صباح الدين أبوقوس

برحيل صباح الدين أبوقوس، يكون عقد الطرب العربي قد فقد واحدة من أواخر لآلئه، لكن عزاءنا أن صباح فخري، ترك وراءه إرثا فنيا لا يمكن أن يموت أو ينتهي أو يزول، وإنما سيبقى يملأ الدنيا، ويعيش في الأسماع والقلوب، ويرحل بين الأمكنة والأزمنة دون حدود، وذلك أعظم ما يمكن أن يطمح إليه أي فنّان في مسيرته.
رحل صباح فخري، وكان الآلاف في وداع جثمانه سواء في دمشق أو حلب، بينما كان هناك الملايين على امتداد الوطن العربي يبكونه في صمت التوقير والتقدير لعبقريته الفنية، ولما قدم طيلة مسيرته الخالدة من مواويل وموشحات وقدود حلبية وقصائد وأغان شعبية.
وجاءت لحظة رحيله لتذكّر الناس بأن هناك أساطين للطرب لا يمكن نسيانهم أو تناسيهم، فصباح فخري كوديع الصافي كناظم الغزالي كأبوبكر سالم كمحمد حسن كرابح درياسة كمحمد وردي كعمالقة وأهرامات الغناء المصري، يبقون ينابيع للجمال والحب والفن، ومنارات للإبداع والرقي والسمو، وهم وإن رحلوا بأجسادهم عن الدنيا، فإن حناجرهم ستبقى تبث روح الحضارة في الشعوب والمجتمعات.
غنى صباح فخري لأبي الطيب المتنبي وأبوفراس الحمَداني ومسكين الدارمي ولابن الفارض والروّاس وابن زيدون وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب ولفؤاد اليازجي وعمر أبوريشة وفخري البارودي ومصطفى عكرمة وغيرهم، فجعل من حنجرته بذلك محملا راقيا للشعر العربي، وأعطى للكلمة الصافية البليغة دورها الجوهري في الأغنية العربية، كما أهدى الموسيقى العربية وهجا استثنائيا وعبقا خاصّا سيبقى مرتبطا بشخصه ورصيده الفني.
كانت لي فرص للقاءات عدة بالراحل الكبير خلال زياراته المتعددة إلى تونس، وفي كل حديث معه، كنت أقف على مدى احترامه لفنه وجمهوره ودوره الثقافي، وعلى مقدار اعتزازه بهويته القومية والفنية والحضارية وبموقعه كفنان، استطاع أن يجمع العرب ومن يتكلمون العربية على صوت منذ خمسينات القرن الماضي، وكأن من يستمع إليه يعتقد أنه قادم من زمن الأساطير البعيدة.
يقال، ربما من باب المبالغة، إن أسرة صباح فخري اكتشفت جمال صوته وهو لا يزال رضيعا، ولكن المؤكد أنه حتى اللحظات الأخيرة من حياته التي امتدت 88 عاما، كان يتقن الغناء والحركة، وكان يتمنى لو أنه يتوفى على الركح في حالة من التجلي العظيم، لكنه ترجل وجناحاه عالقان في سماء النجاح والنجومية والتقدير والاحترام والإشادة بمنجزه الإبداعي.
وفق سجلات الحالة المدنية، فمن توفي هو صباح الدين أبوقوس، المواطن العربي السوري، لكن صباح الفنان الكبير الخالد أو قلعة حلب الثانية كما يسميه محبوه، لا يزال حيا، وسيبقى يعيش طالما هناك أذن تسمع وقلب ينبض وعقل يحلق في دنيا الجمال.