثاني. لقد اكتملت شخصيتها من خلال ذلك المزيج المدهش بين عبقريتي الرسم والموسيقى وصار عالمها ينمو ويتسع في المسافة غير المرئية التي تفصل بين الفنين. وهي مسافة تسكنها الحواس كلها لما تنطوي عليه من احتفاء وجودي بمعنى ومغزى الإنسانية في أكثر صورها رقيا وأعزها رفعة.
ولأن نوفل كانت حريصة على تسجيل موقفها مما يجري من حولها، في محيطها الشخصي وفي فضاءات الآخرين، فقد كسرت الحدود التي تفصل بين فنها التجريدي والواقع. حتى أنها في بعض الأحيان كانت تضطر إلى أن ترسم لوحات تخيم على بعض أجزائها روح الملصق السياسي. فمع اكتمال وعيها الشبابي المتمرد قامت الحرب الأهلية التي انتهت فصولها رسميا بعد خمس عشرة سنة غير أن العنف الذي تلاها كان يحمل بين ثناياه جروحا لا يمكن سوى أن تتسلل إلى لوحاتها مثل صرخات.
نوفل ليست رسامة سياسية فالجاز يتنزه في حقول روحها مثل ظل فنسنت فان غوخ القلق لكنها في الوقت نفسه إنسانة مناضلة من أجل حياة أجمل وأكثر نزاهة. لذلك فإنها أعلنت عن غضبها عن طريق الرسم حين تم اغتيال جبران تويني وسمير قصير. لقد اعتبرت الحدثين استمرارا للحرب القبيحة التي لم تنته بعد.
ومثل الحرب فإن التقاسيم الموسيقية لن تكتمل على سطح اللوحة. لقد استلهمت نوفل التكعيبية حين لجأت إلى الكولاج “اللصق”. كانت لديها رغبة عميقة في أن تحضر الموسيقى بنوتاتها من غير أن يتم استبدالها بالصور. فإذا كان الخلاص الحقيقي يتم عن طريق الموسيقى فإن الموسيقى في حاجة إلى مَن يخلص لها.
الحرب التي رافقتها

ولدت الفنانة عام 1955 في بيروت، وهي ابنة جورج نوفل صوايا الموسيقي المعروف. في عامي 1967 و1968 التحقت بدروس فنية مع الرسام جوفير في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة “ألبا”. عام 1975 انتقلت من دراسة الكيمياء إلى الفنون الجميلة بالجامعة اللبنانية. وهربا من أحداث الحرب الأهلية ذهبت عام 1979 في رحلة جامعية إلى إيطاليا وفرنسا.
عام 1980 حصلت على درجة الماجستير في علم الجمال والكوميديا من الجامعة اللبنانية. في معهد غوته ببيروت أقامت معرضها الشخصي الأول عام 1982. بعد ذلك سافرت إلى باريس لتلتحق بجامعة السوربون عام 1985 مرشحة لنيل شهادة الدكتوراه تحت إشراف الناقد الفني مارك لو بوت. عام 1991 التقت الخزافة سمر مغربل ليبدأ بينهما تعاون فني يستمر طويلا.
حازت نوفل على جائزة لجنة تحكيم بينالي الإسكندرية عام 1997. في العام التالي يبدأ تعاونها مع عدد من الفنانين السويديين المهتمين بموسيقى الجاز وبعده أصبحت عضوا في جمعية الفنانين السويديين وأقامت العديد من المعارض في العاصمة ستوكهولم.
بعد اغتيال جبران تويني وسمير قصير عام 2005 انهمكت الفنانة في إنتاج أعمال ذات بعد سياسي، بعضها كان تركيبيا والبعض الآخر كان رسما من خلال الشاشة الحريرية، وفي عام 2006 أقامت معرضا يتكون من عمل تركيبي واحد بعنوان “صعوبة العيش واستحالة البقاء” وهو عمل مستوحى من حالة المدنيين الفارين من الحرب.
سلسلة حياة لا تنتهي

◄ السلاسل التي رسمتها من أجل التعبير عن شغفها بموسيقى الجاز هي الأقرب إلى نفسها. فهناك يقع الجزء المثالي من حياتها
عُرفت نوفل بغزارة إنتاجها. فالفكرة تتحول بين يديها إلى سلسلة من اللوحات التي يكمل بعضها البعض الآخر. فهي على سبيل المثال رسمت سلسلة بعنوان “عشتار”، كما أنها في عام 2008 تفرغت من أجل إنجاز سلسلة رسوم تمثل المثقفين العرب وخاصة الشعراء. وفي عام 2013 أنجزت سلسلة بعنوان “استئصال الثدي”. وكما هو واضح فإن الفنانة كانت حريصة على أن تمزج ما بين رؤيتها إلى الخارج الحميمي وبين رغبتها في أن تكتب يوميات جسدها. وقد تكون السلاسل التي رسمتها من أجل التعبير عن شغفها بموسيقى الجاز هي الأقرب إلى نفسها. هناك يقع الجزء المثالي من حياتها. قبل حوالي عشرين سنة التقيتها في ستوكهولم وكان معرضها عن موسيقى الجاز هو المناسبة.
عاشت فصول الحرب الأهلية كلها. سكنتها المدينة المدمرة وفي الوقت نفسه عاشت فجيعة تحولها إلى واحدة من تلك الكائنات الهائمة التي تبحث عن أثر لها في بقايا مما خلفته الحرب. لذلك اهتمت بإعادة بناء الذاكرة الجماعية والشخصية وتصوير ما أبقته الحرب مرئيا من شواخص بيروت، المدينة التي أحبتها لتبدأ منها وتنتهي إليها.
يومها أنجزت الفنانة بالتعاون مع الفنان عماد عيسى فيلما وثائقيا من إنتاج التلفزيون الألماني قدمت من خلاله عمليات البحث في أنقاض المدينة وبالأخص في أنقاض كنيسة القديس جورج الأرثوذكسية هناك حيث عثرا على صحف ومواد صارت بمثابة أيقونات تمثل الحرب، ما قبلها وما بعدها.
لا تعيش نوفل متصالحة مع الزمن. فالموسيقى تقع خارجه. ذلك صحيح. غير أن حكايتها مع الحرب تفتح ممرا إلى الزمن الذي لا يُرمم. إنه زمن انتحاري. يذهب بكل شيء يقف أمامه إلى الهاوية. وهي في فنها إنما تحث الخطى مسرعة لكي تلم كل ما خلفه الزمن وراءه. في الجزء الأكبر من ذكرياتها تمارس نوعا من الصراع ضد الزمن.
عالم جوهره الموسيقى

◄ نوفل حريصة على تسجيل موقفها مما يجري حولها، في محيطها الشخصي وفي فضاءات الآخرين، لهذا كسرت الحدود التي تفصل بين فنها التجريدي والواقع
أقامت نوفل أكثر من عشرين معرضا في بيروت وستوكهولم ولندن وبروكسل والإسكندرية والشارقة. غير أن معرض “تقاسيم غير مكتملة” الذي أقامته على صالة جنين ربيز ببيروت عام 2017 ربما كان هو الأقرب إلى قلبها. فمنخلاله وجهت تحية إجلال إلى والدها الذي أفنى حياته في خدمة الموسيقى.
يومها تحدت الحنين بمقتنياته. حاولت أن تمزج السمعي بالبصري فجمعت ما استطاعت العثور عليه من تراث والدها مستعينة بالكولاج الذي سمح لها بأن تكون رسامة تجريدية من غير أن تضر بها الوقائع التي هي بمثابة أصل الإلهام الذي يدفع بها إلى الرسم. لقد حاولت قدر ما استطاعت ألّا تلحق عالم الموسيقى بعالمها بل تمتزج به كما لو أنها تقف من خلاله احتراما أمام والدها لتقول كلمة لم تقلها في حياته.
ولم يكن مفاجئا أن يحضر الجاز في ذلك المعرض. مزجت يومها الجاز بالموسيقى الشرقية لتقف أمام والدها في حدث نادر من نوعه كانت الموسيقى بمفهومها المطلق أساسه. هي سيدة ما منحتها الحياة تجارب نجت من خلالها من الألم وهو سيد ذكرياته الصافية التي حفلت بالنغم.
غريتا نوفل رسامة عالم جوهره الموسيقى.