السادات ونجيب محفوظ .. وجها لوجه

الكاتب والرئيس علاقة متوتّرة على أرض الروايات.
الأحد 2021/11/21
محفوظ لم يتوقف عن النقد والرئيسان المحبوبان في الجهة الأخرى

لم يتوقف نجيب محفوظ في جل أعماله الروائية عن انتقاد نظام الحكم في مصر من الملكية إلى حكم الضباط الأحرار وجمال عبدالناصر ومحمد أنور السادات، إذ سلط الضوء على خفايا المجتمع وانعكاسات منظومات الحكم وقراراتها الخاطئة على تردي أوضاع الشعب المهمش، الشعب الذي كرس له رواياته التي استخرجته من ظلام أزقة الحارات إلى نور العالمية. لكن هذه الروايات تسببت للكاتب في علاقة متوترة مع النظام، وبشكل خاص مع السادات، الذي كانت له عدة مآخذ على ما يكتبه محفوظ.

أول مرة قابل نجيب محفوظ، الضابط محمد أنور السادات كانت في مكتب إحسان عبدالقدوس في مبنى روز اليوسف بشارع القصر العيني، كانت قد صدرت رواية “خان الخليلي” في الكتاب الذهبي، وذهب نجيب محفوظ ليحصل على أجره من الرواية، وفجأة دخل الحجرة شخص أسمر بشعر مجعد، وجلس على المكتب. إحسان عرفه بمحفوظ وقال إنه عضو مجلس قيادة الثورة.

ومن خلال الحوار عرف نجيب محفوظ أن أنور السادات قرأ “خان الخليلي”. قال له ضاحكا “أنتَ تعبتني قوي بأحمد عاكف بتاعك ده، وأحزنتنا ببطل خان الخليلي، ده أنت عاوزنا نعيط (نبكي)”.

علاقة متوترة

في مرة ثانية كان محفوظ مدعوا إلى اجتماع لجنة برئاسة أنور السادات، تابعة للمؤتمر الإسلامي، وشارك فيه خالد محيي الدين ويوسف السباعي وطه حسين.

بعد نهاية الاجتماع سلّم السادات على المجموعة، ثم أمسك نجيب محفوظ وقال له “أنا زعلان منك”. قال محفوظ “ليه لا سمح الله”. قال السادات معاتبا “كيف تجعل الضابط في رواية ‘بداية ونهاية’ ينتحر.. أنت لا تعرف أن الضابط هو نحن، وأنه كان يجب أن يعمل ثورة مش ينتحر. ناس من الشعب وعملوا ثورة. كيف ينتحر؟”.

نجيب محفوظ ساند بدايات السادات وهاجم نهاياته أو خطواته التي جاءت بعد حرب أكتوبر لأنها حادت عن المسار

فتعجب محفوظ من السادات لأنه يلومه على تفكير شخصية في الرواية. كان نجيب محفوظ يريد أن يقول له إنه لم ينتحر، وإنما استولى على الحكم بكل عيوبه.

يقول محفوظ إن رواية “بداية ونهاية”، التي صدرت طبعتها الأولى في عام 1949، عن العائلة التي ضحت بكل شيء من أجل أن يكون أصغر أبنائها ضابطا محترما، ومع ذلك استطاع بأنانيته المفرطة وانتهازيته الشديدة أن يحطم كل شيء، ويدفع عائلته إلى الهلاك، ثم يفكر هو في الانتحار دون أن يجرؤ على التنفيذ. وهو ما لم يلتفت إليه السادات أثناء قراءة الرواية.

ثم التقى نجيب محفوظ أنور السادات لقاء عابرا، عندما كان عضوا في اللجنة التي شكلت قبل المؤتمر الوطني الذي أقر الميثاق عام 1962، يومها كتب محفوظ اقتراحا في ورقة، وأرسلها إلى رئيس الاجتماع، وكان السادات، طالب فيها بالإفراج عن المعتقلين، خاصة الشيوعيين منهم، وكتب أيضا عن موقف الأقباط، وما يجب أن يكونوا عليه.

لاحظ محفوظ أن الجلسة رُفعت دون تلاوة الورقة التي أرسلها للسادات. وبعد أن انفض الاجتماع، وبينما كان محفوظ يسير بجوار القاعة، جاءه شخص وقال “إن الرئيس يطلبك” (يقصد رئيس الاجتماع) ذهب محفوظ إلى مكتب السادات، وكان يجلس معه إحسان عبدالقدوس. فأخرج السادات الورقة وقال لإحسان “شوف صاحبك العبيط كاتب إيه؟ أنا لو قلت ما في هذه الورقة كان خرج من الاجتماع على سيوه (سجن سيوه) ولم يكن أحد سيعرف له طريق جرة”. وقطّع الورقة.

يومها تأثر نجيب محفوظ كثيرا من موقف السادات، فلم تكن هناك صلة سابقة بينهما تبرز إخفاء الورقة، أيضا حرصه عليه يعتبره محفوظ دينا في عنقه.

ويتذكر محفوظ أن السادات اتصل أكثر من مرة بعلي حمدي الجمّال رئيس تحرير جريدة الأهرام محتجّا على بعض وجهات نظر الكاتب التي أودعها في روايات مثل “أهل القمة” و”الحب فوق هضبة الهرم”، وكذلك في مقالات مباشرة أكثر من مرة. وعقب حوادث الثامن عشر والتاسع عشر من يناير 1977 المشهورة خطَّأ محفوظ الحكومة حتى اضطر ممدوح سالم (رئيس الوزراء في عهد السادات حينذاك) أن يرد عليه في الأهرام.

فيلم "ميرامار" الذي كتبه محفوظ خضع لرقابة السادات الذي رفض فقط جملة واحدة تمس من المرأة

ويرى نجيب محفوظ أن الرئيس السادات حقَّق مكاسب وصعد إلى القمة، لكنه فقد الكثير بسبب اعتقالات الخامس من سبتمبر 1981. ودافع محفوظ في مقال صريح عن أساتذة الجامعة الذين نقلوا إلى أعمال أخرى، ويشهد بذلك الدكتور عبدالمحسن طه بدر أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة، وقد زار محفوظ في كازينو قصر النيل شاكرا أمام أعضاء الندوة، رغم أنه كان ينقد محفوظ بقسوة في كتابه “نجيب محفوظ: الرؤية والأداة”.

وعلى الرغم من هذا فإن محفوظ يؤكد أن قيمة السادات تزداد مع مرور الزمن.

مثل أبطال التراجيديا

قبل عرض فيلم “ميرامار” عام 1969، كانت هناك مخاوف من الرقابة، وقرر الاتحاد الاشتراكي مصادرة الفيلم باعتباره ضد الرئيس جمال عبدالناصر، ولكن عبدالناصر انتدب أنور السادات ليراه، ويقول رأيه فيه، فأشاد السادات بالفيلم، وقال إنه “مع عرض الفيلم كاملا باستثناء جملة واحدة”. هنا التفت السادات إلى السيدة حكمت أبوزيد معاتبا “كان لازم تعترضي عليها وتطالبي بحذفها يا حكمت!”، وكان ذلك في وجود اعتدال ممتاز مدير الرقابة في ذلك الوقت.

كانت الجملة تتضمن وصفا قاسيا للمرأة “الستات دول زي الحيوانات”، رأى السادات أنها الجملة الوحيدة في الفيلم التي تستحق الحذف. وعُرض الفيلم رغم أنه يحمل على الاتحاد الاشتراكي ورئيسه علي صبري.

وعند وفاة الرئيس جمال عبدالناصر في الثامن والعشرين من سبتمبر 1970، يتذكر نجيب محفوظ أن التلفزيون أعلن أن أنور السادات (نائب رئيس الجمهورية) سيُلقي بيانا، وكان الشعب لم يعرف بعد أن عبدالناصر قد مات.

وما إن شاهد محفوظ وجه أنور السادات على التلفزيون حتى قال “الريس مات”. فلم ير في حياته وجها كوجه أنور السادات في هذا اليوم الذي كان مكتوبا عليه الموت بخط فارسي، كان مرهقا مكتبئا، كانت عيناه شاردتين.

وعندما كتب نجيب محفوظ “أمام العرش” رأى أن السادات وعبدالناصر كلاهما بطل مأسوي، مثل أبطال التراجيديا اليونانية، وانتهى كلاهما نهاية مأسوية، فقد ولّيَ السادات نيابة عن عبدالناصر، ثم قتل كذلك نيابة عنه.

ويؤكد أن عبدالناصر كان نصيرا للفقراء، وألغى الطبقات، لذلك فإن المصري العادي لا ينسى هذا، ويغفر كل الأخطاء، لذلك نجد في كل مظاهرة يحيون عبدالناصر برفع صوره والهتاف باسمه، وكان يجب أن يأخذ السادات مكانه إلى جانب عبدالناصر، لكن للأسف لم يحدث هذا، فالفقراء لم يجدوا نصيرا لهم في تاريخهم مثلما وجدوه في عبدالناصر، وإذا كان هناك مَن اضطهدوا في أيامه، فهؤلا من المثقفين.

ويرى محفوظ أنه بمرور الزمن سيحب الشعب المصري السادات، كما يحب عبدالناصر. والتاريخ لن يترك خيرا فعله عبدالناصر أو السادات من أجل الشعب، لأنهما قدَّما له أعمالا عظيمة.

رواية عن السادات

كاتب أخرج سكان الحارات إلى نور العالمية (لوحة للفنان صلاح عناني)
كاتب أخرج سكان الحارات إلى نور العالمية (لوحة للفنان صلاح عناني)

عند اغتيال الرئيس السادات في السادس من أكتوبر 1981 كان نجيب محفوظ وعائلته في الإسكندرية، يقول “نزلنا أنا وابنتي إلى وسط البلد لنذهب إلى السينما، أجلست فاتن (فاطمة) في محل مقابل لسينما مترو حيث طلبتْ آيس كريم، خطوت الشارع إلى السينما لشراء التذاكر، ما إن وصلت إلى السينما حتى وجدتها مغلقة، لم أفهم كيف تُغلق السينما أبوابها”.

 وتابع “ذهبت إلى أحد الباعة الذين يفترشون الطريق، كان يبيع الفول السوداني واللب، قلت مستنكرا إن السينما مغلقة! قال: طبعا. سألتُ: لماذا؟ قال: الرئيس قُتِل. قلت غير مصدق: أي رئيس؟ الرئيس السادات؟ قال: نعم. عدت إلى ابنتي مهرولا، وعلامات الذهول على وجهي لأقول لها الخبر، قالت لي: لقد أخبرني الجرسون بذلك منذ لحظات”.

يقول محفوظ “يوم قتل أنور السادات حدث لي نوع من التأمل المأسوي، هذا الرجل الذي حقق النصر والسلام، والنهاية مرعبة”.

ويستطرد محفوظ “قيل إن نبوءة مصرع السادات موجودة في رواية ‘ليالي ألف ليلة’، والحمد لله أن هذه الرواية نُشرت في جريدة ‘مايو’ (جريدة السادات) فلو أنها تأخرت أسبوعين لم تكن ستنشر، وقد كتبتها قبل مصرع السادات بسنة أو بسنتين”.

وعندما علمت السيدة جيهان السادات أن نجيب محفوظ يكتب رواية عن مقتل الزعيم (يوم قتل الزعيم)، اتصلت به طالبة زيارته، فعرض عليها أن يذهب هو إليها في منزلها بالجيزة، احتراما لها كسيدة، ورفض فكرة أن ترسل له سيارتها الرئاسية، لأنه من المشَّائين، ولقرب المسافة بين شقته بالعجوزة والقصر الذي تقيم فيه جيهان السادات.

يقول محفوظ “قابلتني مقابلة لطيفة جدا هي وأولادها، بالرغم من أنها كانت في حالة انزعاج من أمر الرواية المكتوبة عن زوجها”.

سألته عما هو مكتوب، طلبت تغيير عنوانها، وإرجاء نشرها إكراما لذكرى زوجها. وافق محفوظ على فكرة التأجيل، وقال لها “إنه نص روائي، وليس كتابا سياسيا، ولا توجد في الرواية أسماء على الإطلاق”. وانتهى الأمر عند هذا الحد. وطلبت منه -بعد ذلك- رواية “أولاد حارتنا” وذهبتْ إلى منزله لأخذها وشكرته.

بين البدايات والنهايات

يوضح نجيب محفوظ أن رئاسة الجمهورية أيام السادات كانت تتصل به، ويقولون عندنا الجنرال فلان (من إسرائيل) سيأتي لمقابلتك، ويأتي إلى البيت مع الحرس الجمهوري. كان مكتب السادات هو الذي يتصل به. وبهذه الطريقة زاره مليسون وماتيو بيريد، وجاءته بعثة تلفزيونية صورته في بيته، أكثر من مرة، وكان محفوظ  يتحدث دائما معهم عن حقوق الفلسطينيين.

وعندما طلب السفير الأميركي في القاهرة دانييل كروتز (1998 – 2001) مقابلة نجيب محفوظ -بعد أن التقى عددا من المثقفين المصريين- وجده يسأله لماذا ساند بدايات السادات، وهاجم نهاياته أو خطواته التي جاءت بعد حرب أكتوبر؟ فقال له محفوظ “كنا نأمل في انفتاح يقوي الصناعة والتكنولوجيا، ولكن ما حدث لم يكن كذلك. لقد كان انفتاحا انتهازيّا. إنه انفتاح شارع الشواربي”. (كان السفير يتكلم بالإنجليزية  -رغم أنه يجيد التحدث بالعربية- ومحفوظ يتكلم بالعربية، وكان يقوم بالترجمة علي درويش وهو قصاص مصري يعمل في السفارة الأميركية بالقاهرة).

ويشير محفوظ إلى أنه في عهد الرئيس السادات رفض حالة اللاسلم واللاحرب التي كانت سائدة قبل حرب 1973، ووقّع على العريضة الشهيرة التي وقعها الكثيرون من الأدباء، وبسبب هذا الموقف اتخذت ضده بعض الإجراءات التي لم تتخذ في عصر عبدالناصر، فمُنع من الكتابة في الصحف، وحُظرت إذاعة أفلامه في التلفزيون. وكان موقفه صلبا واضحا لا يتزعزع.

ويقول “اتهموني بأني تجاوبت مع فترة عبدالناصر، وتجاوبت أيضا مع فترة السادات، والمسألة ليست بهذا الشكل، وتصويرها هكذا ينطوي على خطأ كبير. أنا كنت صوتا معارضا في عهد عبدالناصر، وأعمالي تدل على هذا، وكانت وجهة المعارضة الوحيدة في ما يتعلق بالحريات. أما إيجابيات الثورة، فكنا معها تماما، وحينما جاء السادات كنا معه في حالتي النصر والسلام، ولكن كل ما حدث بعد ذلك من ممارسات فترة الانفتاح كنتُ ضدها على طول الخط. وهذا الرأي نشرته في ‘يوم قتل الزعيم’ فلا يمكن اعتباري متجاوبا بلا قيد ولا شرط”.

11