"أخوّة".. مسرحية متخيلة عن كسوف يمحو نصف البشرية

كارولين غييلا نغيان فرنسية من أصل فيتنامي، تخرّجت في جامعة نيس، قسم فنون الفرجة، وانضمت بعد التخرّج إلى المسرح الوطني بستراسبورغ، ثم مسرح الهضبة بباريس ومسرح تور وفالانس، قبل أن تنخرط في أوديون/ مسرح أوروبا بباريس، وشاوبونه ببرلين.
بدأت بإخراج أعمال كلاسيكية مثل “أندروماك” عن مسرحية لراسين، أو “حفل إيمّا” عن رواية فلوبير، ثم انتقلت إلى نصوص حديثة، مثل “هي تحترق” و”الحزن” ولاسيما “تذكّر فيوليتا” التي اقترنت باختيارها الجمع بين ممثلين محترفين وممثلين هواة.
بعد “سايغون” التي عادت فيها إلى ماضي مَنشئها فيتنام إبّان المرحلة الكولونيالية، تحاول نغيان في مسرحيتها الجديدة “أخوّة، حكاية فنتازية” أن تسبر المستقبل، عبر حكاية متخيّلة تمتدّ إلى القرن المقبل ويتردّد ذكرها بشتى اللغات.
تبدأ الحكاية بكسوف لم يدم أكثر من أربع دقائق، محا بغتة نصف البشرية ولم يبق من ذلك النصف أدنى أثر، وأرغم الناجين منهم على مواجهة آثار ذلك الاختفاء المباغت، ومحاولة فكّ لغز تلك الكارثة الغريبة.
ولملء ذلك الفراغ والمحافظة على ذاكرة ذلك الغياب، الفردية والجماعية، ابتكر الناجون نوعا جديدا من المراكز الاجتماعية، أطلقوا عليها “مراكز العناية والمواساة”، حيث يعالج البشر الغياب، ويقاومون سيلان الزمن، وامّحاء الذكريات، ويسردون حيواتهم. ومن خلال تنوّع تلك السرديات، تتحوّل المصائر التراجيدية إلى حكاية تُعيد بناء مستقبل ذي أصداء تكاد تكون ميثولوجية.
ولكي تقدّم نغيان صورة معبّرة عن جالية أو مجموعة بشرية فريدة ومتنوّعة في الوقت ذاته، أمضت نحو عامين في البحث عن ممثلين وممثلات، من أعمار مختلفة تتراوح بين العشرين والثمانين، منهم المحترف ومنهم الهاوي، قادرين على تقمّص شخصيات حكايتها الفنتازية.
وقد جعلت على الخشبة حاجزا مثّل صلة الوصل بين ما هو فائق الكبر وما هو فائق الصغر، بين مسار الكوسموس من جهة، وبين اختلاجات الروح من جهة ثانية؛ حيث يقوم تجهيزان متقابلان: شاشة مراقبة لكون يثير الشجن لكثرة آلام البشر التي شابته، يتوجه إليه الناجون بأنظارهم بمساعدة خبيرة من وكالة الفضاء الأميركية، وفي البال أمنية بأن يجدّ كسوف ثان يُعيد الأرض ومن عليها كما كانت، ويعود الغائبون إلى أهاليهم وأحبابهم. بل هم يشفعون أمانيهم باستعدادات حقيقية، حيث يسعون إلى إعداد العدّة لاستقبال العائدين، سواء بتزيين الوجهات بالشرائط الملونة وكلمات الترحيب، أو بطبخ الأطباق التي يرغب فيها الغائبون.
وفي الجهة المقابلة “كبينة رسائل” تسمح للناجين بتوجيه رسائل صوتية إلى الغائبين، التائهين في الكوسموس، بشرط ألاّ تتجاوز مدتها الدقيقة ونصف دقيقة، على أمل أن يسمعوها ذات يوم، ويتواصلوا معها.
وما بينهما تنساب آلام نساء ورجال ُيثقل الحزنُ، الذي سبّبه اختفاء أقربائهم، خفقانَ قلوبهم، فيحاولون التكاتف والتعاون قدر جهدهم، ومواساة بعضهم بعضا كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا، لعلهم يعطون لحياتهم معنى.
وليس المترقبون جميعا في نفس الاستعداد النفساني، فمنهم من يتشوّق بقوة، بلا كلل ولا ملل، ومنهم من غزاه السأم فلم يعد يجد لانتظاره معنى؛ ومنهم من يرغب في المضي قدما عسى أن يجد للغز الاختفاء تفسيرا، أو يبتكر وسيلة للحاق بمن اختفوا ونجدتهم، ومنهم المستسلم لأمره، القانع بقدره.
وقد استفادت نغيان في صياغة هذا العمل من لقاءات أجرتها في شاوبونه ببرلين مع من يمارسون الأخوّة ممارسة فعلية، أمثال الطبيبة الشّرعية الإيطالية كريستينا كتّانيو، المكلفة بالتعرّف على جثث المهاجرين الغرقى في المتوسط، ومكتب ربط العلاقات العائلية في الصليب الأحمر الذي يساعد الأشخاص الذين فقدوا أقرباء على تقصّي آثارهم وأخبارهم، والمخرجة الإسبانية ألمودينا كارّاثيدو التي صوّرت في “صمت الآخرين” شهادات الناجين من الجحيم الفرانكي.
وخلقت من كل ذلك ملامح عن ألم الفقد، وأمثلة حية عن سبل التعاون لتجاوز تلك المحنة، فشكّلت نوعا من الجسد الاجتماعي، يتجاوز الحدود الجغرافية واختلاف الألسن.
السينوغرافيا جيدة، جمعت بين فضاء “سايغون” والمناخ الضوئي لـ”حزن”، بيد أن الأداء اختلف من ممثل إلى آخر، ولئن كان للزوجين أنْه وهييب تران نغيا، ونجمتي الرّاب في سايغون نانيي وشافيرا، حضور بارز ومقنع، فإن آخرين اعترى أداءَهم بعضُ الخلل في البناء الدرامي، ربما نتيجة رتابة الخطاب أحيانا، وثقل النص في مواضع كثيرة لا تجدّ فيها الأحداث ولا تتواتر بشكل يخرج المتفرّج من وضعه المريح ليتطلّع إلى ما لا يتوقّع، لاسيما أن العرض فاق الثلاث ساعات.
ويبقى السؤال عن مطمح هذا العمل وغاياته. هل أرادت المؤلفة/ المخرجة أن تؤكّد على ضرورة عدم فقدان الأمل أيا ما تكن الكوارث، أم اقتراح أساليب مواساة من يعانون ألم الفقد، أم تقديم سبل إحياء حضور الراحلين في الذاكرة الفردية والجماعية، أم هي مجرد رحلة فنتازية تنطلق من واقعنا الراهن لتتوق إلى جانب المستقبل الكامن في حاضرنا؟ قد يكون كل ذلك في الوقت ذاته.